وثائقيات الآن | نار الفتنة 22-4-2019

تتجه بنا السيارة نحو بوابةِ واحدٍ من مخيمات العزل العراقية التي أقيمت لإيواء عائلاتِ مسلحي داعش . نعبرُها لنصبحَ داخل محيطِ الأسلاك التي ترسمُ حدودَ المخيم. أكثرُ ما يتقنهُ ساكنو الخيمِ هنا هو الانتظار، يمارسونه كلٌ بحسب عمره. منهم من ينتظر عفواً يعيدُه لبيته وربما أهله، ومنهم من ينتظر فرصةً جديدة لسفكِ الدماء. الجميع هنا حُكم عليهم بالجلوة. وهي حكمٌ في النظام العشائري العراقي يقضي بطرد أهلِ وذوي مرتكب جريمة، كالقتل أو المس بالشرف من منطقتِهم. وهي الحكم الذي أنزلتُه العشائر العراقيةُ بعائلات مسلحي داعش عقب معاركِ التحرير التي انتهت صيف عام 2017 بدحر داعش من المناطق التي سيطر عليها في العراق.

لكلٍ من المقيمين في مخيمات العزل قصة، بينها عنصرٌ مشترك اسمهُ داعش.. ولبعض القصصِ وجهان مختلفان مصيبتُهما واحدة: داعش أيضا. هي كذلك قصةُ أم عبدالملك التي ترملت بعد أن اقتحم الداعشيون منزلَها الزوجي وأخذوا زوجَها من فراشه عام 2014، ليُقتل لاحقا. هي نفسُها شقيقةُ الداعشي الذي أجبر العائلةَ على أن تكون درعاً بشرياً خلال معركةِ داعش الأخيرة في الموصل، ما تسبب بمقتلِهم جميعاً باستثناء أم عبدالملك وابنتيها الصغيرتين.

تروى أم عبدالملك كيف عجِزت العائلة عن ردع ابنِها عن طريق داعش ما تسبب لاحقا بمقتل معظمِ أفرادها، كحال كثيرٍ من العائلات التي استسلمت لجنوح اولادِها نحوالتطرف، فانتهى بها الحال تحت أنقاض المنازل المدمرةِ أو في مخيمات العزل.

نكملُ جولتَنا في مخيم العزل، ونلتقي أم موسى في خيمتها. وأم موسى التي تقول إن أحدا لا يرغب في داعش، تأتي من عائلةٍ انتسب  25 من أفرادها لداعش. قتلَ بعضهم وهربَ البعضُ الأخر بعد معارك التحرير، وبقيت هي لتتحملَ مسـؤوليةَ أطفالِهم جميعا.

بخطىً متثاقلة أرهقتها الحياة، تسير أم أحمد في المخيم. أرملةٌ منذ طفولة أولادِها العشرة، ستةُ أبناءٍ وأربعُ بنات. تحملت وحدَها عبءَ تربيتهم، والآن تكمل تربيةَ أطفالهم بعد أن قتل معظمُهم خلال المعارك مع داعش.

يقر الكبار بما جلبه الانتماءُ لداعش من تدميرٍ للمجتمع والعائلات. أكثر من يقع عليهم ظلمُ قرارات الآخرين، هم الأطفال الذين لا حول لهم ولا قوة في قرارات أولياء أمورهم وأقرباءهم. الطفل أحمد واحدٌ من هؤلاء. ابتسامتُه المرتسمةُ على وجهه حين تحدث معنا تُخفي وراءها حزناً عميقاً. عمُه أحمد انضم إلى داعش، وابنُ أخيه اليوم يدفع ثمنَ ذلك، يتماً وإقامة في خيمة. وجُلّ أمنية ِالطفلِ أحمد العودةَ لمنزلهم في الموصل.

بحنان الأخ، يسرّح الطفل حمزة شعرَ أخته أمام خيمتهم. أصبح حمزة رجلَ العائلة بعمر اثنتي عشرة سنة بعد تركةٍ ثقيلة تركها إخوتُه الكبار بحملهم السلاح مع داعش. يروي لنا قصتَه وكيف انتهى حالُ والده وأمه إلى الاعتقال وفقدانه لأي معلومات عن إخوته.

على دكة باب الخيمة، يستعيد خلدون صورةَ والده التي بقيت عالقة ًفي ذاكرته. جسدٌ مبتور الأطراف. يسألنُا خلدون إن كان الطفلُ اليتيم يتساوى مع الطفل الذي ينعم بحضنِ والده. سؤال لن يستطيعَ والدُه المسلح الداعشي الميت الإجابةَ عنه.

مع غروب الشمس، بدأنا رحلةَ العودةِ من مخيم العزل ووراءنا مئات الحكايات. منها ما يُستذكر ومنها ما بدأت فصولَها داخل المخيم، تُحيكُها أيامٌ وليالٍ لا تُعرف نهايتُها. أسئلةٌ كثيرة تحيط بمستقبل المحكومين بالجلوة. فهناك تحذيراتٌ من خبراء بأن مخيمات العزل قد تصبح معاملَ إنتاجِ قنابلَ موقوتة. وآخرون ينصحون بأن تبادر الحكومةُ العراقية لتنفيذ خطةٍ تعيد تأهيلهَم ودمجهَم بالمجتمع من جديد. .

تغادر كاميرا قناة الان  إلى خارج الأسلاك العازلة حيث بقيت الوجوه خلفها حائرةً تسأل عما سيكونُ شكلُ المستقبل.