جاء انهيار قطاع الطاقة على مستوى باكستان في أوائل شهر كانون الثاني\ يناير الماضي، في وقت ارتفعت فيه الديون المتعلقة بهذا القطاع في البلاد، إلى أكثر من 14.4 مليار دولار، فيما الحكومة منشغلة في قضية “مدفوعات السعة” مع منتجي الطاقة من القطاع الخاص، الذين يبدو أنّهم عازمون على استرداد مستحقاتهم التي تصل قيمتها إلى المليارات. وفعلياً، فإن تأثير الإستثمار الصيني في قطاع الطاقة، والديون الدائرية المتزايدة، وخسائر النقل العالية، وعدم كفاءة شركات الطاقة، كلّها عوامل جعلت تكلفة الكهرباء في باكستان بعيدة عن متناول عامة الناس.

 

باكستان

صورة تظهر خطوط الكهرباء التي تتدلى من أبراج النقل في محطة ساهيوال الباكستانية التي تملكها الصين / Getty Images

الهيئة الوطنية لتنظيم الطاقة الكهربائية في باكستان (NEPRA)، قامت بمراجعة تعرفة الطاقة أكثر من 22 مرّة منذ العام 2019. واستشهدت الهيئة بتعديلات شهرية على الوقود وتعديلات ربع سنوية لرفع التعرفة، التي تمّ رفعها في الواقع بسبب مدفوعات السعة التي تقدّر بمليارات الروبيات المقدمة لمنتجي الطاقة المستقلين (IPP).

 

باكستان

صورة تظهر كوابل الكهرباء في مدينة كراتشي الباكستانية / Getty Images

وقال بادشا جان، بائع التبغ في بلدة يونيفيرسيتي تاون الفاخرة في بيشاور لـ”أخبار الآن“: “لقد زادت فواتير الكهرباء الشهرية لدينا بشكل متنوع خلال العامين الماضيين تقريباً عندما تولت الحكومة التي يرأسها عمران خان، السلطة”.

 

الصين تطفىء أنوار باكستان.. استثمارات بكين ترفع تكلفة الطاقة "المتهالكة"

مواطن باكستاني يتحدث لـ “أخبار الآن” عن زيادرة فواتير الكهرباء في البلاد

وأعرب جان عن أسفِه لأنه على الرّغم من ارتفاع التكلفة، فإنّ خدمات شركات الطاقة تراجعت، ويضيف: “لقد عانينا من انقطاع الكهرباء لمدة 8 ساعات يومياً، في حين أنّ تقلّبات الطاقة تضرّ بالأجهزة المنزلية”. وتابع أنّ “الحكومة تسترد أيضاً رسوم تلفزيون باكستان الحكومي (PTV) من مستهلكي الكهرباء، على الرغم من أنّ معظم الناس لا يشاهدون هذه القناة”.

ومع انقطاع التيار الكهربائي على صعيد باكستان بأكملها في منتصف الليل، غرّد الوزير الفيدرالي للطاقة عمر أيوب خان قائلاً، إنّ “عطلاً تقنياً في محطة “جودو” للطاقة أدّى إلى تأثير متتالٍ، وإنّ كلّ محطات توليد الكهرباء الرئيسية التي تزود المدن الكبرى بالطاقة قد توقفت عن العمل”. ومع هذا، فقد زعم خان أنّ “خطأ بشرياً” تسبب في انطقاع الكهرباء الهائل، وهو الأمر الذي سيخضع لتحقيق شامل.

 

باكستان

صورة تظهر كوابل الكهرباء في مدينة كراتشي الباكستانية / Getty Images

وفي وقتٍ لاحق، أوقفت شركة توليد الطاقة المركزية الباكستانية سبعة مسؤولين من محطة “جودو” الحرارية لتوليد الطاقة، بسبب الإهمال الذي أدّى إلى انقطاع كبير في التيار. ومع ذلك، لم يسلّط التحقيق الضوء على طبيعة وأسباب الخلل الذي ظهر في محطة “جودو” للطاقة. ولم يكن الإنقطاع الكبير للكهرباء مؤخراً هو الأوّل من نوعه، وقد لا يكون الأخير ما لم يتم حلّ المشكلات الحقيقية التي تواجه قطاع الطاقة في باكستان.

وفي حديث لـ”أخبار الآن“، قال جول حميد، الذي يدير متجراً لبيع اللحوم في مقاطعة خيبر بختونخوا الشمالية الغربية في باكستان: “لقد تكبّدنا خسائر فادحة لأن نظام التبريد لدينا توقف عن العمل لمدة 24 ساعة”. وأوضح حميد أنّه “تمّ رفع تعريفة الكهرباء التي أصبحت تقريباً الضعف خلال العامين الماضيين”، معرباً عن أسفه بسبب “لامبالاة موظفي الكهرباء”. كما كشف أنّ سلكاً حيّاً من خط النقل الرئيسي كان معلقاً فوق منزله، لكن السلطات لم تصلّحه رغم الشكاوى المتكررة.

وتقع محطة “جودو” الحرارية للطاقة، التي تمّ تحديدها على أنّها المكان الذي حصل فيه الخطأ، في منطقة كشمور في السند. وفعلياً، تعدّ هذه المحطة من أكبر محطات الطاقة الحرارية في القطاع العام في باكستان. وكانت للمحطة 17 وحدة طاقة مركّبة، وتراوح إسهامها في الشبكة الوطنية بين 1400 ميغاواط و 1750 ميغاواط. وقد افتتح رئيس الوزراء الباكستاني السابق نواز شريف في العام 2015 إحدى محطات الطاقة ذات الدورة المركبة (CCPP) في “جودو”، وهذا المعمل خاضع للخصخصة وقد دعت وزارة الخصخصة الباكستانية المستشارين الماليين لإبداء الاهتمام لبدء عملية بيعه في أغسطس/آب 2019، علماً أنّ هذا المعمل يستطيع توليد 747 ميغاواط من الكهرباء.

وعلم موقع “أخبار الآن” أنّ شركات الطاقة الصينية أبدت اهتماماً بالحصول على محطة “جودو” للطاقة من خلال عملية الخصخصة. وفي وقت سابق من العام 1983، كانت شركة صينية وهي “Harbin Electric International Company Limited (HEI)”، تعاقدت من أجل بناء وحدة طاقة حرارية بقدرة 210 ميغاوات في محطة “جودو” الحرارية للسلطات الباكستانية.

وتشارك الصين بشكل كبير في قطاع الطاقة في باكستان، لكن اهتمامها يتركز على الربحية بدلاً من الاستفادة من قطاع الطاقة المنهار، والذي يستهلك موارد البلاد الشحيحة.

ويميل المستثمرون الصينيون أكثر إلى بناء وحدات طاقة، لكنّهم نادراً ما يستثمرون في جانب الطلب أو التوزيع، وهو أمر يشهد حالة من الفوضى. وبصرف النظر عن الممر الاقتصادي الصيني الباكستاني (CPEC)، تعاقد الصينيون أيضاً على بناء مشاريع طاقة غير تابعة لهذا المشروع.

وتقوم شركة “Power China”، في مشروع مشترك مع منظمة “Frontier Works”، وهي جناح بناء تابع للجيش الباكستاني، ببناء سد ديامير باشا بقدرة 4500 ميغاواط ومشروع طنجة للطاقة الكهرومائية 21 ميغاواط بتكلفة إجمالية قدرها 8.8 مليار دولار. وسيكتمل المشروع في العام 2028 بسعة تخزين إجمالية تبلغ 8.1 مليون هكتار قدم (MAF).

وذهب نصف أموال الممر أو أكثر من 30 مليار دولار إلى قطاع الطاقة. وقد شارك العديد من المستفيدين الصينيين في بناء 27 محطة طاقة في باكستان بسعة إجمالية مركّبة تبلغ 12000 ميغاواط في إطار برنامج “CPEC”.

وبحسب المعطيات، فإنّ هناك 14 محطة تعمل بالفحم، و 6 تعمل بطاقة الرياح فضلاً عن 6 محطات أخرى تعمل بالطاقة المائية، إلى جانب مشروع واحد للطاقة الشمسية، وجميعها قد يتمّ تشغيلها خلال السنوات القليلة المقبلة. وبين هذه المحطات، يوجد 16 في السند، و 4 في البنجاب، 2 في بلوشستان، وواحدة في خيبر باختونخوا، 2 في كشمير الباكستانية، و 2 في جيلجيت بالتستان.

ويشكّك المحللون في جدوى استثمارات الطاقة في الممر، ويرجع ذلك أساساً إلى أنّ معظم الإستثمارات الصينية تركّز على توليد الطاقة، متجاهلةً جوانب التوزيع والطلب المتدهورة. ومع هذا، يقول المحللون إنّ مشاريع الطاقة التي تموّلها الصين، بعد اكتمالها، ستستخدم في الغالب البنية التحتية المتدهورة الحالية، والتي كانت تتسبب في خسارة سنوية بنسبة 25%.

وقال ألطاف خان، وهو صاحب محل صغير لبيع مستحضرات التجميل على طريق البارة الرئيسي في بيشاور لـ”أخبار الآن“: “لم يستفد الناس من عشرات وحدات الطاقة التي تبنيها الحكومة بدعم من الحكومة الصينية، لأنّنا ما زلنا نواجه انقطاعاً في التيار الكهربائي بشكل متكرّر وهو مصدر استنزاف مستمر لأعمالنا الصغيرة”. وأكّد خان أنّ “فواتير الكهرباء ارتفعت بينما السوق في حالة ركود”، مضيفاً: “لا أعرف كيف سنلبي احتياجاتنا في مواجهة ارتفاع تكلفة المرافق وتضخم أسعار الغذاء”.

ويتفاوض فريق وزاري رشحه رئيس الوزراء عمران خان حالياً مع منتجي الطاقة المستقلين (IPPs) الذين بلغت مستحقاتهم من الجهات الحكومية اعتباراً من يونيو/حزيران 2020، نحو 1.15 تريليون روبية (26.42 مليار درهم إماراتي)، بينما كانت الحكومة مدينة لهم بمبلغ إضافي قدره 600 مليار روبية (13.76 مليار درهم إماراتي) مقابل تكلفة الكهرباء المنتجة والمضافة إلى الشبكة الوطنية. ويطالب المستثمرون المستقلون الآن بدفع ما لا يقل عن 200 مليار روبية (4.6 مليار درهم إماراتي) من إجمالي مستحقاتهم لتجنب الإغلاق، لأنهم يواجهون بالفعل أزمة مالية خطيرة.

من ناحية أخرى، تحاول الحكومة إقناع “IPPs” بمراجعة اتفاقيات شراء الطاقة الأصلية (PPAs) التي تم توقيعها في العام 1994 لتوفير ما قيمته 836 مليار روبية (19 مليار درهم إماراتي) من تكلفة الكهرباء. ومن المفارقات، فإن الحكومة، ومن أجل مراجعة اتفاقيات شراء الطاقة، قد تخطت “IPPs” المنشأة بموجب سياسة الطاقة 2015، بما في ذلك IPPs الصينية.

وقال مفتاح إسماعيل، وزير المالية الباكستاني الأسبق، في رسالة بالفيديو الأسبوع الماضي، إنّ “حكومة عمران خان اضطرت إلى زيادة تعريفة الكهرباء بمقدار 1.95 روبية (0.044 درهم إماراتي) للوحدة، بسبب تنامي ديون الطاقة التي تجاوزت عتبة 2400 مليار روبية (54.77 مليار درهم إماراتي). وأدلى وزير المالية السابق في حزب الرابطة الإسلامية الباكستانية – نواز بهذه التعليقات رداً على الزيادة الأخيرة في تعرفة السلطة من قبل حكومة حركة إنصاف الباكستانية الحاكمة.

وقال إسماعيل إنّ الزيادة الحالية في التعريفة ستكلف الفقراء 200 مليار روبية أخرى (4.56 مليار درهم إماراتي)، وأضاف: “لقد تركنا ديون الطاقة عند 1.036 مليون روبية (23.64 مليار درهم إماراتي)، والتي تضمنت كلاً من خسائر الطاقة وقروض البنوك، والآن تجاوزت التريليونات”.

 

 

وفي العام 2019، أعادت “NEPRA” في تقريرها عن حالة قطاع الطاقة لعام 2019، تأكيد صلاحية اتفاقيات شراء الطاقة. وشدد التقرير على آثار “المدفوعات الزائدة” المقدمة إلى “IPPS”، كما رأى أنّ الضائقة في قطاع الطاقة كانت نتيجة الاتفاقات الخاطئة التي تمّ تنفيذها مع “IPPs”.

وفي أبريل/نيسان من العام الماضي، كشفت لجنة مكونة من 9 أعضاء برئاسة رئيس سابق للجنة الأمن والتبادل الباكستانية (SECP)، النقاب بشكل كبير عن الممارسات الخاطئة في قطاع الطاقة. وقد قدّمت لجنة تقصّي الحقائق تقريراً من 296 صفحة إلى رئيس الوزراء عمران خان، والذي رفع الغطاء عن فساد “IPP”، بما في ذلك الوحدات الصينية التي تمّ تركيبها بموجب ترتيب بين الحكومات للعملية المتعلقة بالممر الاقتصادي الصيني الباكستاني.

ويكشف التقرير أنّ معظم منتجي الطاقة المستقلين “IPPs” بما في ذلك تلك المنشآت المرتبطة بالممر الإقتصادي، قد تحدّوا سياسة الحكومة وحققوا ربحاً بنسبة 50 إلى 70% مقابل 15% التي حددتها الهيئة التنظيمية مع مؤشر سعر الدولار.

وحقق العديد من “IPPS” أرباحاً تصل من 10 إلى 20 مرّة أكثر من حجم استثماراتهم الأوّلية. ويشير التقرير إلى أنّ 16 شركة مستقلة للإستثمار استثمرت رأسمالاً إجمالياً يتراوح بين 300 و 500 مليون دولار (درهم إماراتي 1.1 مليار إلى 1.8 مليار دولار)، وحققت أرباحاً تزيد عن 2.6 مليار دولار (9.54 مليار درهم إماراتي). كما أنّ التقرير يتتبع  100 مليار روبية (229 مليون درهم إماراتي) زيادةً سنوية في المدفوعات إلى “IPPs”، ويسلّط الضوء على حجم الربح للشركات الطاقة الصينية.

وكشف التقرير أنّ شركة Huaneng Shandong Ruyi Energy (HSR)، التي نفذت مشروع ساهيوال لتوليد الطاقة بالفحم بقدرة 1320 ميغاواط في البنجاب، وكذلك شركة “Port Qasim Electric Power Company Limited (PQEPCL)”، قامتا بتضخيم تكاليف منشآتهما. وقد بلغت قيمة الشركتين 3.8 مليار دولار في وقت الإطلاق، ووجدت اللجنة مدفوعات زائدة قدرها 483.64 مليار روبية (11 مليار درهم إماراتي) لهذه الشركات خلال السنوات الـ3 الماضية.

ومع قدرة غير كافية ونظام نقل للطاقة متهالك، استمرت باكستان في تلك المعاناة المتأتية جرّاء انقطاع التيار الكهربائي الكبير والمتكرر لعقود. وفي خضم هذا الأمر، تكمن مشكلة “الديون المشتركة بين الشركات” أو “الديون الدائرية”، والتي تقوّض قدرة وكالة شراء الطاقة على سداد المدفوعات في الوقت المحدد للمولدات.

الصين تطفىء أنوار باكستان.. استثمارات بكين ترفع تكلفة الطاقة "المتهالكة"

صورة تظهر خطوط الكهرباء التي تتدلى من أبراج النقل أمام برج التبريد في محطة ساهيوال لتوليد الطاقة بالفحم ، المملوكة للدولة الصينية / Getty Images

ووفقاً لما حدّدته لجنة التنسيق الاقتصادي (ECC) التابعة لمجلس الوزراء في عام 2014، فإنّ الدين الدائري هو مقدار النقص النقدي، ما يعيق قدرة الوكالة المركزية لشراء الطاقة (CPPA) على الدفع لشركات الإمداد بالطاقة.

كذلك، كلّف فشل الحكومات في احتواء الدين الدائري البلاد أكثر من 4 تريليونات روبية (91.75 مليار درهم إماراتي) في السنوات الـ 13 الماضية، مع خسارة سنوية قدرها 370 مليار روبية (8.51 مليار درهم إماراتي).

ويتراكم المبلغ المتأخر بسبب الإختلاف بين تكلفة التوليد الفعلية والتعرفة التي تحددها الهيئة التنظيمية. كذلك، يؤدّي عدم سداد الحكومة لدعم الطاقة والتأخير في تحديد الرسوم الجمركية من قبل المنظم إلى مضاعفة حجم الديون. ومع هذا، تنعكس خسائر النقل والتوزيع، والدفع المتأخر، وسرقة الكهرباء واختلاسها على الديون الدائرية.