“لن يتدخل الجيش بعد الآن في السياسة، سيبقى الجيش في ثكناته، وسيكون حامي الدستور وسيخضع للسلطة السياسية الراهنة وسيكون في خدمة الشعب. نقطة. نقطة نهائية.”

هذه الكلمات صدرت عن أمادو توماني توري في تصريح للتلفزيون الوطني المالي في العام 1991، في وقت كان قد نفّذ الإنقلاب الثاني الذي أسقط حكم الدكتاتور موسى تراوري الذي كان قد أسقط بدوره في العام  1968 الرئيس المالي موديبو كيتا. وبالرغم من أنه كان قد التزم بوعده بنقله السلطة إلى المدنيين، برهن الوقت للأسف عكس ذلك. وشاءت سخرية القدر أن يكون هو نفسه من يدفع الثمن بعد مرور 20 عاماً.

 

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

موديبو كيتا رئيس الحكومة الفيدرالية في مالي من العام 1960 وحتى 1968 وقد خلع بواسطة موسى تواوريه

 

فأمادو توماني توري الذي عاد إلى السلطة عن طريق الإنتخابات في العام 2002 بفضل تقدّمه على ألفا اومار كوناري، عاد وسقط في الإنقلاب الذي نُفذّ ضده في العام 2012 بفعل إخفاق الجيش في شمال البلاد بالوقوف في وجه متمرّدي “الحركة الوطنية لتحرير أزواد” والإسلاميين. لكن الكابتين أمادو آيا سانوغو الذي استلم السلطةفي مالي، قد عاد وسقط بدوره قبل الإنتخابات الرئاسية التي أوصلت ابراهيم بوبكر كيتا إلى سدّة السلطة.

 

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

أمادو توماني توري/ رئيس جمهوري مالي الأسبق خلال الفترة بين 2002 – 2012

 

فبعد سلسلة من التظاهرات، أوقفت مجموعة من العسكريين  ابراهيم بوبكر كيتا وأجبرته على الإستقالة. وفي 18 أغسطس/ آب  من العام 2020، تسلّم عقداء فتيّون بقيادة آسيمي غويتا السلطة. وبفعل ضغط من الأسرة الدولية، قاموا بتسمية رئيس جمهورية ورئيس مجلس وزراء من المدنيين، لكنهم لم يتخلوا عن إدارة السلطة.

 

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

الرئيس الإنتقالي ورئيس وزرائه قبل 3 أيّام من توقيفهما من قبل قاسيمي غويتا، وكانا يناقشان تأليف الحكومة الجديدة

وهكذا عُيّن العقيد آسيمي غويتا الذي كان رئيس “اللجنة الوطنية لإنقاذ الشعب” نائباً للرئيس والمسؤول عن قضايا  الدفاع والأمن.  وفي الحكومة الإنتقالية الأولى، شارك أعضاء من الطبقة الحاكمة مثل العقيد الرائد اسماعيل واغي، والعقيدين ساديو كامارا وموديبو كوني.

شهدت مالي 5 انقلابات في غضون 3 عقود، وذلك منذ العام 1991

لكن المشاكل عادت بسرعة. فإثر تسمية حكومة جديدة لم يتمثّل فيها ساديو كامارا وموديبو كوني، أوقف العقيد آسيمي غويتا رئيس مجلس الوزراء مختار واني والرئيس الانتقالي باه نداو، وهكذا يُضاف انقلاب آخر إلى سلسلة الإنقلابات العسكرية المشهورة في مالي منذ استقلاله.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

الرئيس الإنتقالي السابق في مالي لدى عودته من زيارة إلى فرنسا في 20 أيار الماضي، وكان في استقباله الكولونيل قاسيمي غويتا. وبعد ذلك بـ 4 أيّام تمّ توقيفه من قبل الأخير الذي عاتبه بسبب استبعاه خلال مشاورات تشكيل الحكومة الجديدة

فهذا البلد الواقع في أفريقيا الغربية، يعدّ  22 مليون نسمة ويعود إلى الواجهة من جديد. وقد شجب جزء من الطبقة السياسة هذا النوع من الإنقلابات المتكررة، كما أنّ المجتمع الدولي شجب بالإجماع استعمال القوّة من جديد. وهكذا فُرضت عقوبات على الطغمة الحاكمة التي تسيطر على الحكم، فيما أصبح الوضع في مالي متقلّباً.  كما أنّ الإتحاد الأوروبي أيّد فرض إطلاق سراح باه نداو ورئيس الوزراء أيضاً، وفي النهاية أُطلق سراحهما في ليلة 26-27 مايو/ أيار بحسب معلوماتنا. ولم يُخفِ الإتحاد الأوروبي نيّته في معاقبة كلّ من يمكنه أن  يعارض انتقال السلطة.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

العقيد قاسيمي غويتا ووزير الدفاع السابق والعقيد ساديو كامارا خلال تسليم معدات إلى الجيش المالي (نيسان 2021)

لكن ما يُخشى الآن هو أن تتأثر سلباً ملاحقة المجموعات الجهادية في مالي جراء هذا الإخلال المعتاد والمألوف في الحياة السياسية في البلاد. 

كيف استقرّ الجهاديون وتكاثروا في مالي؟

منذ بداية الألفية الثانية، قام جزائريون متمركزون في شمال مالي كانوا أعضاء سابقين في “الجماعة السلفية للدعوة والقتال”، بتسهيل استقرار فرع “القاعدة في الصحراء والساحل”. ولكن بدءاً من العام 2012، سقط الجزء الأكبر من شمال البلاد في قبضة مجموعات مختلفة منها “ملثّمو” مختار بلمختار ، و”أنصار الدين” التابعين لـ”المجاهد” المحلّي إياد أغ غالي، و”الحركة من أجل الوحدة والجهاد في أفريقيا الغربية” التي يتزعّمها الموريتاني حمادة ولد محمد حيرو.

وسقطت كيدال وتومبوكتو وغاو أيضاً في قبضة الجهاديين الذين كانوا يحاربون المجموعات المتمردة والجيش المالي. وطُبّقت الشريعة بنسختها الأشد عنفاً من قبل هذه المجموعات التابعة بغالبيتها لتنظيم القاعدة. لكنّ رغبتها ببسط سلطتها نحو وسط البلاد قد ولّدت رداً عسكرياً في العام 2013.

وبناءً على طلب من مالي، قامت فرنسا مستفيدةً من انتشار القوات الأفريقية مثل التشاد في إطار “المهمّة الدولية لدعم مالي” بإطلاق عمليّة “سرفال” التي تمكّنت من كبح حماسة المجموعات الجهادية، إلّا أنّ هذه العملية الواسعة النطاق ضدّ الجهاديين تمكّنت فقط من طرد الإسلاميين المتشدّدين من المدن التي كانوا يسيطرون عليها، لكنها لم تتمكن من وضع حدّ لنشاطاتهم الخطيرة. بل على العكس، لقد تضاعفت وفي العام 2015 تمكن تنظيم القاعدة من إعادة مختار بلمختار الذي كان قد ابتعد مع حركة “المرابطون” التي ضمّت “الموقّعون بالدم” و “الحركة من أجل الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا”.

وبذلك لأجل توقيع عودته بالدم، قام الجهادي الجزائري بتنظيم عملية استهدفت فندق راديسون بلو الفخم في باماكو من خلال ذراعه الأيسر المالي محمد ولد نويني، الذي قُتل في العام 2018 في عملية بارخان. وفي العام نفسه، بدأت “جبهة تحرير ماسينا” وهي مجموعة قريبة من “أنصار الدين” بالإعتراف بقيامها بأولى عملياتها في وسط مالي. وكان مقطع فيديو لهذه المجموعة نشرته “أخبار الآن” قد أظهر  مقاتلين من “أنصار الدين – كتيبة ماسينا” وسط شجيرات غضّة. وقد أظهر الفيديو في دقائقه الست والذي يعود لـ27 يونيو/ حزيران من العام 2015.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

معارك كتيبة ماسينا التابعة لمجموعة “أنصار الدين” – وسط مالي (تاريخ الصورة: 27 حزيران 2015)

الفيديو أظهر الغنائم التي انتزعها الجهاديون من القوى الأمنية المالية في نارا في منطقة كوليكورو. كما أظهر رجالاً مدجّجين بالسلاح يتكلمون تارةً لغة إثنية بول المالية، وطوراً اللغة العربية، وابتداءً من الدقيقة 2:40 يظهر محمود برّي المعروف باسم أبو يحيا سافر الوجه من أجل إرسال رسالة. إن أبو يحيا الذي يُعتبر من رفاق أمادو كوفا الأوائل، هو بالأحرى منظّر إيديولوجي تمّ توقيفه بسرعة في العام 2016، ولم يستعد حريته قبل شهر تشرين الأول من العام 2020 مقابل تحرير السياسي المالي سومايلا سيسّي والفرنسية صوفي بيترونين، اللذين كانا وقعا رهائن بيد “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

محمود بري الملقب أبو يحيى، وهو أحد الإيديولوجيين لكتيبة ماسينا التابعة لأنصار الدين (الصورة مشتقة من فيديو تم بثّه في 27 حزيران 2015)

وليزيد الطين بلّة، قام منشقّ عن “المرابطون” بقسم اليمين للإنضمام إلى تنظيم داعش. وبالإضافة إلى هذه التطورات، لا بدّ من إضافة اتحاد القوى المرتبطة بتنظيم القاعدة في مجموعة واحدة أطلق عليها إسم “جماعة نصرة الإسلام والمسلمين”. يتلقّى هذا التحالف الذي يعتبر ممثل القاعدة في الساحل الأوامر من إياد أغ غالي المنتمي إلى الطوارق ،ويسعى التحالف أيضاً بتمركزه في مالي إلى التوسّع نحو البلدان المجاورة. وبذلك لا يكون الوضع قد تحسّن البتة، ما يعتبر مأخذاً من مجموعة  يونيو- تجمّع القوى الوطنية ضد الرئيس الأسبق ابراهيم بوبكر كيتا. فالقوى الخاصة المنوطة حصرياً بمكافحة الإرهاب قد طُلب منها إحتواء التظاهرات التي خرجت عن السيطرة يومي  10 و11 يوليو العام 2020.

يعقد قادة مجموعة دول غرب أفريقيا (إيكواس) قمة استثنائية في العاصمة الغانية أكرا، تخصص حصراً لبحث الوضع في مالي وسبل الرد على قادة الجيش هناك.

التداعيات على الحرب ضدّ المجموعات الجهادية

عندما استولت الطغمة الحاكمة على السلطة في 18 أغسطس/ آب، كانت أولوية العسكريين الأولى الحؤول دون توقف العمليات السارية ضدّ الإرهاب. وهنا يؤكّد محمدو لامين بارا لو ، الباحث في العلوم السياسية والمتخصص في قضايا الدفاع والأمن والسلام، لـ”أخبار الآن“، أنّ “ذلك كان ممكناً بفضل التوافق الكبير في صفوف الجيش، وحتى اليوم يمكن الإستفادة من اللحمة الموجودة في صفوف الطغمة. فقياديو مختلف القطاعات والأقسام يواصلون عملهم على الأرض”.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

محمدو لامين بارا لو ، الباحث في العلوم السياسية والمتخصص في قضايا الدفاع والأمن والسلام

ولكن في الوقت عينه، تدور مفاوضات في منطقة غورما المالية بهدف استبدال عبد الحكيم الصحراوي، القياديّ الجهاديّ الذي كان قد قضى بسبب المرض. فهذا العربي المتحدر من الصحراء الغربية كان يشغل منصب المفوّض الإسلامي السابق في غاو التي كانت تخضع لسيطرة “الحركة من أجل الوحدة والجهاد في غرب أفريقيا”، وكان أيضاً قد لعب دوراً أساسياً في إرساء قواعد “تنظيم داعش في الصحراء الكبرى” في منطقة الحدود المشتركة بين مالي والنيجر وبوركينا فاسو.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

عبد الحكيم الصحراوي القيادي الداعشي في مالي قتل في 2021

وفي هذا الإطار، يعلّق الصحافي وسيم نصر، الذي يتابع ملف الجماعات الجهادية في أفريقيا، قائلاً: “بما أنّ هذه الوفاة حصلت في منطقة ليبتاكو غورما التي كانت تنشط فيها “الدولة الإسلامية في الصحراء الكبرى”، كانت لتشكّل فرصة للجيوش المحلية ولكن بما أنّها منشغلة بأمور أخرى، كانت فرصة خاسرة”.

في هذه المنطقة نفسها، سُجل ازدياد في النشاطات الإرهابية منذ بداية العام الجاري، ما يشكّل معاناة كبرى بالنسبة للشعوب المحلّية خصوصاً بسبب قتل المدنيين وعمليات بتر الأعضاء التي اعترف بها مؤخراً “تنظيم الدولة الإسلامية في الساحل”. ومن شأن هذا الوضع أن يتفاقم بسبب الأزمة السياسية الحالية إنْ استمرّت أكثر.

وأضاف محمدو لامين بارا لو أنّ وزير العدل المالي السابق كان واضحاً في كلامه، فقد قال إنّ العسكريين فرضوا وضعاً من شأنه أن يعطي فرصة للمجموعات الجهادية لتشنّ هجماتها كما يحلو لها، وأن يهدد الأمن الداخلي والخارجي لمالي. كما يخشى أندرو ليبوفيتش، المسؤول عن القضايا الدولية في المجلس الأوروبي، أن يستفيد الجهاديون من هذا “التشتّت” لتعزيز مواقعهم في وسط البلاد وشرقها وفي غورما أيضاً.

يعتمد مالي كثيراً على شركائه الدوليين من أجل ضمان أمنه وصدّ هجمات المجوعات الجهادية. وإن كانت فرنسا والإتحاد الأوروبي لا يفكران حالياً بتعليق دعمهما العسكري، لا تتصرف الولايات المتحدة مثلهما. فقد أعلن الأمريكيون أنّهم علقوا تعاونهم مع مالي في القضايا الأمنية.

وقد هدّد الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون في مقابلة مع صحيفة “لوجورنال دو ديمانش” الأحد، بسحب قوات بلاده من مالي في حال سار هذا البلد باتجاه “الإسلاموية الراديكالية” بعد انقلاب ثان في ظرف 9 أشهر. وأكّد ماكرون أنّه سبق أن “مرّر رسالة” إلى قادة دول غرب أفريقيا مفادها، أنه “لن يبقى إلى جانب بلد لم تعد فيه شرعية ديمقراطية ولا عملية انتقال” سياسي.

الرئيس الفرنسي إيمانويل ماكرون يهدّد بسحب القوات الفرنسية من مالي إذا تحوّلت البلاد إلى الإسلام الراديكالي

وتدعم فرنسا عبر قوة برخان التي تضم نحو 5100 عنصر، مالي التي تواجه منذ 2012 هجمات جهادية انطلقت في الشمال وأغرقت البلاد في أزمة أمنية قبل أن تمتد إلى وسط البلاد.

وهنا يحذّر الباحث محمدو لامين بارا لو قائلاً: “يمكن أن يؤثّر تعليق التعاون العسكري الأمريكي المعلن على حاجة العلميات للإستطلاعات الإستخباراتية”، لكنّه على حقّ في هذه النقطة. إنْ شككنا بذلك، نكون قد نسينا أنه في يونيو/حزيران العام 2020، تلقّت فرنسا استطلاعاً استخباراتياً أمريكياً حدّد موقع عبد المالك دروكدال الذي كان يتنقل في مالي، وتحديداً في تلهانداك بالقرب من تيساليت ليس بعيداً عن الحدود مع الجزائر.

مالي.. تاريخ حافل في الإنقلابات فهل يستغل "الجهاديون" عدم الاستقرار؟

عبد الملك دروكدال، أمير القاعدة في المغرب الاسلامي (AQMI) والذي قتل بضربة فرنسية في 3 حزيران العام 2020

ومنذ ذلك الحين، أصبحنا نتحدث عن أمير “القاعدة في المغرب الإسلامي” الجزائري المذكور أعلاه في صيغة الماضي. من هذا المنظور، يمكن لغياب الدعم الأمريكي أن يكون لديه تداعيات خطيرة على الأرض.

بالنسبة للباحث محمدو لامين بارا لو ، لا بدّ للبلدان المجاورة أن تفكر ملياً قبل أن تفكر بفرض عقوبات على مالي لأنّها تخاطر بالخضوع لتداعيات مرحلة جديدة ناجمة عن انعدام الاستقرار في مالي. لكن  مامادو إيسمايلا كوناتي، وزير العدل المالي السابق، لا يشاطره الرأي فهو يناضل من أجل أن تعقد “المجموعة الإقتصادية لدول أفريقيا الغربية” دورة إستئنائية لتقف بوجه الطغمة الحاكمة.

شاهدوا ايضاً: مَنْ هو أبو بكر شيكاو؟