السرعة والتوثيق القانوني.. بوسنيون يوجهون نصائح لأوكرانيا فيما يتعلق بتوثيق جرائم الحرب

في الـ 25 من مايو/ أيار 1995 شن جيش جمهورية صرب البوسنة هجوم بالمدفعية على مدينة توزلا خلف 71 قتيل و240 جريح، وتعرف الواقعة باسم مذبحة توزلا، وبينما تواصل روسيا غزوها لأوكرانيا وارتكابها أبشع جرائم الحرب هناك، تقفز إلى مخيلة البوسنيين صور قاتمة من الماضي لاتزال تطاردهم حتى اليوم.

هيلمو بوشوك خسر ابنته ليلى التي كانت تبلغ من العمر 17 عاماً خلال القصف الذي طال توزلا، يحكي لأخبار الآن بمرارة قصة بحثه عن ابنته وما حدث تلك الليلة، بعدما استهدف الجيش الصربي المدنيين داخل أحد المقاهي.

يقول بوشوك: “في ذلك اليوم وفي تمام الساعة التاسعة إلا الربع مساءً، سقطت قنبلتان، واحدة هنا مباشرة عند البوابة، والأخرى وقعت على هذا الشيء مقابل البوابة على مقربة من ذلك المقهى،
بالقرب من هذا المبنى من جهته الخارجية وبالقرب من المبنى الكائن في الأعلى، كان هناك أطفال وأسرُ يجلسون وشباب يتمشون، كانت كل الجثث موجودة تقريباً في هذه الجهة، وكان الكثير منها يفتقد لبعض الأعضاء المقطوعة، كان بعضها يفتقد لرجلٍ أو ليدٍ. وكان الكثير منهم أمواتاً،

يكمل ” ذهبنا إلى غرفة التشريح، كانت غرفة كبيرة، وكان هناك جثث كثيرة مغطاة بشراشف المستشفى، توقفنا عند كل جثة وأمعنا النظر فيها ورفعنا الشراشف عنها، استدرت وقلت إن جثتها غير موجودة هنا، لم نجدها على الحال ولكننا وجدنا في البداية صديقتها (سانيا)، لقد تعرفت عليها، كنت أعرفها جيداً جداً، فقد كانت تلميذتي في المدرسة الابتدائية، ما أن رأيتها (سانيا)، علمت أن جثتها موجودة هناك، مباشرةً كانت جثتها الجثة التالية التي كشفت عليها وكان الرمل يغطي خدّيها ووجهها وعينيها وشفتيها”.

وتابع: ” كشفت عليها بالكامل لكي أتحقق من هويتها ولكي أتأكد إن كان هناك أعضاء مفقودة وإن كانت مصابة، لم ألاحظ شيئاً، حتى أنني رأيت ساعةً في يدها، لا بدّ أن أحدهم ربطها على ذراعها، كانت الساعة مكسورة قليلاً، لقد قمنا بتغطيتها، حينها عدت أدراجي إلى المنزل وأخبرت زوجتي”.

وحول معاقبة المسؤولين عن مذبحة توزلا يقول بوشوك: “يعيش (نوفاك دوكيتش) اليوم بحرية وكملك في صربيا، فكل الأشخاص السبعة الذين كانوا مسؤولين عن مدافع هاوتزر لقصف توزلا، باتوا خارج يوغوسلافيا السابقة ولكن حفنة منهم موجودة في صربيا. لا أكثر ولا أٌقل، (دوكيتش) لن يعود، وقد أصدرت مذكرة توقيف بحقة منذ زمن طويل، ولكن لا قيمة لها لأنها لن تجدي نفعاً، فصربيا لن تقدم على تسليمه”.

توثيق جرائم الحرب.. بوسنيون عايشوا همجية الصرب يقدمون نصائح للأوكرانين

وعند سؤاله عن رأيه بالغزو الروسي لأوكرانيا قال بوشوك: ” أنا أشعر بالأسف حيال الشعب الأوكراني خصوصاً بعد القصف الأخير الذي أوقع ما بين 40 و50 ضحية بمن فيهم أطفال، فما تميزت به صربيا لجهة محاولتها تدمير جزء من أمة البوسنة والهرسك والسيطرة عليه يتكرر اليوم مع روسيا و بوتين في أوكرانيا”.

قصة نجاح وفشل في آن واحد

بالنسبة للبوسنيين فإن ملف محاسبة مجرمي الحرب ومحاكمتهم حقق بعض النجاحات في مقابل غياب العدالة عن مئات القضايا.

وفي هذا الخصوص يقول دينيس دزيديتش من شبكة المراسلة الاستقصائية في دول البلقان: “عندما نتحدث عن جرائم حرب، والمحاكمات والبحث عن العدالة في البوسنة والهرسك، يبدو السؤال مثيراً للاهتمام لأنها قصة نجاح وفشل في آن واحد، فإن نظرتم إليها كمجرد أرقام، تجدون أنفسكم أمام حالة إدانة لمئات الأشخاص بجرائم حرب، وأمام حالة أُثبتت فيها غالبية جرائم الحرب”.

ويتابع: ” هناك إدانات بارتكاب إبادة وبارتكاب جرائم ضد الإنسانية وأحكام تاريخية بارتكاب أعمال عنف جنسي في زمن الحرب واستعماله كجريمة ضد الإنسانية وهذا أمر لم نشهده من قبل. وهناك محاكمات في موضوع البوسنة والهرسك، لذلك في هذا المعنى نعتبرها قصة نجاح، ولكن إن نظرتم إلى الأرقام من زاوية أخرى، عندما تأخذون بعين الاعتبار وجود تقديرات بوقوع نحو 40 ألف جريمة ارتكبت خلال النزاع الذي امتد بين الأعوام 1992 و1995 وترون أن بعض المئات من هذه الجرائم قد خضعت للمحاكمة، تجدون أنها قصة إخفاق كبير.

توثيق جرائم الحرب.. بوسنيون عايشوا همجية الصرب يقدمون نصائح للأوكرانين

ويكمل : “على مستوى العدالة الانتقالية، لم نختبر الركن الرابع لهذا النوع من العدالة ألا وهو الإصلاح المؤسساتي وضمان عدم تكرار الماضي مما يعني ضرورة تغيير بعض أفراد النخبة السياسية. فاليوم لدينا تقريباً النخبة السياسية نفسها أو ما يشبهها على مستوى العقيدة من تلك التي أطلقت شرارة النزاع. وبهذا المعنى، لقد اتخذ هؤلاء الفاعلون السياسيون النظام القضائي رهينة لهم، وهذا الأمر يعني الكثير، إنه يعني أن الشعب اليوم لا يثق كثيراً بالنظام القضائي”.

لقد اتخذ الفاعلون السياسيون من النظام القضائي رهينة لهم، ما يعني أن الشعب لا يثق كثيراً بهذا النظام

نصائح للأوكرانيين

ما حققته المحاكمات في البوسنة يلقي الضوء على تجربة يمكن الاستفادة منها مستقبلاً، خصوصاً فيما يتعلق بكيفية توثيق جرائم الحرب والجرائم ضد الإنسانية فغالباً ما تدفن الأدلة أو يتم تدميرها، وحول هذا الأمر تحدثت لأخبار الآن المحامية سابينا ميهيك مشيرةً إلى أنه عندما يتعلق الأمر بجرائم حرب، ما يمكن فعله هو جمع أكبر قدر ممكن من الوثائق في تلك الحقبة الزمنية،

وتكمل بالقول : “لأن التوثيق هو الدليل الأكثر ملاءمة، فقد اكتشفنا اليوم بعض الأخطاء التي كان يمكن تفاديها وأن بعض الشهادات لم تسجل بحسب القوانين المرعية الإجراء، لأنها أخذت بطريقة عادية كمثل الاتصال بأحدهم على الهاتف ولأن المعلومات لم تسجل ولأنه لم يكن هناك تصريح في المحكمة، لا يمكن استعمال تصريح مماثل، لذلك في هذه المرحلة من تسجيل تصاريح شهود أحياء وشهود عيان، فلا بد من تسجيلهم بموجب القانون المطبق في أوكرانيا لكي تتاح فرصة استعمالهم بعد فترة من الزمن”.

وتابعت ميهيك: “لن يضيرنا إن كررنا ما فعله أبي، فقد كان موجوداً في أحد معسكرات الاعتقال في التسعينات ودوّن كل شيء بعد مغادرته المعسكر، أخذ دفتراً ودوّن عليه كل الوقائع والمعلومات التي تمكن من تذكرها في ذلك الحين، ودوّن أسماء الأشخاص التي كان يسمعها لأنه كان يعلم أنه سينسى الأسماء مع مرور الزمن،”

وأكملت: “لقد ساعدته هذه الملاحظات على تذكر أمور كثيرة لاحقاً وكان شاهداً على جرائم حرب وشهد في المحكمة في البوسنة والهرسك وفي محاكم الكانتونات وفي محكمة منطقة تريبيني، أعتقد أنه لأمر طبيعي جداً أن يعجز شهود العيان عن تذكر الأحداث بعد مرور الوقت. لهذا السبب من المفيد جداً أن يدوّن المرء لاحقاً كل شيء في تصريحه بعد مرور صدمة معينة.

وتابعت: “عندما يتوقف القتال وتعود الأمور إلى طبيعتها، ستضطر روسيا خصوصاً بالنظر إلى وضعها الاقتصادي إلى التفاوض مع بلدان مثل ألمانيا ودول أخرى تحتاج إلى الغاز الروسي أو أمور أخرى. أعتقد أنه من الضروري أن تتواصل جمهورية البوسنة والهرسك بشكل أفضل مع الاتحاد الأوروبي، وكذلك أن تبدأ أوكرانيا ببناء هذه العلاقات وأن تطلب من روسيا محاكمة بعض الأفراد وبعض الجرائم وأن تسلمها البعض لمحاكمتهم”.

وحول مستقبل المحاكمات وهل يمكن فعلاً أن يحاسب مرتكبو الجائم تقول : “أظن أن الأمور يمكن أن تحصل. ولكن هل ستتحقق العدالة بنسبة 100%، كلا لن يحصل ذلك، وهل سيتم إحراز نجاح باهر، كلا، ولكن من أجل العيش في العالم الحقيقي، أظن أن هذا التحرك يمكن أن يكون له أثر معين ولكن لا بد أن يبدأ باكراً وأن تتم الدعاية له”.

وختمت بالقول: “ما أفكر به دوماً هو أن الأمر لن ينتهي بسهولة، لكنني أرى أيضاً أن الأوكرانيين يجب أن يوثقوا الأحداث قدر المستطاع، فلا بدّ من إجراء المزيد من التوثيق، لا بدّ أن يعمل أخصائيون عليه، ولكن المسألة تكون صعبة جداً إن كان أمثال هؤلاء مشاركون في الحرب”.