أخبار الآن | دبي – الإمارات العربية المتحدة (نهاد الجريري)

كان رمضان سيحل بعد يومين أو ثلاثة عندما سمع الجيران في أحد أحياء سورابايا الإندونيسية (إيتا) ذات التسعة أعوام وهي تتوسل إلى والديها أن يشتريا لها فستاناً جديداً للعيد. في اليوم التالي، وكان الأحد ١٣ مايو ٢٠١٨، قادت الأم (إيتا) واختها الكبرى (لالا) وفجّرت بهما مدخل إحدى كنائس المدينة. ما حدث ذلك اليوم أرعب الجميع؛ ليس لأن إندونيسيا وتحديداً جاوا الشرقية غريبة عن الهجمات الانتحارية والإرهابية؛ بالي ٢٠٠٢ لا تزال حاضرة. بل لأن عائلات بأكملها صارت تأخذ على عاتقها مهمة تنفيذ هجمة انتحارية متخذة من الأطفال قنابل بشرية. خلال أربع وعشرين ساعة في مايو ذلك العام، فجعت إندونيسيا بثلاث عائلات مؤلفة من ١٤ فرداً تتراوح أعمارهم بين ٨ و٤٥ وقد تحزّموا بالقنابل وخرجوا في مهمة للقتل. 

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحاريةإيتا ولالا – المصدر Sydney Morning Herald

العائلة صفر

العائلة الأولى كانت عائلة (ديتا اوبريارتو) وزوجته (بوجي كوسواتي) وكلاهما في مطلع الأربعينيات من عمريهما. لهما ابنتان: (فاميلا) واسمها المحبب (إيتا)، و(فضيلة) وينادونها تحبباً (لالا) وعمرها ١٢ عاما. ولداهما هما: (فريمان حليم) ويبلغ ١٦ عاماً، و(يوسف فضيل) ويبلغ ١٨ عاماً.  المقربون من (ديتا) كانوا يعلمون مدى امتعاضه من مسائل وطنية من العَلم والنشيد إلى التعددية. عدا ذلك، لم يكن فظاً مع جيرانه حتى المسيحيين منهم. الأم (بوجي) كانت درست التمريض وتنتمي إلى عائلة غنية. يقال إن والدها أغنى رجل في بلدته (مونكار) جنوب شرق سورابايا. يروي الجيران أن والدها كان يزورها بسيارة فارهة وحرس على الجانبين. 

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

ديتا وبوجي وأولادهما – المصدر abc.net.au

حسابها على الفيسبوك، المحذوف الآن، كان مليئاً بصور من رحلات العائلة ونشاطاتها المختلفة مثل أي عائلة. لكن المنشورات توقفت فجأة في ٢٠١٤، ويُعتقد أن ذلك التاريخ كان بداية تحوّل العائلة إلى التطرف. ما لم يعلمه كثيرون هو أن (ديتا) كان زعيم خلية تابعة لداعش في المنطقة اسمها (جماعة أنصار الدولة) أو Jamaah Ansharut Daulah – JAD؛ تأسست في ٢٠١٥. لكن ما لم يتوقعه أحد هو أن تكون لديه وزوجته خطة شيطانية ليس فيها من الإنسانية شيئ. الخطة كانت أن يقود (ديتا) مركبة (بكب أب) محملة بالمتفجرات، وأن يقود الولدان دراجة نارية محملة بالمتفجرات أيضاً. أما الأم فكان عليها أن تُلبس البنتين ونفسها أحزمة ناسفة. “الفِرق” الثلاثة ستفجر ثلاث كنائس في المدينة وفي وقت واحد. اليوم، لن يعود أحد إلى البيت. 

يقول شاهد عيان وصل تواً إلى ساحة كنيسة (ديبونيغورو) إنه رأى امرأة وبنتين يسرن باتجاه باب الكنيسة. كان منظهرهن غريباً. وضعن ملابس فضفاضة ولم يظهر منهنّ سوى الأعين. سأل المرأة: “إلى أين تذهبين؟” لم ترد وأسرعت الخطى. لحقها، فأسرعت. أمسك بها، فقاومته. أحكم الإمساك بها، فرفعت يدها وكان فيها جهاز التفجير. فجّرت (لالا). فانشطرت نصفين. ثم فجّرت (إيتا). فانشطرت نصفين. لم تُفلح في تفجير نفسها. ماتت من الشظايا التي تناثرت من ابنتيها. 

قبل الأوان!

بعد ذلك بساعات، وقع انفجار في شقة سكنية في (سيدوأريو) القريبة. عائلة أخرى كانت تحضر لانتحار آخر؛ لكن القنابل انفجرت قبل الأوان. قُتل الأب واسمه (أنتون فيبريانتو)، والأم (بوسبيتاساري)، وبكرهم (هيليا أوليا رحمن)، ١٧ عاماً، ونجا ثلاثة أطفال: (إينور رحمن)، ١٥ عاماً، (فايسا)، ١١ عاماً، و(غاريدا هدى أكبر)، ١٠ أعوام. 

عائشة

في اليوم التالي، ١٤ مايو ٢٠١٨، اقتربت دراجتان ناريتان من مقر الشرطة في (سورابايا). اعتلى الأولى الأب (تري موتيونو)، والأم (تري إيرناواتي)، والصغيرة (عائشة الزهراء بوتري) وعمرها ثمانية أعوام. ركب الدراجة الثانية الابن (محمد ساتريا موردانا)، ١٤ عاما، و(دافا أمين موردانا)، ١٦ عاماً. انفجرت الدراجتان بمن عليها. 

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

عائلة تري: الأم والأب والابن الأكبر – المصدر realita.co

قُتل الجميع إلا الطفلة (عائشة). كانت تجلس في الأمام وقذفتها قوة الانفجار أمتاراً إلى الأمام. أنقذها شرطي وأودعت مركزاً تُشرف عليه وزارة الشؤن الاجتماعية. (عائشة) تعيش هناك مع سبعة أطفال آخرين قُتل آباؤهم وأمهاتهم في هجمات إرهابية وانتحارية، ومنهم الثلاثة الذين نجوا من انفجار الشقة اليوم السابق. فُجع أهل (إيرناواتي) وجيرانها بما حدث. قبل يوم حرصت على تأمين والدتها بالمؤنة وأحضرت لها السكر. ولا تعرف عنها صديقاتها وبنات صفها ما قد يشي بأنها ستذهب هذا المذهب. 

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

الشرطي روني فيصل ينقذ الطفلة عائشة، المصدر Sydney Morning Herald

إن تعذر السفر إلى سوريا للجهاد، فسافر إلى الفلبين

لكن الشرطة الإندونيسية تعتقد أن أفراد العائلات الثلاثة كانوا يعرفون بعضهم بعضاً وخططوا لهذه الهجمات معاً. ترجح الشرطة أن العائلات كانت تلتقي في حلقات درس تُعقد كل يوم أحد يديرها (خالد أبو بكر) المعروف بتطرفه لدى السلطات منذ التسعينيات. وبالرغم من أنه لم ينضم إلى الجماعة الإسلامية مثلاً، إلا أنه أصبح مناصراً لداعش في ٢٠١٤ وسافر إلى تركيا في ٢٠١٦ بهدف الإلتحاق بداعش في سوريا، لكن السلطات أعادته في يناير ٢٠١٧. وبدأ بعدها يعقد حلقات الدرس تلك يروج فيها لداعش. لم يحدث في تاريخ داعش والقاعدة أن امتهنت عائلات بأكملها الانتحار على هذا النحو. فمن ناحية، لم يسبق أن استخدم الآباء والأمهات أطفالهم قنابل وذخيرة؛ ومن ناحية لم يسبق أن أبدت عائلات “التزاماً” بأداء مهمة الموت. 

لم تُسجل هجمات انتحارية تسببت فيها عائلة أو امرأة في إندونيسيا بعد مايو ٢٠١٨. لكن في الفلبين القريبة، تسرّب إندونيسيون لتنفيذ هجمات مشابهة. يُنقل عن (خالد أبي بكر( صاحب حلقات الدرس القاتلة أنه كان يقول: “إن تعذر السفر إلى سوريا للجهاد، فسافر إلى الفلبين.”

 إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

خارطة الفلبين، إندونيسيا، وماليزيا – المصدر researchgate.net

الأرخبيل: إندونيسياالفلبين

في ٢٤ أغسطس ٢٠٢٠، فجرت امرأتان نفسيهما في كنيسة في (جولو) جنوب الفلبين. أحد الانتحاريتين كانت إندونيسية اسمها (ناناه) وكانت أرملة (نورمان لاسوكا) أول فلبيني انتحاري. فجر نفسه في معسكر للشرطة في يونيو ٢٠١٩. الانتحارية الثانية كانت (إنداناي) أرملة المدعو (أبي طلحة جمشا)، ضابط ارتباط بين داعش وجماعة أبو سياف. قُتل في مواجهة مع الجيش الفلبيني في نوفمبر ٢٠١٩. 

فانتاسيا: انتحار الأم والجنين!

في أكتوبر ٢٠٢٠، اعتقلت السلطات الفلبينية الشابة (رزقي فانتاسيا رولي) وهي إندونيسية الجنسية، كانت تحضر لهجمة انتحارية مع فلبينيتين أخرتين. (رزقي)، وتُعرف أيضاً باسم (سيسي)، كانت حاملاً في الشهر الخامس. وبحسب الشرطة كانت تخطط للانتحار بعد أن تضع حملها. هي أرملة الإندونيسي صانع القنابل (أندي باسو) الذي قُتل في ٢٩ أغسطس ٢٠٢٠ في مواجهة مع الجيش الفلبيني في أرخبيل (سولو) جنوباً. 

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

رزقي فانتاسيا رولي وزوجها أندي باسو – المصدر نشرة للشرطة الإندونيسية

عائلة ممتدة

والأهم، أن سيسي هي ابنة اثنين فجّرا نفسيهما في كنيسة في جزيرة (جولو) الفلبينية في يناير ٢٠١٩ ما تسبب في قتل ٢٢ شخصاً. والدها هو (رولي ريان زكي)، وأمها (ألفة هنداياني صالح). كانا عضوين في (جماعة أنصار الدولة) التابعة لداعش. لـ (رولي) و(ألفة) ستة أبناء وبنات. سافروا إلى تركيا في مارس ٢٠١٦ وانتظروا على الحدود أملاً في الدخول إلى سوريا والعيش “في ظل الخلافة” المزعومة. رّحلتهم تركيا إلى إندونيسيا في يناير ٢٠١٧، وكانوا نقصوا فردين. (يوسف) الابن الأكبر دخل إلى سوريا بطريقة ما ولا يُعرف مصيره؛ وابنة أخرى اختفت ولا يُعرف مصيرها أيضاً. في مايو ٢٠١٨، سافر (رولي) إلى الفلبين وتبعته زوجته والأولاد في ديسمبر ٢٠١٨ وكان بينهم (سيسي) وزوجها (أندي باسو) بعد أن عقدا القران في نوفمبر ذلك العام. 

المرأة أكثر إرهاباً من الرجل

بحسب مركز سياسة تحليل النزاعات IPAC، فقد زاد عدد المعتقلات في إندونيسيا على ذمة الإرهاب بعد عام ٢٠١٤. إذ بلغ عدد المعتقلات في هذه الفئة ثماني نساء فقط في الفترة من ٢٠٠٠ إلى ٢٠١٤. أما في الفترة من ٢٠١٤ إلى ٢٠٢٠، فقد ارتفع الرقم إلى ٣٢ امرأة. آخر امراة اعتقلت كانت (أم سيفا) وهي زوجة (علي كالورا) قائد ما يُعرف بـ “مجاهدي شرق إندونيسيا.” وكما أن هذا النمط من الهجمات الانتحارية “العائلية” فريد بين الجماعات الجهادية، كذلك حضور المرأة الإندونيسية في صلب هذا الإرهاب فريد وغير متوقع. الباحثة (سدني جونز)، المديرة التنفيذية لمشروع IPACK، تلحظ أن “النساء في إندونيسيا أكثر إصراراً على الهجرة من الرجال” وأن الرجال لم “يجرّوا النساء المترددات وراءهم بل إن بناتهم وزوجاتهم كنّ أكثر تصميماً منهم وعزما.” تستشهد (جونز) بقصة عائلة تتألف من ٢٧ فرداً أصغرهم يبلغ أشهر وأكبرهم عجوز مُقعدة تبلغ ٧٨ عاماً. قررت العائلة “الهجرة” إلى سوريا. نجح ٢٠ منهم في الدخول إلى سوريا حيث مات ثلاثة من بينهم العجوز. في يوليو ٢٠١٧، رجع ١٧ المتبقين إلى إندونيسيا. 

هشام النجار، الباحث والصحفي المصري القريب من ملف الإرهاب في إندونيسيا تحدث عن هذا “الطقس العائلي” وقال: “إن هؤلاء الذين يتبعون تقليد الجهاد الأسري بحيث تشترك العائلة كلها في العملية، هم ليسوا أصلاً من داعش وإنما من حزب التحرير الذي نشط في إندونيسيا قبل حظره في ٢٠١٧، والذي يشترك مع داعش في وجوب إقامة الخلافة الإسلامية وتغيير الواقع بالقوة. المنهج الذي يقوم عليه الحزب هو ضرورة انضمام الأسرة كلها إلى الحزب وليس فرداً منها وحسب. يجب أن تشارك العائلة كلها في النشاطات الحزبية ابتداءاً من الحلقات الدعوية إلى تنفيذ العمليات العسكرية.”

إندونيسيا: عائلات في "مهمة" انتحارية

أول انتحارية إندونيسية اسمها ديان يوليا نوفي – المصدر TV One News

في هذه النقطة تحديداً، لا شك أن الانتحاريات في إندونيسيا تحوّلن اليوم عمّا كنّ عليه قبل سنوات. أول إندونيسية أعدّت هجمة انتحارية كانت (ديان يوليا نوفي) وذلك في ديسمبر ٢٠١٦. السلطات أحبطت الهجمة التي استهدفت القصر الرئاسي في جاكارتا. قبل ذلك بشهرين فقط، تزوجت (ديان) من (محمد نور صلاحين) وكان زعيم جماعة إرهابية مرتبطة بشكبة الإرهابي (بحر النعيم). تزوج الاثنان بالوكالة. صلاحين لم يحضر الزفاف الذي كان هدفه إعداد (ديان) لتكون انتحارية. خطط لها الانتحار وانطلقت في المهمة قبل أن تردعها الشرطة. (ديان) كانت حُبلى بطفل وضعته في السجن. 

مصدر الصورة: AP – ديان نوفي وزوجها في المحكمة

للمزيد:

داعش يعدّ الانتحاريات لتعويض نقص الرجال

انتحاريات بوكو حرام.. أصغرهنّ في السابعة!