وزير الخارجية الفرنسي الأسبق: القوة الروسيّة وحشيّة وسلطويّة وهي تقف وجهاً لوجه مع أوروبا

منذ انطلاق العدوان الروسي على أوكرانيا اتخذ الأعضاء الـ27 في الاتحاد الأوروبي قراراً فورياً بدعم أوكرانيا ومساعدتها في الحرب ضدّ روسيا.

إلى ذلك أقرّ الاتحاد مجموعة كاملة من العقوبات الإدارية والسياسية والمالية ضد روسيا والزعماء الروس مستهدفاً الاقتصاد الروسي، كما قدم مساعدات مالية كبيرة لأوكرانيا بالإضافة إلى الأسلحة والمساعدات العسكرية.

إن كل ذلك على أهميته، ما كان ليحقق الصمود لأوكرانيا لولا المقاومة التي أبداها جيش البلاد وشعبه بوجه الاحتلال بحسب ما أوضح الوزير الفرنسي السابق لأوروبا والشؤون الخارجية هيرفي دو شاريت.

لكن مع التطورات اليومية التي تحملها الحرب، كيف سيكون عليه مستقبل القارة العجوز؟ هل تتحضر لخوض حرب عالمية ثالثة؟ خصوصاً مع ما يحكى عن العديد من الدول الأوروبية التي تسعى لتعزيز ترسانتها العسكري،. وماذا عن الأمن الغذائي والنظرة إلى بوتين وروسيا ضمن المجتمع الأوروبي وضمن روسيا نفسها؟.

روسيا

منذ اندلاع الحرب الأوكرانية – الروسية والعالم يتخوّف من أزمة غذاء عالمية وذلك بسبب شح صادرات الحبوب والأسمدة في السوق الدولية، والتي كانت تصدّرها كل من روسيا وأوكرانيا قبل اندلاع الحرب بينهما. ويعود السبب في ذلك إلى الحصار الذي تفرضه روسيا على شواطئ البحر الأسود ما يمنع أوكرانيا من تصدير منتجاتها تلك، فيما تعرقل العقوبات الغربية المفروضة على موسكو صادراتها من حبوب وسماد نحو العالم.

ولا تتوقف المسألة على شح عرض تلك المواد في السوق الدولية، فقد ارتفعت أسعارها بشكل صاروخي بسبب المضاربات مهددة بالجوع شعوب الدول الأكثر فقراً. وبحسب تقرير لمنظمة الأغذية العالمية تمثل صادرات روسيا وأوكرانيا مجتمعتين حوالي:

  • 33% من صادرات القمح في العالم
  • 27% من صادرات الشعير
  • 24% من بذور عباد الشمس
  • 76% من زيوت عباد الشمس

أمّا بالنسبة لصادرات كل منهما على حدة:

  • روسيا هي المصدرة الأولى للقمح إذ تصدّر 18% من الصادرات العالمية أي ما يعادل 32 مليون طن.
  • أوكرانيا السادسة عالمياً بتصديرها 20 مليون طن من القمح ما يعادل 10% من الصادرات العالمية.
  • أوكرانيا هي المصدرّة الأولى للحبوب وزيوت عباد الشمس بإنتاجها 42% من الصادرات العالمية وتأتي روسيا ثانياً بـ 21%.
  • روسيا هي المصدّرة الأولى للأسمدة النيتروجينية، والثانية لأسمدة البوتاسيوم.

وتصدّر أوكرانيا معظم صادراتها الغذائية عبر البحر الأسود، و95% من تلك الصادرات عبر ميناء أوديسا المحاصر منذ اندلاع الحرب.
وأمام الحصار الحازم والقاسي الذي تفرضه روسيا تواجه البلاد مخاوف من الوقوع في أزمة تخزين، مع تعذر تصدير محاصيلها الشتوية وقرب حصاد المحاصيل الصيفية. ونتيجة كل تلك العقبات تقول الأمم المتحدة إن:

  • 53 دولة حول العالم تعتمد بنسبة أعلى من 10% من وارداتها من القمح على صادرات روسيا وأوكرانيا
  • 36 من هذه الدول تعتمد بنسبة أعلى من 50% من صادراتها على البلدين المذكورين، من بينها مصر والكاميرون وغواتيمالا والهندوراس ونيجيريا.

وبحسب منظمة الأغذية العالمية فإن:

  • أزمة غذائية حادة ستمس أكثر من 400 مليون شخص حول العالم.
  • 181.13 مليون منهم سيعانون من اضطراب حاد في أمنهم الغذائي.
  • 18.61 مليون سيواجهون حالة حرجة من الجوع.
  • تتركز أغلبية المهددين ببلوغ مستويات حرجة من الأمن الغذائي في إفريقيا خاصة دول غرب وشرق القارة ومنطقة الساحل.
  • حقق مؤشر أسعار الغذاء ارتفاعاً صاروخياً في مايو الماضي إذ بلغ 29.9 نقطة أي ما يعادل 22.8% وهي أعلى مقارنة بنفس الفترة عن السنة الماضية.
  • زادت أسعار القمح بمعدل 56.2% مقارنة بنفس الفترة من السنة الماضية.
  • ارتفعت أسعار الشعير 18.1% وأسعار الذرة 12.9%.

روسيا

الأمن الغذائي العالمي في خطر!

يهدّد هذا الارتفاع الصاروخي في أسعار الغذاء الأمن الغذائي لعدد من الدول النامية في إفريقيا، الشرق الأوسط ووسط وشرق آسيا. كما يصعّب المهمة الإنسانية للبرنامج الدولي للغذاء، إذ يتوقع ارتفاع مصاريفه بمقدار 29 مليون دولار شهرياً على المدى القريب، و71 مليون دولار على المدى المتوسط. ومع كل تلك الأزمات المتأتية من الحصار الروسي على أوكرانيا والارتفاع الصاروخي بأسعار القمح وغيرها من المواد الأساسية، لا يبدو أن لدى روسيا نية في حل تلك المسألة أو التراجع لأن ذلك الوضع يناسبها إذ تحقق منه المكاسب والأرباح بحسب توضيح دو شاريت.

ويشير إلى أن “محور التركيز في الوقت الحالي هو قدرة أوكرانيا على تصدير قمحها، وبعض المنتجات الزراعية الأخرى المهمّة، فالسهول الكبرى لأوكرانيا معروفة ليس فقط لدى الجغرافيين ولكن أيضاً لدى الكثير من الناس فهي من الأماكن التي يكون فيها إنتاج القمح الأكثر وفرة في العالم ويساهم في إطعام العديد من البلدان التي ليس لدينا فيها قمح ونحتاج فيها إلى القمح. والمثال النموذجي الذي نعرفه جميعاً هو مصر، وهي بلد فقير نوعًا ما يحتاج إلى كميات كبيرة من القمح والذي كان يستورده من أوكرانيا والذي لا يعرف اليوم كيفية القيام بذلك لأن القمح وغيره من الإمدادات الزراعية كان يخرج من أوكرانيا عبر البحر الأسود وميناء أوديسا، وأيضًا عبر ميناء ماريوبول باتجاه بحر آزوف، لكن سواحل أوكرانيا على شاطئ البحر تخضع تمامًا للحصار الروسي، والروس الذين لا يريدون حقًا حلّ تلك المسألة لأنهم هم أنفسهم منتجون للقمح، وإن الإرتفاع في أسعار القمح المتأتي من ندرة المنتج تناسبهم جدًا وبالتالي هم لا يريدون تحسين الأوضاع في أوكرانيا، ونحن نفهم ذلك”.

أما عن المعلومات التي تشير إلى أن الروس يسرقون القمح الأوكراني ويبيعونه في دول مثل سوريا قال: “ليس لدي أي معلومات خاصة من أي نوع حول هذا الموضوع، لكن ذلك لا يفاجئني فأنا متأكد من أن الروس أينما وصلوا، على شواطئ بحر آزوف على وجه الخصوص وفي ماريوبول أيضاً، استولوا على كل ما وجدوه هناك وخصوصاً على احتياطيات القمح التي يحاولون بيعها لأي مشتري يعثرون عليه”.

روسيا

وأضاف “ثمة نقطة لا بدّ من أخذها بعين الإعتبار فعلاً وهي أنه يوجد في العالم العديد من الدول التي لا ترغب بالإنضمام لا إلى الولايات المتحدة ولا إلى أوروبا في ما يخص تطبيق العقوبات التي اتخذناها، والتي لم تؤخذ ضمن إطار محدد، كون روسيا تتمتع بحق النقض وبالتالي فالكثير من الدول لم ترغب في الانضمام. وهذا يعني على المستوى العملي أن ثمة دول تريد القمح ولا تشعر بالحرج بالبحث عنه في روسيا، فالكثير من الدول تنظر إلى عمق الأزمة وكأنها شيء لن يكون له تداعيات كثيرة عليها. على أي حال، سيستمر الإرتفاع في الأسعار والطاقة وما إلى ذلك، لكن تلك الدول لا تريد اتخاذ موقف مع أحدهما ضدّ الآخر باعتبار أن هذا الصراع هو في الأساس صراع في القارة الأوروبية تشارك فيه روسيا والدول الأوروبية والأمريكيون، ما يعني أن الصراع هو بين الغرب وروسيا وليفعل كل طرف ما يريد. علماً أن بعض الدول تذهب إلى أبعد من ذلك وتميل إلى تفضيل علاقاتها مع روسيا، كالهند على سبيل المثال، فالهند التي كانت شريكًا دائماً ووثيقًا لروسيا منذ استقلال الهند وهي تحافظ حتى اليوم على تلك العلاقات وبالتالي فهي لا تنضم إلى غيرها من الدول في تطبيق العقوبات المفروضة ضد روسيا”.

الأمن

قلب العدوان الروسي على أوكرانيا كل الحسابات الأوروبية والعلاقات الدولية رأساً على عقب على مستوى الاقتصاد والطاقة والأمن الغذائي وخصوصاً على مستوى التسلح إذ رأت العديد من الدول أن هناك ضرورة ملحة لتحصين جيشها وتطوير قدراتها العسكرية وبناء تحالفات أكثر قوة.

ويؤكد دو شاريت أن الأوروبيين “يدركون الآن أن أمنهم يعتمد عليهم أولاً وقبل كل شيء لذلك نرى الكثير من ردود الفعل، فبعض الدول الأوروبية التي تثق في الحياد مثل فنلندا والسويد، تريد الانضمام إلى الناتو فنحن نرى أن حلف الناتو الذي كان يؤدي ما هو بمثابة المساعدة نجح فيما بعد بشكل جيد للغاية، كما قال الرئيس ماكرون سيحصل موت دماغي إذا لم يحدث شيء. يمكننا أن نرى بوضوح أن الناتو يحاول التعافي، فيما ترى الدول الأوروبية أنه يتعين عليها الاهتمام بالدولة وجيشها وأسلحتها”.

ولفت إلى أن “الحالة الأكثر تميزًا هي ألمانيا، التي حرصت منذ العام 1945 على عدم امتلاك جيش جدير باسمه، والذي تمّت ملاحظته فجأة هو أن الألمان لاحظوا الرأي العام فجأة، واكتشفوا أن الجيش الألماني في حالة ضعف شديد للغاية، وأن معداته هي ذات مستوى منخفض للغاية وفي حالة يرثى لها. بعبارة أخرى، يتعافى الجميع وفرنسا هي في الأساس الدولة الوحيدة التي حافظت على جيشها في حالة جيدة وبمعدات حديثة. لكن لدينا أيضًا سؤال، كيف يمكننا أن نقول نحن منظمون جيدًا للتعامل مع الرحلات الاستكشافية البعيدة إلى حد ما في إفريقيا والشرق الأوسط وما إلى ذلك، كما فعلنا على مدار السنوات العشر أو العشرين الماضية، ولكن في ما يخص صراعاً عاماً شديد القسوة ويتعلق بالدفاع عن أراضينا وربما أيضاً بالقوة النووية، فإن أجهزتنا في الواقع غير كافية؟ لذلك لا يستعد الأوروبيون لحرب عالمية ثالثة، فالمسألة ليست كذلك، لا نعتقد أن هذا هو الموضوع، فالموضوع هو الأمن في أوروبا وهو الآن مسؤولية القادة والشعوب الأوروبية”.

روسيا

المعارضة في الداخل الروسي

يبدو أن الاستياء من حرب الكرملين على أوكرانيا يتضاعف في الداخل الروسي على الرغم من القمع الشديد الذي تواجهه المعارضة الروسية من بوتين. والمفارقة هذه المرة بحسب مراسلة الأمن القومي والاستخبارات في مجلة الفورين بوليسي الأميركية إيمي ماكينون أن الاستياء يأتي من المنشقين العسكريين الذين سُجنوا أو أُجبروا على العيش في المنفى، حيث تنبع المعارضة عن مجموعات المحاربين القدامى المتشددة والمدونين العسكريين في روسيا الذين ارتفع سخطهم مع وتيرة الحرب البطيئة، ودعا البعض منهم الرئيس الروسي فلاديمير بوتين إلى بدء التعبئة الوطنية.

ويعتبر دو شاريت أن تلك المعارضة ستزداد بشكل طبيعي كلما طال أمد الحرب “فعندما تصل النعوش إلى القرى والأحياء والمدن وما إلى ذلك، سيسبّب ذلك ارتباكًا وقلقًا بالطبع لدى السكان، وبالتالي أعتقد أن هناك معارضين اليوم أكثر مما كان هناك في بداية العمليات العسكرية. لكنني أعتقد في الوقت الحالي أن فلاديمير بوتين يحظى بدعم غالبية كبيرة، وربما حتى غالبية كبيرة جدًا من السكان، ويعود ذلك إلى تزويدهم بالقليل من المعلومات، ونقل المعلومات لهم بشكل سيء، والتضليل من قبل وسائل الإعلام الروسية، ومن بين تلك الممارسات أيضاً التطهير الذي قامت به السلطات الروسية قبل بدء العمليّات العسكرية وما إلى ذلك من منع وقمع وسجن حتى أن بعض وسائل الإعلام المستقلة اختفت”.

وتوقف عند الخصائص النفسية لشخصية فلاديمير بوتين والتأثيرات السياسية والتاريخية المطبوعة في شخصه والتي تترك آثاراً مهمة في مجرى الأحداث، لافتاً إلى أن “كل التعليقات والخطابات التي يلقيها بوتين تُظهر أنه مرتبط بفكرة معينة حول روسيا والتي هي في الأساس روسيا السوفياتية غير أن روسيا في فكر بوتين هي أسوأ في بعض النواحي، لأنه في النظام السوفياتي كان هناك عمل جماعي ومجتمع معين من القادة، لم يكن ستالين وحيدًا لقد كان قويًا جدًا وخطيراً للغاية بما في ذلك المقربين منه، لكنه لم يكن وحيداً تماماً. بينما اليوم إن بوتين وحيد تماماً، ففي كل مرة نرى بوتين، نراه وحيداً في الصحراء السياسية للبلاد، هو يهدّد الصحافيين والأوليغارشيين مُظهراً القسوة نفسها. إنه شخصية غريبة”.

روسيا

وأضاف “صحيح أنه في أعماقنا، ترك بوتين لدينا على مدى تلك السنوات الطويلة الكثير من القلق بشأن هويته، وهذه الحرب هي بالنسبة للعديد من الأوروبيين صحوة وحشية. كان هناك الكثير من الأشخاص المؤيدين لروسيا في أوروبا وفرنسا، حتى أنه كان هناك موالين لبوتين في أقصى اليمين بشكل خاص، وليس هذا فحسب ولكن أيضًا في العديد من الدوائر ثمة بعض الانبهار الإيجابي بروسيا وهو ما أفهمه جيدًا، لكن في الواقع روسيا اليوم هي روسيا الحقيقية، وليست روسيا التي حلمنا بها، وليست روسيا التي نقرأها في الروايات العظيمة لتاريخ الأدب الروسي، وليست ذلك النوع من الرومانسية التي ينظر بها المرء إلى روسيا. لا، فروسيا اليوم للأسف هي روسيا بوتين. وخلف كل ذلك طبعاً ثمة نخب من الناس الذين لا يوافقونه الرأي، لذلك يجب أن نحافظ على فكرة إبقاء الروابط مع المجتمع المدني الروسي. لكن لا يجب أن نعمي أنفسنا عن ماهية القوة الروسية التي هي في الوقت نفسه وحشية وسلطوية وهي تقف وجهاً لوجه مع أوروبا”.

أمام كل تلك المعطيات، لمن سيكون النصر أخيراً؟ لروسيا بوتين أم لروسيا التي يحلم بها معارضوه في الداخل والخارج؟.