مزار شريف .. تجويع وإعدام وملاحقة .. فظائع ترتكبها طالبان

  • من يحكم مزار شريف يمكنه السيطرة على خطوط التجارة وشبكات الطرق والأرباح الجمركية
  • طالبان ورثت الحكم في مزار شريف عن نظام فاسد اعتمد على الرشاوى في كل أرجائه
  • أهالي القرى سمحوا لطالبان بالدخول إلى قراهم، ووفروا المأوى والذخيرة لهم بسبب فساد الحكم آنذاك

 

مزار شريف .. هي نفس البقعة التي احتفلت في السابق بالانتصار على طالبان، لكنها تحولت اليوم إلى دليل على الفظائع التي ترتكبها طالبان بعد استيلائها على السلطة، وفقا لتقرير لصحيفة “الغارديان” البريطانية.

رابع أكبر مدينة في أفغانستان، تشتهر ببوابتها الزرقاء التي شيدت احتفاء بالقائد العسكري أحمد شاه مسعود، أحد أهم المقاومين لطالبان في التسعينيات، وفيما لا تزال البوابة صامدة في المدينة إلا أن محيطها تغير بعودة طالبان إلى الحكم بعد الانسحاب الأمريكي في أغسطس الماضي.

تمتلك مزار شريف موقعا استراتيجيا فالجزء الشمالي منها يقع على الحدود بين تركمانستان وأوزباكستان وطاجكيستان، ومن يحكم المدينة يمكنه السيطرة على خطوط التجارة وشبكات الطرق والأرباح الجمركية.

كما أنها محاطة أيضًا بالأراضي الزراعية الخصبة ، التي تسقيها الأنهار من مرتفعات وسط وغرب أفغانستان، والتي تغذي شبكة قديمة من قنوات الري، وتشتهر المناطق الزراعية فيها بإنتاج القطن، وزيت بذور الكتان، والبطيخ، وصوف كاراكول، وما يزعم السكان المحليون أنه أفضل حشيش في أفغانستان.

الأزمة الاقتصادية الحادة التي أعقبت سيطرة طالبان عرّضت نصف سكان أفغانستان لخطر المجاعة، وفقًا لبيانات الأمم المتحدة، فعندما فر أمراء الحرب الذين سيطروا على المنطقة ، تركوا وراءهم موظفين حكوميين لم يتلقوا رواتبهم لشهور و أجبروا على بيع ممتلكاتهم لإطعام أسرهم الجائعة.

فساد نظام الحكم

وتقول الصحيفة إن طالبان ورثت الحكم عن نظام فاسد اعتمد على الرشاوى في كل أرجائه، وأن مقابلة أي شرطي، بمرتبة منخفضة، كان أمرا معقدا دون مقابل مالي.

ويستعرض تقرير الصحيفة البريطانية مشاهد لأشخاص يأتون لـ “أبو إدريس”، رئيس قسم الشرطة في المدينة، الذي يستمع للشكاوى واحدة تلو الأخرى، ويصدر أحكامه، غير القابلة للتفوض أو الاستئناف، بجمل مختصرة.

أبو إدريس يجلس مفكرا في القضايا التي تمر عليه، يأتيه في نهاية اليوم رجل مسن، يجلس أمامه ويشكو اختفاء ابنه في نقطة تفتيش تابعة لطالبان، يمسك رئيس الشرطة باللاسلكي ويتحدث مع موظفيه، ليردوا بالتأكيد على أن ابن المسن اعتقل بعد العثور على مشروبات كحولية في سيارته.

يقول المسن: “احتكم لابني وفقا للشريعة”، ويرد أبو إدريس مبتسما: “لا تقلق لن نقتله، سنفتح تحقيقا في الحادثة ونخبرك بالنتائج”.

الأحكام القضائية هذه تعتمد مزيجا بين التقاليد وتفسيرا متطرفا للشريعة الإسلامية، وفقا لما ذكرته “الغارديان”، وهذا أمر ملفت بالأخص في مزار شريف، التي كانت تعتبر من أكثر المدن انفتاحا في التسعينيات.

الصحيفة أوضحت أن أمراء الحرب الذين هزمت ميليشياتهم طالبان، مثل عبد الرشيد دستم وعطا محمد نور سيطروا على المدينة وتدفقت الأموال عليها بسبب الدعم الأجنبي وانتعاش الاستثمار.

ومع ذلك، في أغسطس الماضي، سقطت مزار في يد طالبان حتى قبل مدن أخرى في معقل طالبان الجنوبي، مثل قندهار

وتشير الصحيفة إلى أن السبب، في جزء كبير منه، يعود للغضب المحلي من الطريقة التي كانت تُدار بها مدينتهم في العشرين عاما الماضية، وكان على القادة في ذلك الوقت أن يلعبوا دورا مهما في أفغانستان الديمقراطية الجديدة.

وأوضحت الغارديان أن “عطا” وبعد أن أصبح حاكما في عام 2004، شرّع في إدارة مزار شريف كإقطاعية له لمدة 16 عاما بمرور الوقت، ثبت أن جشع أمراء الحرب وفسادهم أديا إلى تدميرها وهو أمر اعتبر أداة تجنيد فاعلة في أيدي طالبان.

ويروي باباك، قائد الشرطة السابق لصحيفة الغارديان حجم الفساد والجشع اللذين استشريا في عهد محمد نور، ويقول إنه كان يتساءل إن كانت طالبان ستحترم تعهدها بالحفاظ على الأمن، أم إن كانت “حلقة الانتقام” ستتكرر مجددا في المدينة، التي شهدت عمليات محاسبة.

“الانتقام” من النظام الفاسد

باباك، طاجيكي الأصل، قاتل لأول مرة ضد طالبان، في عام 1998، عندما شنت طالبان هجوما كبيرا للاستيلاء على مزار شريف ، قاد وحدة صغيرة مؤلفة من أقاربه وزملائه القرويين، الذين حاربوا ضد السوفييت في السابق.

وفي عام 2001 ، كان باباك جزءا من القوة المدعومة من الولايات المتحدة التي هزمت طالبان في مزار شريف، لكن منذ أواخر عام 2010 فصاعدا، بصفته مسؤولا حكوميا محليا وقائدا عسكريا، رأى طالبان تشق طريقها ببطء في المجتمعات الريفية.

وقال: إن أهالي مزار شريف كانوا يسمحون لطالبان بالدخول إلى قراهم، ووفروا المأوى والذخيرة لهم، كنوع من الانتقام من الحكومة المركزية الضعيفة والنائية، وكحماية من السلطات السياسية المحلية الفاسدة.

إذا كنتَ قرويا فقيرا ولم تكن لديك صلات في الحكومة، فستحصل على عقوبة كبيرة لارتكاب جريمة بسيطة

 

“إذا كنتَ قرويا فقيرا ولم تكن لديك صلات في الحكومة، فستحصل على عقوبة كبيرة لارتكاب جريمة بسيطة، يمكن أن يتم الاستيلاء على أرضك بسهولة من قبل شخص لديه صلات، لكن قانون طالبان يضمن للقرويين سلامة حياتهم وممتلكاتهم، كانت طالبان تحل المشاكل بسرعة كبيرة، هذه هي الطريقة التي جمعوا بها العديد من الأشخاص من حولهم في العامين الماضيين ، وكانوا يؤثرون حتى على أقاربي”.

ويضيف “كان لدي 100 جندي في مجموعتي، لكنهم لم يحصلوا على رواتبهم، إلى أن اضطررت إلى اقتراض المال، واضطر الجنود لبيع ذخائرهم، لطالبان التي كانت تستأجر شخصا داخل القواعد لجمع المعلومات وإقناع الجنود بعدم القتال.

جرائم طالبان

في الجانب الآخر من مزار شريف قرب مجمع شرطة أبو إدريس، كانت امرأة تُدعى سهيلة مختبئة في منزل أحد أقربائها، كانت قد تلقت مؤخرًا مكالمات هاتفية تهديدية من طالبان، الذين اتهموها بالتجديف وتحفيز النساء على مخالفة تعاليم الشريعة، لأنها كانت تدير مؤسسة حكومية مكلفة بتمكين المرأة.

هذه هي المرة الثالثة، خلال الثلاثين عاما الماضية من الحروب الأهلية الأفغانية، التي اضطرت فيها سهيلة إلى الفرار من منزلها بحثا عن الأمان.

أعدمت طالبان زوج سهيلة، الذي أنجبت منه طفلين، عندما احتلت مزار شريف في عام 1998 حيث سار المقاتلون في الشوارع ، وأطلقوا النار على كل ما يتحرك.

ثم بدأوا في تمشيط المدينة، والانتقال من منزل إلى منزل، والبحث عن رجال من أقلية الهزارة في أفغانستان، وخصيهم ثم إعدامهم انتقاما لمذبحة مقاتلي طالبان في العام السابق، و أصبحت الحرب في الشمال طائفية بشكل متزايد، حيث ذبحت طالبان المدنيين الطاجيك والأوزبك القرويين.

طالبان، التي وصفت مزار شريف بـ “مركز الجاهلية” شرعت في انتقام رهيب من شعبها، حيث أغلقت المدارس والجامعات، وفُرضت اللباس الكامل على النساء، واقتيد الرجال تحت تهديد السلاح إلى المساجد وقت الصلاة.

سهيلة توجهت وابنتيها الرضيعتين، مع أفراد عائلتها الآخرين، إلى الجبال في منطقة شاركنت، وبنوا مأوى من أغصان الأشجار، وبقايا القماش والأغطية البلاستيكية، عاشت على كميات ضئيلة من المساعدات الغذائية التي وزعها عمال المنظمات غير الحكومية، وجمعت الأخشاب لحرقها متوسلة الرعاة للحصول على الحليب. لكنها كانت ترى أن أطفالها يتضورون جوعا، فارتدت البرقع، وهي تحمل ابنتيها، وعادت إلى المدينة. أخبرها أحد أقاربها أن طالبان صادرت منزلها لأنه كان ملكا لأحد قادة العدو.

وفي عام 2001، مع الدعم الأميركي الذي ساهم في القضاء على طالبان، استمعت سهيلة بينما كانت محتمية بشقتها إلى أصوات الغارات في الخارج وبعد انتهاء القتال خرجت، وكأنه “أفرج عنها من السجن”، وفقا لتعبير الصحيفة، لتنضم إلى خدمات المجتمع المدني.

أدارت برامج بمساعدة المجتمع الدولي لتوزيع المساعدات ومساعدة النساء على بناء حياتهن الممزقة، بعد أن أصبح بإمكانهن العمل والدراسة، وتمكنت ابنتاها أخيرا من الالتحاق بالمدرسة.
ومع عودة طالبان للحكم من جديد آثرت سهيلة الاختباء، وتقول: “حتى التنفس أصبح صعبا بالنسبة لي”، وبينما سُمح للمعلمات بالعودة إلى العمل، قالت إن معظم موظفي الحكومة أمثالها طُلب منهم البقاء في المنزل، وتم اعتقال بعض الأخصائيين الاجتماعيين والنشطاء، في حين اختفى آخرون.

وبعد 23 عاما من مقتل زوجها من قبل طالبان، تجد سهيلة نفسها في الوضع ذاته، حيث لا تستطيع الذهاب إلى السوق لعدم وجود ولي أمر لها: “كل ما حققناه كنساء في العشرين عاما الماضية اندثر”.

تواصلت “الغارديان” مع سهيلة في مخبئها، وسألتها عما إذا كانت تعتقد أن طالبان قد تغيرت، لتجيب في رسالة صوتية: “أنا حساسة للغاية حتى لكلمة طالبان”.

وتضيف “إنهم نفس طالبان، لكنهم يدركون أنهم إذا حاولوا تنفيذ أي من سياساتهم الحقيقية، فسوف يحتج الناس وينشرون على وسائل التواصل الاجتماعي. في حكومتهم الأولى لم يهتموا بما قالته المنظمات الدولية أو وسائل الإعلام، لكنهم الآن حساسون للغاية بشأن صورتهم العامة.

ناشطون ومدافعون عن حقوق الإنسان يختفون في منتصف الليل. إن طالبان بحاجة ماسة إلى الاعتراف بشرعيتها من المجتمع الدولي، لذا مهما كانت الفظائع التي يرتكبونها ، فإنهم يفعلونها سرا”.