تختلف الاحتجاجات الحالية التي تصاعدت حدتها في إيران بداية من 16 سبتمبر الفائت، عن مثيلاتها من الاحتجاجات السابقة، من نواحٍ عديدة ثقافية واجتماعية وأمنية. لكن ربما يكون المتغير الأهم الذي يضفي خصوصية على تلك الاحتجاجات هو أنها فرضت قوة ثالثة في المشهد الإيراني، هي قوة الشارع.

صحيح أن الشارع كان موجوداً في الاحتجاجات السابقة، حيث تشير تقديرات عديدة إلى أن عدد الاحتجاجات في إيران تجاوز أربعة آلاف احتجاج في عام 2021، إلا أن تأثيره وضغوطه لم تصل إلى هذا الحد، حيث أصبح الشارع، إلى حد كبير، عابراً للقوميات والطبقات والأجيال، والأهم من ذلك عابراً للتيارات السياسية الموجودة.

استنساخ النموذج

هنا، يمكن القول إن التجربة التي سبق أن شهدتها دول مثل العراق ولبنان، عندما تصاعدت ضغوط الشارع، ووصلت إلى حد اندلاع انتفاضات منددة بتردي الأوضاع الداخلية وتفاقم التدخلات الخارجية، لا سيما الإيرانية، على غرار انتفاضة تشرين 2019، وصلت ارتداداتها إلى داخل إيران نفسها. وهنا، فإن المفارقة تكمن في أن السياسة التي يتبناها نظام ولاية الفقيه كانت قاسماً مشتركاً في مجمل هذه الانتفاضات.

هل تفرض الاحتجاجات "القوة الثالثة" في إيران؟

ففي العراق ولبنان، بدا جلياً أن ثمة رفضاً واضحاً للتدخلات الإيرانية السافرة في الشؤون الداخلية للدولتين، والنفوذ الذي تملكه إيران على قوى سياسية ومليشيات مسلحة بعينها، والذي فرض عواقب خطيرة على المستويات المختلفة السياسية والاقتصادية والأمنية. وانعكس هذا الاستياء في شعارات عديدة على غرار “بغداد حرة حرة.. إيران برة برة” و”كِلُّن يعني كِلُّن”، في إشارة إلى رفض ارتهان قسم من النخب السياسية العراقية واللبنانية لإيران، وخاصة مليشيات مثل الحشد الشعبي في العراق وحزب الله في لبنان.

أما في داخل إيران، فإن رفض التدخلات الخارجية يعود إلى “كُلفتها” الباهظة، التي استنزفت الموارد الإيرانية، في وقت تتصاعد فيه الضغوط الاقتصادية، بسبب فشل الحكومات المتعاقبة في التعامل مع العقوبات الأمريكية، واستمرار الخلافات مع القوى الدولية، وخاصة الدول الغربية، حول قضايا رئيسية مثل البرنامج النووي، والصواريخ الباليستية، والتدخلات الإقليمية. وكان شعار “لا غزة ولا لبنان.. روحي فداء إيران” أحد الشعارات المميزة والبارزة للاحتجاجات الإيرانية المختلفة، نتيجة استياء قطاع واسع من الإيرانيين إزاء الدعم المستمر الذي تقدمه إيران للفصائل الفلسطينية المسلحة ولحزب الله اللبناني وحركة المتمردين الحوثيين.

تجاوز الاستقطاب

ومن دون شك، فإن أهم ما يميز هذه الاحتجاجات هو أنها نجحت، إلى حد كبير، في تجاوز الاستقطاب الكلاسيكي القائم في إيران، بين المحافظين والإصلاحيين. ففي عام 2009، على سبيل المثال، وصل هذا الاستقطاب إلى ذروته عندما قادت “الحركة الخضراء” المحسوبة على التيار الإصلاحي الاحتجاجات اعتراضاً على فوز الرئيس الأسبق محمود أحمدي نجاد بفترة رئاسية ثانية، وانتهى بها الحال إلى فرض الإقامة الجبرية على زعيمي الحركة مير حسين موسوي رئيس الوزراء الأسبق ومهدي كروبي رئيس مجلس الشورى الأسبق.

أما الآن، فإن هذه الاحتجاجات لم تعد تتماهى مع هذا الاستقطاب التقليدي، بل يمكن القول إنها سعت إلى التمرد عليه. فعندما يهتف المحتجون بشعار “مرگ بر ديكتاتور” أو (الموت للديكتاتور)، في إشارة إلى المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي، فإنهم يهتفون ضد تيار المحافظين الأصوليين الذي يسيطر على معظم مؤسسات صنع القرار في إيران إن لم يكن مجملها، وفي الوقت نفسه تيار الإصلاحيين الذي لم يبرز دوره في الاحتجاجات الحالية أو الاحتجاجات التي تلت أزمة عام 2009.

هل تفرض الاحتجاجات "القوة الثالثة" في إيران؟

ويعني ذلك في المقام الأول أنه حتى الشارع الإيراني بات يرفع بدوره شعار “كِلُّن يعني كِلُّن”، في إشارة إلى مجمل التيارات السياسية التي ما زالت موجودة على الساحة حتى الآن، سواء داخل السلطة أو خارجها. ويمكن تفسير ذلك في ضوء عوامل أساسية ثلاثة:

الأول: أن معظم أجنحة وأقطاب التيار الإصلاحي ما زالت تؤمن بنظام ولاية الفقيه رغم كل القيود والضغوط التي تتعرض لها منذ عام 2009. ويبدو الرئيس الأسبق محمد خاتمي مثالاً على ذلك. صحيح أنه لا يخضع للإقامة الجبرية، على غرار موسوي وكروبي، إلا أن تحركاته باتت محدودة، حيث لا يظهر بشكل علني كثيراً، باستثناء مشاركته في الإدلاء بصوته في الاستحقاقات الانتخابية المختلفة.

حرص خاتمي على المشاركة في الانتخابات المختلفة يمثل رسالة من جانبه يسعى إلى تأكيدها مراراً بأنه لم يتمرد على النظام ولا يسعى ولا يدعو إلى إجراء تغييرات كبيرة في بنيته العقائدية على عكس ما تروج وسائل الإعلام وتصريحات بعض أقطاب تيار المحافظين الأصوليين.

الثاني: أن هؤلاء الأقطاب والكوادر حرصوا على عدم الانخراط في الاحتجاجات الحالية، ربما باستثناء مير حسين موسوي، الذي دعا القوات المسلحة، في أول أكتوبر الجاري، إلى الوقوف إلى جانب المواطنين، مضيفاً في بيان: “لا يحق لأحد أن يقف ضد الشعب وينفذ الأوامر بشكل أعمى”، وهو هنا يشير تحديداً إلى التعليمات التي يصدرها قادة النظام إلى قوات الأمن والجيش بالتدخل لقمع المحتجين، وهو التدخل الذي كان أحد الأسباب التي أدت إلى تفاقم الاحتجاجات واتساع نطاقها تدريجياً.

وسبق لموسوي أن ركز على دور مجتبي خامنئي، الابن الثاني للمرشد، الذي يمتلك نفوذاً سياسياً بارزاً نتيجة عمله في مكتب والده وعلاقاته القوية مع الحرس الثوري، حيث انتقد الدور الذي يمارسه، خاصة فيما يتعلق بقمع الاحتجاجات، مشيراً إلى أنه يسعى إلى خلافة والده في منصبه.

وبالطبع، فإن عزوف الإصلاحيين عن الانخراط في الاحتجاجات الحالية، عبر دعمها على الأقل معنوياً، يعود في المقام الأول إلى مخاوفهم من تكرار سيناريو 2009، حيث ما زالوا حتى الآن يتعرضون لاتهامات بأنهم مسؤولون عن قيادة ما يسميه المحافظون الأصوليون بـ”تيار الفتنة”، في إشارة إلى “الحركة الخضراء” تحديداً. بل إنهم يوصفون في المرحلة الحالية بأنهم “التيار الموالي للغرب” أو “المتغربنون”، خاصة في ظل دعمهم السابق للمفاوضات مع الولايات المتحدة الأمريكية وللاتفاق النووي الذي توصلت إليه إيران ومجموعة “5+1” في 14 يوليو 2015.

وهنا، فإنهم يدركون أن النظام سوف يسعى إلى استغلال أي تأييد من جانبهم للاحتجاجات من أجل إضفاء وجاهة على الادعاءات التي يروج لها والخاصة بوجود مخطط خارجي تدعمه أطراف داخلية يهدف إلى تقويض دعائم النظام عبر نشر الفوضى وتأجيج الاحتجاجات.

هل تفرض الاحتجاجات "القوة الثالثة" في إيران؟

الاحتجاجات تتوسع في إيران تنديدا بمقتل مهسا أميني -أ ف ب

 

الثالث: إن تيار المعتدلين – والذي يضم بعض أقطاب الإصلاحيين وكوادر المحافظين التقليديين – يسعى باستمرار إلى العودة إلى السلطة من جديد، بعد أن خرج منها بانتهاء الولاية الثانية للرئيس السابق حسن روحاني في عام 2021، حيث سبق أن تعرض كثير من مرشحيه للاستبعاد من انتخابات مجلس الشورى (البرلمان) التي أجريت في عام 2020، بعد أن رفض مجلس صيانة الدستور- الذي يمتلك صلاحية البت في ملفات المرشحين ومراقبة قوانين وتشريعات مجلس الشورى – طلبات ترشحهم مستنداً إلى اعتبارات فضفاضة.

ورغم ذلك، تشير تقارير عديدة إلى أن هذا التيار يستعد من الآن للمنافسة في الانتخابات البرلمانية التي سوف تجري في عام 2024، والتي يمكن أن تعزز فرصه، في حالة تحقيقه نتائج بارزة، في تصعيد أحد كوادره للترشح في الانتخابات الرئاسية التي سوف تجري بعد ذلك بعام، وسيترشح فيها الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي للفوز بولاية ثانية.

ويعني ذلك أن هذا التيار- الذي كان يقوده في السابق الرئيس الأسبق هاشمي رفسنجاني (توفى في 8 يناير 2017) ويتزعمه حالياً الرئيس السابق حسن روحاني- ما زال ملتزماً بالقواعد التي يحددها النظام الحاكم، وما زال حريصاً على الانضواء داخل عباءة المرشد علي خامنئي نفسه، رغم كل الإجراءات التي اتخذت ضده لإضعاف حضوره في مختلف مؤسسات الدولة.

فقد كان لافتاً، على سبيل المثال، أن الرئيس روحاني نفسه، استبعد من تشكيلة مجلس تشخيص مصلحة النظام- وهو الهيئة المنوط بها تعيين السياسة العليا للنظام بالاتفاق مع المرشد والفصل في الخلافات التي تنشب بين مجلس الشورى ومجلس صيانة الدستور- والتي أصدرها المرشد الأعلى علي خامنئي في 21 سبتمبر الفائت.

كما أن كثيراً من المسؤولين الذين عملوا في إدارة روحاني استبعدوا من مناصبهم، خاصة أولئك الذين شاركوا في المفاوضات النووية مع مجموعة “5+1″، والتي أسفرت عن الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، على غرار عباس عراقجي مساعد وزير الخارجية للشؤون السياسية وكبير المفاوضين النوويين، الذي استبعد من منصبه في 15 سبتمبر 2021 – بعد نحو شهر من بداية ولاية الرئيس الحالي إبراهيم رئيسي- وعين محله علي باقري كني الذي ينتمي إلى تيار المحافظين الأصوليين.

وفي النهاية، يمكن القول إن الشارع في إيران يتحول تدريجياً ليصبح قوة ثالثة سوف تخصم، بدرجة كبيرة، من أهمية ونفوذ التيارين الرئيسيين الموجودين على الساحة، وربما يساهم في إعادة تشكيل خريطة التوازنات السياسية الجديدة، لا سيما في ظل المعطيات والظواهر الجديدة التي فرضتها الاحتجاجات الحالية، والتي لم يعتد عليها نظام ولاية الفقيه منذ سيطرته على السلطة قبل ما يزيد على أربعة عقود.