تعد قضية خلافة المرشد الأعلى للثورة في إيران أهم القضايا السياسية المثارة في الآونة الأخيرة خاصةً بعد اعتلال صحة المرشد الحالي، علي خامنئي، البالغ من العمر 83 عامًا، بشكل كبير وانتشار الشائعات حول موته على سرير المرض.
ومنصب المرشد هو الأهم في إيران لأنه يحتفظ بالسلطة الفعلية بيده، بينما رؤساء الجمهورية يذهبون ويجيئون دون أن يؤثر ذلك على بنية النظام كثيرًا، فالرئيس يمكث لأربع سنوات لا يمكنه تجديدها إلا لمرة واحدة، ولا يوجد رئيس وزراء بل يقود الرئيسُ الحكومة، أما المرشد فيسيطر على الدولة العميقة وهي الأكثر قوة بينما تُحاسَب الحكومة على الأداء الاقتصادي والسياسي دون أن يكون لديها ما يكفي من السلطة النافذة على الدولة لتمارس عملها، بل إن الدولة الموازية تتدخل في عملها أيضًا، ولذلك لا يعد منصب رئيس الجمهورية مؤثرًا كثيرًا مقارنةً بالمرشد الأعلى للثورة، بل يعد تابعًا له.
من يختار المرشد الأعلى لإيران؟
نظرياً يُختار المرشد الأعلى من قِبل هيئة منتخبة وهي مجلس خبراء القيادة، ولكن لفهم أبعاد الأمر بصورة أوضح لابد من إلقاء نظرة على مؤسسات السلطة في دولة ولاية الفقيه ومعرفة أدوارها وعلاقاتها ببعضها البعض.
تعد بنية السلطة في إيران معقدة، فبنظرة سطحية بسيطة يظهر وكأن كل السلطات يتم اختيارها بشكل ديمقراطي، حيث ينتخب المواطنون نوابَ البرلمان ورئيسَ الجمهورية ومجلسَ الخبراء الذي يختار المرشد، ولكن إذا تتبعنا الأمر سنجد أن كل هذه الانتخابات ما هي إلا صورة خارجية لا تنبئ عن حقيقة الأمر؛ فمنذ تأسيس الجمهورية عام 1979 فرض الخميني سلطته بشكل مطلق يفوق ما كان عليه الأمر خلال حكم الشاه، وأطاح بشركائه من قادة الثورة ورجال الدين تمامًا، ورسخ نظامًا يعطيه صلاحيات إلهية، وشكل ما يُعرف بـ”مجلس صيانة الدستور” لتقييد أي استحقاقات ديمقراطية.
ويتكون هذا المجلس من 12 عضوًا نصفهم يختارهم المرشد، ونصفهم يصادق عليهم البرلمان بعد أن يختارهم رئيس السلطة القضائية الذي يعينه المرشد، أي أنهم جميعًا ممن يرضى عنهم رأس النظام ويعينهم بشكل مباشر أو غير مباشر.
ويتولى مجلس الصيانة هذا مهمة اختيار الأسماء المسموح لها بالترشح لعضوية البرلمان ورئاسة الجمهورية ومجلس خبراء القيادة، أي أن إرادة الناخبين يتم التحكم بها قبل إجراء الانتخابات فلا يُسمح من الأساس بقبول أوراق ترشح من لا توافق عليه السلطة العليا الممثلة في المرشد، وأيضًا يمارس المجلس رقابة لاحقة على عمل البرلمان فلا يمر تشريع برلماني دون إرساله إلى هذا المجلس لإقراره قبل أن يصبح نافذاً.
وبما أن مجلس خبراء القيادة الذي يختار اسم المرشد الأعلى ويملك صلاحية عزله واختيار خليفته، يتم اختيار أعضائه على عين المرشد وحسب الولاء له من خلال مجلس صيانة الدستور، فإن سلطات مجلس الخبراء تبقى مقيدة بسلطة المرشد وليس العكس كما يوحي ظاهر الأمر، ولذلك بالنظر إلى آليات اختيار المرشد القادم فإنه من المرجح أن يتم وفقاً لتوجهات المرشد الحالي، علي خامنئي.
الخبرة التاريخية في اختيار خليفة للمرشد الأعلى
لم يتم اختيار خليفة للمرشد الأعلى للثورة في إيران سوى مرة واحدة فقط عند موت المرشد الأول، روح الله الخميني، في 3 يونيو/حزيران 1989، فانعقد مجلس خبراء القيادة بعد ساعات قليلة، واختار علي خامنئي لخلافته، رغم افتقاره إلى المؤهلات العلمية المفترضة.
وفي التسجيل الذي تم تسريبه عام 2018، يظهر علي خامنئي وهو يقول إنه لا يملك أهلية لتبوء هذا المنصب، ويفتقر إلى الشرعية الدستورية والدينية لأنه ليس مرجع تقليد مجتهد، ولما قال له أحد الأعضاء إنه حتى لو لم يكن فقيهاً مجتهداً فله الحق في تولي المنصب بصفته من عدول المؤمنين، فقال خامنئي إنها ستكون في هذه الحالة “ولاية عدول المؤمنين” لا “ولاية الفقيه”.
واقترح أحدهم لحل إشكال عدم كونه فقيهاً، أن يتم اختياره للحكم كوكيل عن فقهاء مجلس الخبراء المجتهدين لأن بعض أعضاء المجلس صرحوا بعدم كونه مؤهلا للحكم.
لكن على أكبر هاشمي رفسنجاني، رئيس مجلس الشورى حينذاك، دفع مجلس الخبراء لاختيار خامنئي كمرشد مؤقت، حيث كان يقصد اختيار شخص ضعيف في قمة السلطة ليتمكن من تعزيز نفوذه، كما سعى لإلغاء منصب رئيس الوزراء لتعزيز صلاحيات رئاسة الجمهورية في الدستور وتبوُّء هذا المنصب.
وفي 5 أغسطس/آب التالي تم انعقاد المجلس مجدداً لتمديد ولاية خامنئي ليصبح مرشداً دائماً مدى الحياة بعد أن تم تعديل الدستور ليناسب مقاسه؛ فقد تم تخفيض شروط تولي منصب الإرشاد لإلغاء اشتراط كونه “فقيهاً مجتهداً” بسبب قصور مكانة خامنئي الدينيّة، وعدم توافقها مع متطلبات الدستور.
وكذلك ، فلم يقتصر الأمر على تخفيض مؤهلات المرشد، بل زيدت صلاحيات المنصب نظراً لافتقاد خامنئي للكاريزما التي كانت متوفرة لسلفه واحتياجه لدعامات دستورية لإسناده.
وخلال عقود حكمه اجتهد خامنئي لإسكات الفقهاء غير المقتنعين بمؤهلاته العلمية، وفرَض هيمنته على المؤسسة الدينية لتدعيم قاعدة الولاء لشخصه ونجح في ذلك أيما نجاح، وبناء على ذلك تزداد احتمالات ألا يخلفه في منصبه إلا أحد المقربين منه.
فاليوم يسيطر التيار المتشدد الموالي لعلي خامنئي، على مجلس الشورى برئاسة محمد باقر قاليباف، وهو عضو سابق بالحرس الثوري، ويجمع أحمد جنتي، المقرب من المرشد، بين رئاسة مجلس صيانة الدستور ومجلس خبراء القيادة، وبوجود إبراهيم رئيسي أيضاً في منصب الرئاسة فإن تشكيلة السلطة الحالية تبدو مواتية جداً لاختيار مرشد من نفس التيار.
الدولة العميقة
يتردد اليوم اسمان ترتفع حظوظهما بشكل لافت لخلافة خامنئي، وهما نجله مجتبى، وإبراهيم رئيسي، على الرغم من أن كلاهما ليس له شعبية أو كاريزما، لكن يبدو أن هناك تنسيقًا بينهما حيال هذا الأمر، بشكل غير معلن بطبيعة الحال.
أما رئيسي فمن أهل الثقة لدى المرشد، الذي عينه رئيساً للسلطة القضائية عام 2019، وتم اختياره كذلك كنائب لرئيس مجلس خبراء القيادة، وعندما تم استبعاد المنافسين الأقوياء له في انتخابات الرئاسة العام الماضي قيل إن ذلك جاء بهدف حجز المنصب له لتهيئته لخلافة خامنئي الذي ظل رئيساً من 1981 وحتى 1989 حينما ترك المنصب لتولى القيادة العظمى، كما أن رئيسي ممن يعتمر العمامة السوداء كعلامة على انتسابه للسادة آل البيت، وهو من صقور المحافظين، وله سجل أسود في قمع المعارضة حتى أُطلق عليه “جزار طهران” بسبب عضويته في “لجنة الموت” التي ساهمت في ارتكاب مجزرة عام 1988 بحق آلاف المعارضين السياسيين.
وأما مجتبى علي خامنئي، فهو يتصرف فعلياً كأنه مرشد الظل الذي يحرك الأمور من وراء الكواليس، وهو أذُن والدِه الهَرِم ولسانُه؛ وخلال الفترة الماضية نجح في تطوير شبكة نفوذ متغلغلة في قلب الدولة العميقة تدين له بالولاء الشخصي، فهو يسيطر على جهاز مخابرات الحرس الثوري، الذي يفوق أهمية وزارة الاستخبارات، ويقود أيضاً فريقاً يضم كبار القادة العسكريين والمدنيين، يجتمع بهم كل عدة أيام بشكل سري في بيت المرشد لمناقشة المستجدات والتطورات السياسية وبحث كيفية التعامل معها بشكل منسق.
وقد كشف الرئيس السابق لهيئة الإذاعة والتليفزيون الحكومية، محمد سرافراز، في لقاء سابق على تطبيق “كلوب هوس”، أن حسين طائب، الرئيس السابق لمنظمة استخبارات الحرس الثوري، كان يعاون مجتبى في الإشراف على هذه الاجتماعات التي تكررت أحياناً عدة مرات عدة في الأسبوع الواحد، وظل سرافراز يحضرها خلال فترة توليه منصبه، واستُبعد منها بعد ترك موقعه الحكومي، واستمرت في الانعقاد بدونه وفقاً لروايته.
وبذلك يتضح أن مجتبى يقود جهاز الدولة الموازي، إذ تتسم بنية السلطة في إيران بالازدواجية؛ فالحكومة ظاهريًا تحكم الدولة وتمثلها أمام العالم، لكن مكتب المرشد ومؤسسة الحرس الثوري يمثلان الدولة العميقة الموازية التي تملك مفاصل الدولة في أياديها، فالجيش النظامي أضعف تسليحا وسلطة من قوات الحرس الثوري؛ فهناك مثلاً قوات بحرية منفصلة لدى كل من الطرفين وكذلك القوات الجوية وباقي الأفرع المسلحة، ووزارة الاقتصاد لديها إمكانات أقل من وحدة خاتم الأنبياء التابعة للحرس الثوري والمؤسسات التابعة للمرشد، وهكذا، وفي تسجيل مشهور لوزير الخارجية السابق، محمد جواد ظريف، قال “سألوني كم بيدك في مجال السياسة الخارجية من الصفر إلى المائة؟ فقلت: صفر”.
وبالمقارنة بفترة تنصيب خامنئي فإن نفوذ الحرس الثوري اليوم يبدو أقوى بكثير من تلك الفترة، فقد تغول الحرس بشكل مخيف وصار يمثل قوة الدولة العميقة في إيران، ولن يفرّط بسهولة في هذه الامتيازات إن شعر أنها مهددة، ولذلك لن يكون بمعزل عن عملية اختيار المرشد القادم، خاصةً مع تراجع دور فقهاء حوزة قُم في الحياة السياسية مقارنة بالعقد الأول من عمر الجمهورية الدينية.
سيناريو القيادة الجماعية
ويظهر سيناريو آخر لخلافة المرشد وهو مجلس القيادة الجماعي، فقد يختار مجلس خبراء القيادة، مجموعة فقهاء للحلول محل المرشد الفرد، وتجدر الإشارة هنا إلى أن الجلسة التي شهدت تنصيب علي خامنئي عام 1989 قبل تعديل الدستور، بدأ التصويت فيها على الاختيار ما بين تنصيب ولي فقيه أو مجلس شورى فقهاء عدد أعضاؤه ثلاثة أو خمسة.
ووفقاً لهذا السيناريو، فإن احتمال وجود مجتبى بهذا المجلس المفترض سيساهم في تخفيف الانتقادات المتعلقة بوجود شبهة لتوريث المنصب، ومع ذلك لا يبدو هذا السيناريو محبذا كثيراً للحرس الثوري الذي يرى مصلحته في استقرار الأوضاع كما هي عليه الآن وإسناد القيادة إلى شخص واحد يحافظ على الوضع الراهن.
وكان الرئيس السابق ورئيس مجمع تشخيص مصلحة النظام، علي أكبر هاشمي رفسنجاني، قبل وفاته عام 2017، يدفع باتجاه إيكال خلافة المرشد لمجلس فقهاء وإجراء التعديلات الدستورية التي يتطلبها هذا الأمر، إلا أنه تعرض لمتاعب كثيرة جراء هذا الموقف الذي اعتُبر ضد مصالح النظام.
وهناك نموذج آخر للقيادة الجماعية؛ فوفقاً للمادة 111 من الدستور فإنه في حالة وفاة القائد أو استقالته أو عزله، يتولى مجلس شورى مؤلف من رئيس الجمهورية، ورئيس السلطة القضائية، وأحد فقهاء مجلس صيانة الدستور، جميع مسؤوليات القيادة بشكل مؤقت حتى يتم إعلان القائد الجديد بأسرع وقت.
وتنص المادة كذلك على أنه في حالة عجز المرشد عن القيام بواجبات القيادة مؤقتاً يقوم المجلس المذكور في هذه المادة بأداء مسؤوليات القائد طوال مدة العجز، ولم تضع المادة جدولاً زمنياً محددا لفترة حكم المجلس.
ويمكن لخيار القيادة الجماعية في حال تم اللجوء إليه أن يستمر لفترة انتقالية ريثما يتم الاتفاق على شخص محدد لقيادة البلاد وتهيئة الأمور لتنصيبه دون معارضة فاعلة.