بالنسبة لمئات المصلين الذين أدوا صلاة الجمعة في مسجد زيد بن حارثة في مدينة إدلب، بدا يوم الـ 5 من نيسان/أبريل وكأنه يوم جمعة عادي، الآذان ، الخطبة ، الصلاة، كل شيء كان طبيعيا.
لم يكن هناك سوى شيئين بارزين:
أولاً: أن المسجد، وهو الأكبر في محافظة إدلب، لم يكن قد أكمل شهرًا واحدًا منذ بنائه حيث تم افتتاحه قبل شهر رمضان، كان حديثا وجميلا، وبالنسبة لمعظم المتواجدين في الداخل، كان أداء صلاة الجمعة هنا أمرًا مميزًا.
ثانيًا: في اليوم السابق لصلاة الجمعة، مساء الخميس، تم استهداف أحد أشهر القادة الجهاديين في إدلب، أبو ماريا القحطاني، البالغ من العمر 47 عامًا، بتفجير انتحاري في مضافته في سرمدا، على بعد 35 كيلومترًا إلى الشمال.
أدى مقتل القحطاني إلى انتشار المسلحين في الشوارع بكثرة وعند نقاط التفتيش في جميع أنحاء محافظة إدلب، التي يحكمها الجهاديون من هيئة تحرير الشام، جبهة النصرة سابقا.
لكن بالقرب من مسجد زيد بن حارثة، لم يكن هناك، يوم الجمعة، انتشار للمسلحين ولا نقاط تفتيش.
كالعادة، كان الشيخ السعودي مصلح العلياني والموالي لهيئة تحرير الشام، يؤم صلاة الجمعة ويخطب بالناس. بدا كل شيء هادئا وطبيعيًا.
ولكن بعد انتهاء الصلاة مباشرة، حوالي الساعة الواحدة والربع بعد الظهر، حدثت ضجة في الجزء الأمامي من المسجد.
دخلت مجموعة من نحو عشرة رجال حاملين جثة مغطاة بكفن أبيض إلى داخل القاعة. لم يظهر من الجثة شيئا باستثناء الرأس، المحترق جزئيا.
وبسرعة، دوى صوت عبر مكبرات الصوت في المسجد. كان هذا صوت شامل الغزاوي، وهو جهادي من غزة مرتبط بهيئة تحرير الشام.
داخل المسجد، صاح الغزاوي عبر الميكروفون: “في الليلة الظلماء يفتقد البدر”. أما خارج المسجد، انتشر مسلحون وقاموا بتطويق المنطقة.
لم يكن للمصلين داخل المسجد أدنى فكرة عما يحدث، من الواضح أن هذه لم تكن صلاة الجمعة المعتادة التي توقعوها.
لكن سرعان ما بدأ الناس في المسجد يتهامسون باسم أبي ماريا القحطاني، الجهادي الذي قُتل على يد انتحاري في الليلة السابقة، ثم أدركوا أنهم جزء من صلاة الجنازة للقحطاني.
ومع بدء الصلاة، دخل إلى المسجد رجل جريح يعرج يسانده اثنان آخران، وكانت الضمادات تغطي رأسه ووجهه بالكامل.
أصيب هذا الرجل بهذه الجروح البالغة نتيجة تواجده بالقرب من القحطاني عند وقوع الانفجار الذي تسبب في مقتل الأخير.
استمرت المراسم بأكملها حوالي عشر دقائق، وبعد صلاة الجنازة، تم إخراج جثمان القحطاني من المسجد ووضعه في شاحنة بيضاء صغيرة.
إن الطريقة السرية والمفاجئة التي دخل وخرج بها جثمان القحطاني من المسجد في إدلب تعتبر مثالا للطريقة التي عاش بها الزعيم الجهادي حياته.
مع بداية الحرب في سوريا عام 2011، انتقل القحطاني مع أبو محمد الجولاني من العراق إلى سوريا لتأسيس جبهة النصرة، فرع تنظيم القاعدة في سوريا.
عندها كان القحطاني مقاتلاً متمرسًا بالفعل، هو الذي حارب الأمريكيين في الفلوجة وفي أجزاء أخرى من العراق.
لكن سوريا لم تكن أرض الشام فحسب، بل كانت أرض الفتنة أيضًا.
لقد اختلفت النصرة مع تنظيم داعش وخاض الطرفان معركة دامية فيما بينهما. وكان القحطاني مناهضاً بشدة لداعش حيث اعتبرهم خوارج وخونة.
وفي وقت لاحق، واجه أيضًا مشاكل مع جبهة النصرة، والتي تم تغيير اسمها بحلول ذلك الوقت إلى هيئة تحرير الشام بقيادة رفيقه الجولاني.
باختصار، أصبح القحطاني ينتقد تنظيم القاعدة بشدة، وذلك لأن التنظيم يقوده حاليا سيف العدل، الذي يعتقد أنه يعيش سرا في إيران تحت مراقبة الحرس الثوري الإيراني.
ويقال إن سيف العدل يفضل التعاون بين القاعدة وإيران الشيعية في المعركة ضد الغرب.
كما يدعو والد زوجته مصطفى حامد الذي يعيش معه في إيران، بشكل علني، إلى تقارب الجهادية مع السياسات الإقليمية الإيرانية.
وبصفته زعيم هيئة تحرير الشام الذي دمر بشكل ممنهج فلول تنظيم القاعدة في سوريا، المتمثلة بتنظيم حراس الدين، لم يكن من المتوقع أن يتورط الجولاني بشكل مباشر في مشاكل قيادة تنظيم القاعدة.
من ناحية أخرى، عارض أبو ماريا القحطاني بشدة استيلاء سيف العدل على تنظيم القاعدة، بل وحذره بضرورة الابتعاد عن أرض الشام وعدم حرقها “كما فعلتم مع اليمن”.
لاحقا اتهم البعض في إدلب القحطاني بالتواصل مع حكومات أجنبية، وألقت هيئة تحرير الشام القبض على القحطاني في أغسطس 2023 بتهمة العمالة وتم وضعه في السجن، قبل أن يطلق سراحه في بداية مارس/آذار من هذا العام 2024، حيث قتل بعد شهر واحد فقط من اطلاق سراحه.
وفي شهادة نشرت على الإنترنت بعد وقت قصير من وفاة القحطاني، يشرح أحد حراسه الشخصيين، أبو الهدى الحص، كيف وقع الهجوم.
ويوضح قائلاً: “اجوا ثلاث يدعون أنهم من عشيرة الموالي، دخلوا ثلاث، شاريين معهم سيف وعباية. اجوا لهون سلموا عالشيخ وعالموجودين كلهم. بعد السلام قعدوا هناك.. رد الشيخ قال لا اقعدوا قريب هين. بعد ما قعدوا، انا طلعت مع الأخ واقفين برا. عم نسولف… ما حسيت الا شي صوت صغير طلع وبعدها انفجار. أنا وقعت من فوق الدرج لهناك. سمعت أخ قال “قوصهم قوصهم”.
اتضح بعدها أن أحد الضيوف الثلاثة قام بتفجير نفسه لقتل أبي ماريا القحطاني.
ومباشرة بعد الهجوم الانتحاري، حاول رجال أمن القحطاني قتل الشخصان اللذان كانا برفقة الإنتحاري، ولكن بسبب الفوضى التي تلت تمكن الرجلان من الفرار.
بعد صلاة الجنازة في مسجد زيد بن حارثة في مدينة إدلب، انطلقت الشاحنة البيضاء الصغيرة التي تحمل جثمان القحطاني باتجاه سرمدا، وكان الموكب مؤلفا من حوالي 15 مركبة.
توقف الموكب في سرمدا بينما ذهبت السيارة التي كانت تحمل جثة القحطاني إلى مكان قريب من مبنى المحكمة، لتتمكن زوجاته وأطفاله من وداعه بشكل سريع.
وتحرك الموكب من جديد، وتوجه هذه المرة باتجاه الغرب نحو بلدة سلقين القريبة من الحدود التركية.
وفي الساعة الثالثة بعد الظهر وصل إلى قرية تل عمار القريبة من سلقين، حيث توجد المقبرة، وحمل الحشد جثة القحطاني فوق أكتافهم وساروا به إلى مثواه الأخير. وصاح البعض: “يا أبو ماريا تهنى تهنى، ربي وعدك الجنة”.
وحضر الجنازة نجل القحطاني وشقيقه، وعدد من الشرعيين المرتبطين بهيئة تحرير الشام من بينهم أبو حمزة الكويتي.
هنا بدأ الحاضرون بالحديث بين بعضهم عمن يعتقدون أنه كان وراء عملية قتل القحطاني.
وردد بعض من حضر الجنازة أن: “الدواعش الخوارج قتلوا أبو ماريا.”
ولكن في الحقيقة من غير الواضح من يقف حقا وراء مقتل القحطاني، فلم يعد لداعش وجود رسمي في إدلب، ولم يعلن التنظيم عبر جناحه الدعائي أعماق، مسؤوليته عن الهجوم الانتحاري.
وهناك نظرية أخرى مفادها أن الجماعات الجهادية الأخرى في إدلب، قد تكون متورطة في عملية القتل.
ووقعت مؤخرا خلافات بين هيئة تحرير الشام والقحطاني، ومن الواضح أنه لم يكن هناك أي قيادي رفيع المستوى في هيئة تحرير الشام حاضرا في صلاة الجنازة بالمسجد في مدينة إدلب أو في الدفن في تل عمار.
ولكن من ناحية أخرى، ربما اعتبرت قيادة هيئة تحرير الشام حضور مثل هذه المناسبات العامة أمرا خطيرا للغاية.
ولاحقا أصدرت الهيئة فيديو لزعيمها الجولاني يقف فيه بجانب جثة القحطاني ويقبل جبينه.
ويقول الجولاني في الفيديو: “سنثأر إن شاء الله تعالى من كل مجرم سعى للنيل من المجاهدين”.
وبين هذا وذاك، يبقى القحطاني لغزا في الحياة وفي الممات.
وأثناء وقوفه بالقرب من قبر القحطاني، لم يتمكن الشرعي أبو حمزة الكويتي من السيطرة على مشاعره وبدأ في البكاء، ثم قال والدموع تنهمر من عينيه “ما نسلم هذه الراية التي قدمنا فيها خيرة إخواننا”.
عند انتهاء الجنازة، كانت الساعة تشير الى الرابعة والنصف بعد الظهر، وباستثناء شخص واحد، غادر الجميع المقبرة وعادوا إلى منازلهم.