اعتداء على فتاة في كُردستان العراق

  • أنصار الحركات الإسلامية يرون أن الخطأ يقع على الفتاة
  • هتف الإسلاميون في ربيع 2011 للمرة الأولى في تاريخهم: الحُرّية

البلطجة

نهار الجمعة الأخير من العام الماضي (2022). ساحة لسباق الدراجات النارية والسيارات الرياضية جنوب مدينة السليمانية بكُردستان العراق، تسمى بساحة (هُوانه). يحضر جمع غفير من الشباب حول الساحة لمشاهدة صور استعراضية للسيارات والدراجات النارية تتكرر كل يوم جمعة. تغير المشهد في الجمعة الأخير، ونسي الحشد الرجالي عضلات سائقي الدراجات النارية وهم يعرضون قدراتهم على القيادة البهلوانية، واتجهت أنظارهم هذه المرة إلى فتاة حضرت إلى الساحة كي تشاهد السباق. صرخ العديد منهم بأعلى حناجرهم لطردها، ووصل الأمر إلى ضربها بالركلات.

بعد انتشار صور هجوم الحشد على الفتاة على منصات الإعلام الاجتماعي بسرعة البرق، تحول الحدث إلى سجال حاد بين الإسلاميين وجمهور عريض من المجتمع الكُردي حيال حضور المرأة في الفضاءات والفعاليات الاجتماعية العامة. دحض الإسلاميون علاقة أحزابهم بحدث الاعتداء بينما يرى كتاب ومثقفون وصحفيون وقانونيون ونشطاء في الشأن العام، بأن ما حدث له علاقة مباشرة بأجواء مشحونة تكررت فيها الاعتداءات على الأوساط الأكاديمية والثقافية والاجتماعية من قبل الإسلاميين.

مثلما لم تحتاج الصورة إلى وقت طويل كي تصبح العنوان الأبرز على شبكات التواصل الاجتماعي، لم يحتاج الحدث إلى أي تحقيق لينسبه المنشغلون بالرأي العام إلى أجواء يقاتل فيها السلفيون وجمهور الإخوان المسلمين، التيارات الاجتماعية النسوية والحقوقية وكل من يساندها.

وساهم إصرار الإسلاميين على أن الخطأ يقع على الفتاة وحضورها في مكان عام في اتساع دائرة السجال، وذلك برغم من البعد الجنائي للحدث كجريمة عامة وفي مكان عام. أي أن ما أثار فضول الإسلاميين كان حضور الفتاة في مكان عام وليس الاعتداء عليها من قبل “البلطجة”، ناهيك بربطهم الحدث بالمناقشات الجارية حول القضايا المتعلقة بالتنوع الاجتماعي.

إسلاميو كُردستان في ساحات "القتال الاجتماعي"

 

جريمة في مكان عام

وبما إن الاعتداء حدث في مكان عام وأمام أنظار الجميع، أصبحت القضية جزءًا من الشأن العام وأبدت المؤسسة التشريعية والحكومية وشخصيات قانونية رأيها بما حدث وضرورة اتخاذ الإجراءات القانونية. وكانت رئيس برلمان إقليم كُردستان ريواز فائق، أول من أكدت على أن الاعتداء المشين من قبل “مفترسين ذكور” على فتاة أرادت مثل أي شخص عادي مشاهدة السباق، ليس سوى نتاج خطاب بربري يستخدم بشكل منهجي ضد النساء الكُرديات. وقالت رئيس البرلمان، “أن المجتمع أو السلطة التي لا توقظها مثل هذه البربرية، عليها أن تنتظر الموت السريع”.

وفي السياق ذاته، أشار عضو مجلس النواب العراقي السابق والقاضي لطيف مصطفى إلى أن هذه الجريمة النكراء لا تتطلب حتى شكوى رسمية بغية اتخاذ الإجراءات القانونية. وكتب القانوني الكُردي على صفحته في الفيسبوك: “تعد الجريمة الجبانة المتمثلة في الاعتداء على شابة وتحت أي ذريعة في مكان عام “جريمة عامة” بموجب المادة 402 من قانون العقوبات العراقي، والتي تنص على عقوبة لا تزيد عن ثلاثة أشهر سجناً جراء الاعتداء اللفظي أو الجسدي”. وما حصل من منظور القاضي لطيف مصطفى يعد جريمة من جرائم الحقوق العامة، وذلك لأن المعتدين انتهكوا الأمن والنظام الاجتماعيين، الأمر الذي لا يستدعي حتى تقديم شكوى رسمية، وعلى الشرطة ووكالات التحقيق العامة، اخضاع كل من ارتكب الجريمة للتحقيق وما يقتضيه قانون العقوبات العراقي.

جذور السجال

ولكن ما هي جذور هذا السجال ومصادر تغذيته؟ لماذا تحولت جريمة في مكان عام إلى كرة نار ينسبها الإسلاميون إلى قضايا اجتماعية ومدنية مثل حقوق النساء والمساواة والقضايا المتعلقة بالنوع الاجتماعي، بينما يضعها المثقفون والنشطاء المدنيون والحقوقيون في سياق أجواء مشحونة بخطاب كراهية أشعل فتيلها الإسلاميون ضد منظمات المجتمع المدني والحراك النسوي في إقليم كُردستان العراق؟

من المهم في هذا السياق الإشارة الى ما حدث من الاحتجاجات الشعبية في إيران جراء مقتل الشابة الكُردية مهسا أميني على يد شرطة الأخلاق في طهران. ففي أعقاب تلك الاحتجاجات في إيران ضد قمع النظام بحق النساء وطمس الحريات السياسية والشخصية، أظهر الحراك الاجتماعي والنسوي في إقليم كُردستان تضامن كبير مع المحتجين والنساء الإيرانيات، الأمر الذي أثار حفيظة الحركات الإسلامية.

وقد وقفت قيادات وأنصار الإسلاميين ضد رموز النضال المدني والنسوي في الإقليم جراء التضامن مع مطالب النساء الإيرانيات، تحديداً في مدينة السليمانية التي تتسم بالانفتاح الاجتماعي والثقافي أكثر من غيرها في العراق. للوهلة الأولى جعلت الحركات الإسلامية من الحراك التضامني مع المحتجين في إيران مناسبة لضرب أي نشاط حول القضايا المتعلقة بحرية المرأة والحجاب الاختياري، ناهيك بالنقاشات الجارية حول النوع الاجتماعي. والذي أثار الاستغراب بهذا الشأن هو تحوير مُمَنهج لمفهوم النوع الاجتماعي وربطه بالمثلية الجنسية بينما لا يتعدى المفهوم الأدوار التي يلعبها الرجال والنساء في الحياة العامة.

إسلاميو كُردستان في ساحات "القتال الاجتماعي"

ولم تقتصر حملة الإخوان في الإقليم على تحوير الموضوع، بل تعدت ذلك ووصلت إلى هجوم الطلاب المنضمين إلى حزب الاتحاد الإسلامي (الفرع الكُردي للإخوان المسلمين في كُردستان) على لقاء أكاديمي في جامعة حلبجة حول النوع الاجتماعي، ما دفع بإدارة الجامعة والمنظمين إلى الغاء اللقاء. حصل الأمر ذاته في جامعة كَرميان جنوب مدينة السليمانية (190كم) واعتبره موقع إليكتروني بعنوان (شباب الاتحاد الإسلامي) نصراً ضد من وصفهم بـ “المفسدين”، ناهيك بالتحريض ضد أي نشاط أكاديمي مشابه.

وقد كتب داعية وكاتب إخواني معروف باسم (الحاج كاروان) على صفحته في الفيسبوك بشكل مقصود، “هل تعرف ما معنى النوع الاجتماعي؟ أنه الزواج بين الرجل والرجل، بين المرأة والمرأة، بين النساء والرجال والحيوانات!! حتى الحيوانات لا تقبل بذلك”. يذكر أن الداعية المذكور عضو في الاتحاد الإسلامي وكان عضواً في برلمان إقليم كُردستان.

ويكمن العودة في هذا السياق إلى مواقف مشابهة أبداها الإسلاميون بخصوص المرأة وعمل منظمات المجتمع المدني بشأن حريتها وحضورها ونشاطها في الفضاءات العامة. وكتب داعية يسمى بــ (المُلا هَلو) وهو من أشد المؤيدين لفرض الحجاب على المرأة وتقييد حريتها: “مَن يسمح بخروج ابنته أو زوجته من المنزل من دون الحجاب، فهو “قَوّاد”.

وسبق أن وصف المُلا ذاته المغنية الكُردية المشهورة ماريا هَورامي بـ “الكلبة“، وعاد واعتذر بعدما رفعت عائلة الفنانة صوتها ضد وصفه المسيء.

وقال داعية آخر يسمى بــ “المُلا مظهر” في مقابلة تلفزيونية بأن الناشطات النسويات يشبهن الغوريلا.

وما يثير الشك بهذا الخصوص هو صمت الادعاء العام والمؤسسات القانونية تجاه الإساءة بحق النساء والتقليل من شأنهن من قبل شخصيات منضوية تحت عباءة الإخوان المسلمين.

الحُرّية المجتزأة

هتف الإسلاميون في ربيع عام 2011 للمرة الأولى في تاريخهم: الحُرّية. خوفاً ان يشك أحد بأنهم “أحرار”، أخفوا إرشادات سيد قطب في جيوبهم الداخلية ونزلوا إلى ساحات الاحتجاج رافعين شعار الحُرّية.

لقد انضم إسلاميو كُردستان إلى الاحتجاجات الواسعة في العالم العربي في ذلك الربيع وأخفوا ما يمكن اخفاءه من النوايا المبطنة.

وكانت تلك لحظة وحيدة ويتيمة عاشها الإسلاميون بحُرّية غير مجتزأة، وذلك لأنهم أصبحوا جزءاً من الفضاء العام، إنما لم تقتض الباطنية السياسية وقتاً كي تتضح ملامح “حُرّية” علت الحناجر في ترديدها، حيث تركوا الفضاء العام وعادوا إلى رفع (معالم الطريق) للقتال الاجتماعي وليس القتال السياسي والديمقراطي كما أدعّوا في المنابر الدولية. إنها كانت حُرّية مجتزأة، أرادوا من خلالها الوصول إلى المنابر بما فيها منبر البرلمان بغية تعطيل أي قرار يخص المرأة وتعديل قانون الأحوال المدنية.