الفقر والبؤس والجوع، وضف إلى كلّ ذلك الأمراض لا سيّما فيروس كورونا الذي يتفشى مؤخراً بقوّة في إيران التي تعتّم على أعداد الإصابات والوفيات.. كلّها عوامل جعلت مساحة “العيش الكريم” للشعب الإيراني ضيقة جدّاً، بينما تواصل السلطات الإيرانية سياستها القمعية في الملاحقة والإخفاء والسجن… كلّها مؤشرات تدلّ على أنّ الشعب الإيراني يعيش في ظل حكم مستبد يعتمد في سياساته القمع حلاً لوأد التظاهرات والحلم بالتغيير.

“احتجاجات البنزين” التي اندلعت في إيران منتصف نوفمبر العام 2019، والتي شارك فيها أفراد الطبقات العاملة والأفقر في المجتمع الإيراني، كانت على خلاف سابقاتها من المظاهرات، إذ خرج الإيرانيون إلى الشارع مطالبين بالتغيير والعمل على تحسين أوضاعهم المعيشية، وكذلك داعين سلطات بلادهم إلى عدم التدخل في شؤون الدول.. هذه التظاهرات استفزت النظام الإيراني الذي سارع إلى قمعها لإنهائها، وكانت النتيجة أن قتل نحو 161 شخصاً على الأقل، بحسب تقديرات منظمة العفو الدولية. لكنّ الأمر  لم ينتهِ عند هذا الحد، إذ قادت الآلاف إلى الاعتقال.

الإيراني “بويا باختياري“، 27 عاماً، هو أحد ضحايا وحشية النظام ودمويته.. فقد توفي بويا باختياري في حضن والدته برصاصة أصابته في رأسه في 16 نوفمبر العام 2019 في مدينة كرج مركز محافظة البرز، وذلك أثناء مشاركته في الاحتجاجات. ولاقت قضية قتله ردود فعل واسعة النطاق، كما أنّ رد فعل والديه حظي باهتمام قومي، ليصبح هذا الشاب الإيراني أحد رموز احتجاجات نوفمبر 2019. وحينذاك قال والده منوشهر باختياري: “ابني كان يريد الحرية والرفاه فقط”.

تفرقت عنه والدته بين الحشود فوجدته جثة!

يستذكر والد الشاب بويا باختياري، ذلك اليوم الحزين بأسى كبير جدّاً، إذ لا تغيب عن باله لحظة إطلاق قوات الأمن الإيرانية النار على ابنه اليافع وقتله بينما كان يسير مع والدته وشقيقته في الاحتجاجات، “حيث تفرّق باختياري عنهما بسبب الحشود الغفيرة. ويضيف: “بعد دقائق شاهدت والدته متظاهرين يحملون جثة وهم يصرخون: سنقتل من قتل شقيقنا”! أصيبت والدة بويا بصدمة شديدة جرّاء مقتل ابنها، ويقول زوجها: “إنّها محطمة عقلياً منذ أن شاهدت جمجمة ابنها ممزقة برصاصة”.

وفي مقطع فيديو نشرته الصحافية الإيرانية مسيح علي نجاد، على حسابها في موقع تويتر، قال منوشهر باختياري: “إذا تمّ رفع العقوبات عن النظام الإيراني، فإنّه سيعمد إلى شراء أسلحة لقتل أطفالنا باستخدام الأموال التي سيجنيها من بيع النفط الإيراني والموارد الأخرى، وسينفقون الأموال في العراق واليمن ولبنان، ولن ينفقوها على الإيرانيين”.

دفن ضحايا الاحتجاجات ساحة معركة في إيران

قصة بويا باختياري واحدة من قصص كثيرة يعانيها الإيرانيون ويعيشون مآسيها. وفي الذكرى الأربعين لوفاة الشاب، التي تحولت إلى مناسبة ثورية جماهيرية، أرادت العائلة تكريمه وفق التقاليد والعادات السائدة هناك، لكنّ ذلك على ما يبدو أزعج النظام الذي سارع إلى اعتقال أفراد العائلة، بحسب ما نقلت وسائل إعلام إيرانية، مع الإشارة إلى أنّ عائلة باختياري كانت تعهّدت برفع دعوى قضائية لتحديد هوية قاتل ابنها، منتقدةً وحشية النظام ضدّ شعبه. وتقول منظّمات حقوقية إنّ اعتقال عائلة باختياري هو استمرار لمعاملة النظام غير الإنسانية لأسر ضحاياه.

ملاحقة أسر ضحايا الاحتجاجات وقمعها!

ليس هذه العائلة الوحيدة التي رفعت شكوى في وجه النظام. ووفق والد الشاب المتوفى، فإنّ “أسرة كل من حسین قنواتي، وإحسان عبدالهي ‌نجاد، وإبراهیم کتابدار، وأسرة آرشام ابراهیمي، وسیروس سهروردي، ورسول قویمي، جميعهم قدم شكاوى وهم محتجون على قمع النظام”، كاشفاً أنّ الاستخبارات الإيرانية تتصل بعائلات عديدة وتعمد على تهددها”. وأضاف: “مثلاً ثمّة شخص من عائلة فرزاد أنصاري فر، فقد قامت الإستخبارات باقتحام المنزل ليلًا، وأضرمت النار في سيارة أخته”.

وعلى الرغم من أنّ السلطات اعتقلت والِدَي بويا والعديد من أقاربه، بما في ذلك ابن عمه البالغ من العمر 11 عاماً، إلّا أنّ الناس خرجت إلى مقبرة “بهشت سكينة في كرج”، جنوب غربي طهران وأحيت المناسبة بإقامة حداد وترديد شعارات مناهضة للنظام الإيراني، فضلاً عن شعارات أخرى ضدّ المرشد الإيراني خامنئي، الذي وصفوه بـ”القاتل”. لكن في المقابل، شنّت قوات الأمن هجوماً عنيفاً ومباغتاً على المقبرة حيث اعتقلت نحو 30 شخصاً، بحسب ما أفاد ناشطون.

جدة بويا باختياري تروي معاناتها

إلى ذلك، أعلنت زهراء باختياري، وهي جدة الشاب بويا باختياري، عن اختفاء ابنها مهرداد باختياري. وقالت في مقطع فيديو قصير، إنّ ابنها مهرداد غادر المنزل مساء السبت لشراء الخبز، لكنّه اختُطف ولم يعُد. وانتشر فيديو لها على مواقع التواصل الاجتماعي، تخاطب فيه مسؤولي النظام الإيراني، قائلة: “لقد قتلتم حفيدي بويا، وتسجنون ابني الآخر منوشهر منذ أربعة أشهر، لماذا تخطفون ابني”؟

واعتُقلَ منوشهر باختياري، والد بويا، في جزيرة كيش في يوليو الماضي بسبب الاحتجاج على وثيقة التعاون الإيرانية الصينية التي تبلغ مدتها 25 عاماً. كما طالب بتحقيق العدالة بشأن مقتل ابنه. وقد تمّ نقله إلى سجن بندر عباس جنوب البلاد على إثر تصريحات أدلى بها يوم الأحد 7 يونيو  2020 قال فيها إنّ علي خامنئي “فقد عقله”. وكان قد اعتقل في السابق أيضاً قرابة الشهر من دون محاكمة، لإصراره على إحياء مراسم مرور أربعين يوماً على وفاة ابنه بويا في مقبرة “بهشت سكينة” في كرج، على الرغم من تهديد الاستخبارات الإيرانية إذا ما زار قبر ابنه وفعل ذلك.

ويُرجع والد بويا السبب في منعه من إحياء ذلك، إلى أنّ عناصر الاستخبارات الإيرانية قالوا له: “في حال أقمتم مراسم العزاء في مكان مفتوح، قد لا يمكننا السيطرة عليها، وربّما سيؤدّي الأمر إلى احتجاجات وقتل بعض الحاضرين”. فردّ عليهم بالقول: “كيف لا تستطيعون تأمين مراسم عزاء وأنتم الذين تمكنتم من اختطاف شخص من الخارج وجلبه للبلاد”؟ وسأل والد بويا باختياري: “أين يجب أن نذهب؟! هل هناك محكمة مختصة؟ هل القضاء الإيراني ملاذ آمن للشعب الإيراني المضطهد؟ مضيفاً أنّ “القضاء في إيران آداة في أيدي هؤلاء، ولا توجد محكمة مختصة يمكنها أن تنتزع حقوقنا”.

لكنّ النظام الإيراني لم يكتفِ بهذا القدر من الاضطهاد والترهيب، إذ أعلن بهمان صادقي نور، ابن خال بويا باختياري، أنّ قوات الأمن اعتقلت عدداً كبيراً من المحامين والضيوف، تزامنًا مع حضورهم إلى منزل عائلة بويا، لتقديم واجب التعزية والمواساة.

ردود أفعال 

ودان وزير الخارجية اﻷمريكي مايك بومبيو، في تغريدته على حسابه في موقع تويتر، اعتقال أفراد عائلة بويا باختياري، داعياً إلى الإفراج الفوري عنهم، قائلاً: “لقد حان الوقت للمجتمع الدولي أن يقف بالكامل إلى جانب الشعب ويحاسب النظام الإيراني”.

وعشية الذكرى السنوية لانتفاضة نوفمبر 2019، تحاول السلطات الإيرانية اتخاذ إجراءات أمنية قمعية، كي تتمكن من منع تصاعد الإنتفاضات والاحتجاجات الشعبية، ووأد أيّ تحرّكات لقطع الطريق على مطالبة الشعب بحقوقه ومحاسبة الناظام على أفعاله. ومن الواضح أنّ كلّ هذه الأعمال والجهود اليائسة والمفضوحة، تأتي خشية الأوضاع المتفجرة للمجتمع، خصوصاً في ذكرى انتفاضة نوفمبر 2019، مع الإشارة إلى أنّ إجراءات النظام ومناوراته إضافة إلى بثّه جواً من الترهيب والقمع… يمكن أن يؤدّي كلّ ذلك إلى انتفاضة شعبية عارمة وجديدة.