هل تخدم عمليات داعش مصالح ولاية الفقيه؟

  • سقط خلال الهجوم على المرقد في مدينة شيراز 15 قتيلا وعدد من الجرحى
  • لا يوجد فرع لداعش اسمه “ولاية فارس”

أثار ظهور اسم داعش فجأة في إيران علامات استفهام وتعجُب كثيرة، لذا فإن من الأهمية بمكان اللجوء إلى قراءة المشهد العام وإلقاء الضوء على السياق الذي لا بد من إدراك أبعاده لفهم حقيقة الأمر ومن المستفيد من وراء ذلك.

ورطة النظام الإيراني

تشهد إيران اليوم حدثاً استثنائياً؛ فمع اشتعال نيران الغضب الشعبي ضد النظام الإيراني وعجزه عن كبح الاحتجاجات، يشعر قادة البلاد بتهديد وجودي خاصةً وأن المتظاهرين هذه المرة لا يطالبون بتعديل سلوك السلطة بل برحيلها فوراً، ولم تُجد محاولات تهدئة الجماهير وخداعها، ولم يفلح القمع العنيف والقتل العشوائي في وأد التظاهرات السلمية.

وما إن تراجع زخم الاحتجاجات بعض الشيء وبدأ القادة الأمنيون يُهونون من شأنها، حتى عادت قوية من جديد بمناسبة أربعينية الفتاة مهسا أميني، التي أشعل مقتلها هذا الغضب الشعبي الهادر، وتصاعدت المواجهات بين قوات الأمن وحشود المحتجين في أنحاء البلاد وخاصةً عند مرقد مهسا بمدينة سقز الذي تحول إلى مصدر إلهام للثورة.

وأتت أربعينية مهسا لتجدد قوة وضراوة الاحتجاجات في تذكير بأحداث الثورة الإيرانية نهاية السبعينات التي أطاحت بنظام الشاه محمد رضا بهلوي وأتت بالنظام الحالي، إذ كانت أربعينيات قتلى التظاهرات الشعبية حينذاك تشكل موعداً تلقائياً لتصعيد الاحتجاجات ضد النظام الملكي، واستمر الأمر كذلك حتى رحل الشاه بعدما عجز عن إيقاف تجدد الحراك، وهو ما أدركته السلطة الحالية ووعته جيداً وعلمت أن مصيرها بات متوقفا على مدى نجاحها فى منع تجدد أعمال الاحتجاج.

متظاهرون يدعمون النساء في إيران يشاركون في احتجاج بعد وفاة مهسا أميني، في أوتاوا، أونتاريو، كندا، 29 أكتوبر، 2022. تصوير: سبنسر كولبي - رويترز

متظاهرون يدعمون النساء في إيران يشاركون في احتجاج بعد وفاة مهسا أميني، في أوتاوا، كندا، 29 أكتوبر، 2022 (رويترز)

فبعد أن خرج المتظاهرون للمطالبة بحق مهسا، إذا بهم اليوم يطالبون بحقوق مهساوات أخريات قُتلن على أيدي ميليشيات الباسيج والقوات النظامية، لكل منهن مَن يطالبون بثأرها وإحياء أربعينيتها، مما يعني أن مراهنة الأجهزة الأمنية على فتور الحالة الثورية بمرور الوقت كما وقع في كل المرات السابقة لم تعد مُجدية، فاحتجاجات اليوم ليست تظاهرات مطلبية يمكن إسكاتها بتخفيض الأسعار أو دفع أو رفع الرواتب بل تستهدف منذ يومها الأول نزع عمامة الولي الفقيه عن رأس السلطة.

فتفتق ذهن النظام عن اللجوء إلى حيلة قديمة استخدمها مراراً هو وحلفاؤه حين يعجزون عن مواجهة المطالب الشعبية فيلجأون إلى شيطنتها ووصمها بالإرهاب؛ فجاء الهجوم المفاجئ على مسجد شاه جِراغ في مرقد أحمد بن موسى الكاظم، ابن الإمام السابع لدى الشيعة وأخو الإمام الثامن علي بن موسى الرضا، واللافت أن الهجوم وقع مساء الأربعاء ويالها من مصادفة مقصودة.

داعش وإيران

سقط خلال الهجوم على المرقد في مدينة شيراز 15 قتيلا وعدد من الجرحى، وأعلن تنظيم داعش الإرهابي مسؤوليته عنه في بيان على قناة منسوبة له على تطبيق تيليجرام، لكن قبل هذا التبني الرسمي من قِبل داعش، نشرت جهة مجهولة نسخة مختلفة تنسب الهجوم لداعش أيضاً وأنه من تنفيذ فرع “ولاية فارس” بالتنظيم الإرهابي بتاريخ 30 ربيع الأول وهو موعد خطأ، والحقيقة أنه لا يوجد فرع لداعش أصلا اسمه “ولاية فارس”، كما أن فرع “ولاية خراسان” الذي ينشط في الجوار لا ينفذ هو ولا غيره هجمات داخل إيران.

مسرحية داعش في أربعينية مهسا أميني

ثقب رصاصة بعد هجوم على ضريح في شيراز، إيران، 28 أكتوبر، 2022 (رويترز)

ويوم الجمعة أعلن الإعلام الرسمي الإيراني مجدداً أن استخبارات الحرس الثوري أحبطت عملاً إرهابياً آخر في مدينة شيراز أيضاً، وتم القبض على “إرهابي” انتحل شخصية عامل نظافة حاول وضع قنبلة حارقة في حاوية قمامة بشارع معالي آباد لكنه فشل بسبب يقظة الشرطة.

وفي سياق عرض وكالة الأنباء الإيرانية الحكومية (إرنا) لهذا الخبر وصفت شارع معالي آباد بأنه “أحد البؤر الأولى لأحداث الشغب الأخيرة في مدينة شيراز”، في محاولة لربط التظاهرات بالإرهاب.

وطوال السنوات الماضية لم يرد ذكر لعمليات لداعش في إيران سوى مرتين؛ إحداها في سبتمبر/ أيلول عام 2018 حين أعلنت المقاومة في إقليم الأحواز العربي المُطالب بالاستقلال مسؤوليتها عن الهجوم على عرض عسكري للحرس الثوري الإيراني، لكن سرعان ما تبنى داعش الهجوم وتوعد طهران بهجمات أخرى-لم تحدث بالطبع-، ونشرت وكالة أعماق التابعة لداعش تسجيلاً مصوراً يُظهر رجالاً يُفترض أنهم في طريقهم لتنفيذ العملية.

وحينها جاء تبني داعش لذلك الهجوم لتشويه الحركات الأحوازية ووصمها بالإرهاب، ومنع استغلال الواقعة لتسليط الضوء على مطالب ومظالم الشعب العربي الأحوازي، مما أظهر حجم التواصل الكبير بين داعش وطهران واستعداد التنظيم الإرهابي لخدمة مصالح الولي الفقيه عن طريق تبني هجمات ليست له علاقة بها.

والموقف الآخر كان في يونيو/ حزيران 2017 حين أعلنت طهران عن هجمات غامضة لداعش بعد سنوات من انتشار التنظيم في الدول المجاورة وتجنبه الاقتراب من إيران مما عزز من مصداقية الاتهامات لها بدعم الإرهاب، فساهم هجوم 2017 الغامض في مساعدة طهران على التنصل من دعم الإرهاب.

وهكذا كانت الوقائع الثلاث بمثابة الاستثناء الذي يؤكد القاعدة؛ أي أن التوقيتات والملابسات المريبة لتلك الهجمات الداعشية المزعومة عززت من كشف علاقة التخادم بين داعش ونظام الولي الفقيه بدلاً من نفيها.

مسرحية داعش في أربعينية مهسا أميني

وجاءت الإعلانات الأخيرة عن الأعمال الإرهابية في شيراز عاصمة محافظة فارس ضمن استراتيجية واسعة متعددة الجوانب للتعامل مع التظاهرات الشعبية التي امتدت من أقصى البلاد إلى أقصاها؛ ففي مناطق الأكراد غرب إيران خرجت أكبر التظاهرات غضبًا للفتاة الكردية مهسا أميني، ومن هناك انتشرت أعمال الاحتجاج في سائر الأنحاء، فلجأ النظام إلى الادعاء بأن تنظيمات انفصالية كردية مقيمة في إقليم كردستان العراق (مثل حدك وكومله) تشعل الاحتجاجات من وراء الحدود، وقصَفَ الإقليم بعنف بالصواريخ والمدفعية.

وفي بلوشستان جنوب شرق البلاد حيث وقعت أعنف الاشتباكات وقُتل عدد كبير من الأهالي زعم السلطات وقوع هجوم لجماعات انفصالية سنية وهو ما نفاه إمام أهل السنة في زاهدان إيران، مولوي عبد الحميد، مؤكداً وقوع مجزرة للأهالي العزل لا دخل للجماعات المسلحة بها.

وأمام انتفاض مناطق القومية الأذرية شمال غرب البلاد، نفذت القوات الإيرانية تدريبات عسكرية استفزازية على حدود أذربيجان التي يعدها الأذريون وطنهم الأم، ونشرت جهات مقربة من الحرس الثوري تهديدات باحتلال منطقة نخجوان بأذربيجان.

أما في مناطق القومية الفارسية والأغلبية الشيعية فردد النظام حجج مختلفة حيث لا توجد جماعات انفصالية فارسية ولا تنظيمات شيعية مسلحة، فلجأ النظام إلى محاولة “احتواء” التظاهرات وكان اللجوء إلى العنف أقل منه في المناطق الأخرى، وفي هذا السياق يمكن قراءة ادعاء هجوم داعش على شيراز عاصمة محافظة فارس أبرز معاقل المكون العرقي والمذهبي المؤيد للنظام.

إيران ليست سوريا!

ركزت الدعاية الرسمية على شيطنة الاحتجاجات ووصمها بالإرهاب، وأصدرت وزارة الأمن الإيرانية واستخبارات الحرس الثوري بيانا توضيحيا مشتركا يُفترض أنه يتضمن خلاصة حصيلة “الرصد الاستخباري الدقيق والمستمر خلال اكثر من عام”، ورد فيه أنه تم اكتشاف مشروع لتدمير البلد -وليس تغيير النظام- تقوده واشنطن يهدف لتحويل إيران إلى وضع يشبه سوريا والعراق وأفغانستان، ويتضمن إهانة الرموز الدينية المقدسة واحراق المصاحف والمساجد وقتل عناصر الأمن.

وتحدث عدد من أعضاء النظام عن تشبيه الاحتجاجات الشعبية في بلادهم بما وقع في سوريا واستخدموا مفردات مشابهة لتلك التي استخدمها نظام بشار الأسد لوصف المتظاهرين عام 2011، وأكدوا استعداد إيران لإفشال مخطط سبق أن أثبت فشله في سوريا.

وخلال الاحتجاجات الحالية سيّر النظام مَسيرات موالية له، ومن ضمن الشعارات التي رُفعت فيها “إيران لن تكون دمشق” مما تسبب في إغضاب موالين لنظام الأسد في سوريا تداولوا الصورة على مواقع التواصل مع توجيه عبارات لاذعة للنظام الإيراني.

مسرحية داعش في أربعينية مهسا أميني

 

وتبعاً لافتراض وجود مؤامرة خارجية، تم الإعلان عن أنّ منفذي هجوم شاه جراغ ينتمون إلى دول خارجية، وقررت السلطات إغلاق عدد من الأضرحة الدينية، للإيحاء بوجود مخطط أجنبي لاستهدافها، ووصف المرشد الأعلى، علي خامنئي، الهجوم بأنه “تدنيس لمرقد أهل البيت” في تكرار للنغمة التي يبدو أن النظام لا يُحسن عزف غيرها؛ فحينما تدخل في سوريا كان الشعار حماية المرقد الزينبي، وكأن الشعب السوري انتفض ضد السيدة زينب وليس ضد نظام الرئيس بشار الأسد، واليوم يحاول خامنئي اختزال الأزمة في استهداف مراقد آل البيت من جانب التكفيريين، وتهميش الاحتجاجات واتهامها بتوفير الحاضنة الشعبية للإرهاب وربما التورط به بشكل مباشر، وكأن الشعوب في أي مكان لا تنتفض إلا ضد آل البيت!

وعلى نفس النغمة اعتبر رئيس الجمهورية، إبراهيم رئيسي، أن “أعمال الشغب تمهّد الأرضية لوقوع هجمات إرهابية أخرى”، وبالتالي يمكن ببساطة استنتاج أن وقف التظاهر هو وسيلة وقف الإرهاب، وقال وزير الداخلية، أحمد وحيدي، إن “هجوم شيراز يظهر قسوة قلوب أعدائنا وقد رأينا بعضاً منها في الشوارع من مثيري الشغب”، وكذلك ربط رئيس البرلمان، محمد باقر قاليباف، بين داعش والتظاهرات بشكل تعسفي.

وتحت عنوان رفض الإرهاب حاول النظام حشد أنصاره وتنظيم مسيرات مغطاة إعلامياً بشكل كبير في طهران ومدن أخرى يظهر فيها المواطنون يرفعون صور المرشد ويجددون التعهد بطاعة أوامره، وادعى التليفزيون الحكومي أنها مسيرات عفوية غير منظمة، وهو عكس ما يوحي به مظهر المسيرات تماماً التي يبدو جلياً أنها من تنظيم عناصر الباسيج “قوات التعبئة الشعبية”.

وتغيرت التغطية الإعلامية الحكومية في محاولة لحرف الرأي العام عن الاحتجاجات وتوجيهه إلى قضية الإرهاب المزعوم، عن طريق بث لقاءات إعلامية مع مواطنين ومصابين في الحادث يطالبون بتكثيف الإجراءات الأمنية لمنع تكرار اعمال العنف، وتعهد قادة أمنيون بمحاربة الجماعات التكفيرية في إيران!

وبدأ الإعلام الحكومي يركز على تصوير المحتجين كمسلحين خارجين على القانون يمارسون الإرهاب، وليسوا متظاهرين سلميين، وتم بث مقاطع مرئية لمشاهد تُظهر استهداف أفراد الأمن من قِبل مهاجمين مجهولين، فالخطاب الرسمي حتى اليوم يتجاهل كل هذه الأعداد الغفيرة من المتظاهرين الإيرانيين ويعدهم غير مرئيين، متجاهلا إقرار الدستور في مادته السابعة والعشرين لحق التظاهر السلمي، والمواد التي تتحدث عن حقوق المواطنين وحرياتهم، في مشهد يبدو فيه النظام الإيراني على وشك الغرق ويحاول التشبث بأي مبرر لبقائه واستحضار تهديد داعش بشكل تعسفي بعدما أفلس أخلاقياً وتآكلت شرعيته، وأيضًا تهديد المتظاهرين بأن هناك عنفًا قادمًا ضدهم لن يكون النظام مسؤولا عنه بل هذا التنظيم الشبحي الذي لا حل له سوى بوقف التظاهر.