هل وصلت الاحتجاجات الإيرانية إلى سجن ايفين؟

تكتسب الاحتجاجات التي تشهدها إيران في الوقت الحالي، وتجاوزت شهرها الأول، كل يوم، سمة جديدة تضفي عليها خصوصية عند مقارنتها بالاحتجاجات التي سبقتها. وربما يكون أهم ما اكتسبته في أسبوعها الخامس هو أنها وصلت، في الغالب، إلى معاقل الأجهزة الأمنية، ولاسيما المعتقل الأبرز في إيران وهو سجن ايفين “زندان اوین”، الذي يحظى بشهرة عالمية، لأسباب عديدة منها أنه يضم الإيرانيين مزدوجي الجنسية من الذين تعتقلهم إيران بصفة مستمرة بتهمة العمالة لجهات خارجية والذين تحولوا إلى محور رئيسي في الخلافات المتجددة دائماً بين إيران والدول الغربية، فضلاً عن أقطاب من المعارضة والنشطاء السياسيين الذي ينتقدون باستمرار السياسة العامة للنظام والحكومة، إلى جانب أن اسمه مرتبط دائماً بانتهاكات حقوق الإنسان التي ترتكب في إيران.

اللافت في هذا السياق، هو أن النظام يمارس نفس سياسته القائمة على إنكار الأسباب الحقيقية للحريق الذي اندلع في السجن، في 16 أكتوبر الجاري، وأدى إلى مقتل 8 أشخاص وإصابة أكثر من 60 آخرين، حيث تقوم الرواية الرسمية للسلطات على أن شجاراً وقع داخل السجن بين المجرمين المتهمين بالسرقة أدى إلى اندلاع الحريق.

 

ومن دون شك، فإن النظام يسعى من خلال ذلك إلى نفى التكهنات إلى ترجح أن تكون هناك أسباباً أخرى محتملة لما حدث واكتسب اهتماماً دولياً بارزاً دفع دولاً عديدة، مثل الولايات المتحدة الأمريكية وبريطانيا، إلى تحميل إيران المسؤولية عن أي شيء قد يتعرض له السجناء مزدوجو الجنسية، وهي السياسة نفسها التي يعتمدها النظام في التعامل مع الاحتجاجات الحالية التي يرفض أن يعترف أن لها دوافعها الداخلية الواضحة، مصراً على ربطها بوجود أجندة تسعى قوى خارجية إلى تنفيذها داخل إيران.

وهنا، فإن هناك تساؤلات عديدة يمكن أن تدحض السردية التي تبناها النظام، وتضعها أمام إشكالية حقيقية تقلص من أي أهمية قد تحاول السلطات إضفاءها عليها، منها، على سبيل المثال، كيف وصل المشاركون في الشجار “المزعوم” إلى الأدوات التي أدت إلى اندلاع الحريق، وأين كانت القوات الأمنية المسؤولة عن تأمين السجن والنزلاء أو الفصل بين المشتبكين في مثل هذه الحالات.

دلالات عديدة

بالطبع، لم تستطع، وربما بمعنى أدق لم ترغب السلطات الإيرانية في الإجابة على تلك التساؤلات أو لم تجد لها إجابات مقنعة. وهنا، فإن ذلك يضفي وجاهة خاصة على الاحتمالات الأخرى التي تشير إلى أن ما حدث لا ينفصل عن ما يجري في الخارج، وتحديداً في الشارع الإيراني الذي تتصاعد حدة الاحتجاجات فيه منذ وفاة الفتاة الكردية مهسا اميني في 16 سبتمبر الفائت.

إذ لا يمكن استبعاد أن يكون المعتقلون السياسيون من التيار المعتدل أو النشطاء السياسيون العابرون للأجنحة السياسية قد سعوا إلى تنظيم احتجاجات داخل السجن تضامناً مع المحتجين في الشارع. وربما يكتسب هذا الاحتمال وجاهة خاصة في ضوء عاملين: أولهما، أن سجناء جدد انضموا إلى النزلاء السابقين في الشهر الأخير، بفعل الاعتقالات الواسعة التي نفذتها السلطات ضد المحتجين في الشارع، بهدف احتواء الاحتجاجات بأسرع وقت ممكن عبر الاستناد إلى الآلية القمعية التقليدية التي سبق اتباعها في التعامل مع الاحتجاجات السابقة، على غرار ما حدث في أزمات أعوام 2009 و2017 و2019.

ورغم أنه لا توجد إحصاءات دقيقة حول عدد المعتقلين في إيران بسبب الاحتجاجات الحالية، إلا أن إعلاناً رسمياً من السلطات الإيرانية في محافظة غيلان أكد، في 17 أكتوبر الجاري، أنه تم اعتقال 880 شخصاً في المحافظة، وهو ما يؤشر إلى توسع نطاق الاعتقالات على مستوى المحافظات الإيرانية الإحدى والثلاثين. وقد دفع ذلك منظمة الأمم المتحدة، بعد ذلك بيوم واحد، إلى تجديد دعوتها لإيران من أجل وقف القمع واستخدام العنف ضد المحتجين والاعتقالات التعسفية التي لم تستثن الأطفال والقاصرين.

هل وصلت الاحتجاجات الإيرانية إلى سجن ايفين؟

وثانيهما، أن قسماً من النزلاء في السجن يتبنون توجهات معارضة للنظام، وقد تعرضوا للاعتقال وصدرت ضد بعضهم أحكام قضائية بسبب الإفصاح عنها، وهو ما يتماهى مع الاحتجاجات الحالية، التي يتمثل أحد أبرز عناوينها الرئيسية في المطالبة بتوسيع هامش الحريات السياسية والاجتماعية التي تراجعت إلى حد كبير على مدى العقود الماضية بفعل التوجهات التي يتبعها النظام.

ضغوط متزايدة

ربما يطرح ما حدث داخل سجن ايفين احتمالاً آخر، وهو أن قوى الأمن باتت منهكة إلى حد كبير بفعل استمرار الاحتجاجات وتمددها، ونجاح المحتجين في احتواء تأثير الآليات التي تتبعها السلطات في التعامل معهم. إذ أن اندلاع حريق ينجم عنه هذا العدد من الضحايا في منشأة يفترض أنها تحظى بأعلى مستوى من الإجراءات الأمنية، يشير إلى أن خللاً خطيراً قد وقع داخل السجن لا يمكن معه استبعاد أن يكون ما حدث، في قسم منه، نتيجة الضغوط التي تعرضت لها قوى الأمن بشكل عام في الفترة الماضية، نتيجة استمرار تواجدها في الشارع وتزايد أعداد المعتقلين داخل السجن خلال الشهر الأخير.

وهنا، قد يمثل ذلك سمة أخرى جديدة اكتسبتها الاحتجاجات الحالية، والتي تشير إلى أن قسماً من المحتجين ربما استوعب الدروس المستفادة من الاحتجاجات السابقة، على نحو كان له دور في إطالة أمد الاحتجاجات. ومن دون شك، فإن ما ساعد على ذلك أيضاً هو أن المُحفِّزات الأساسية للاحتجاجات كانت أكثر اتساعاً وشمولاً من الاحتجاجات السابقة، وهو ما يفسر، إلى حد كبير، أسباب مشاركة مختلف الأعمار والطبقات فيها، لاسيما الطبقة الوسطى وفئة الشباب وحتى تلاميذ المدارس.

ملف شائك

فضلاً عن ذلك، جدد الحادث الجدل بين إيران والدول الغربية حول ملف السجناء من مزدوجي الجنسية. وإذا كان هذا الملف قد شهد نقلة نوعية في أول أكتوبر الجاري، بإبرام صفقة لتبادل السجناء بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية أفرجت بمقتضاها الأولى عن الأمريكي من أصل إيراني باقر نمازي، فإنه سرعان ما عاد إلى مربعه الأول من جديد، بعد أن قامت إيران، في اليوم نفسه، باعتقال تسعة أجانب أوروبيين من ألمانيا والسويد وهولندا وبولندا وفرنسا وإيطاليا اتهمتهم بالضلوع في تأجيج الاحتجاجات الحالية، كما قامت بإعادة سيامك نمازي- ابن باقر نمازي- إلى السجن مرة أخرى، بعد رفض تمديد الإجازة التي حصل عليها لمرافقة والده الذي أفرج عنه.

هل وصلت الاحتجاجات الإيرانية إلى سجن ايفين؟

اللافت في هذا السياق، هو أن إيران كانت تستخدم هذا الملف في السابق لممارسة ضغوط على الدول الغربية في ملفات محددة، مثل المطالبة بالحصوص على أموال إيرانية مجمدة في الخارج، أو بالإفراج عن مواطنين إيرانيين متهمين في قضايا داخل هذه الدول، وقد سبق أن أبرمت صفقات عديدة في هذا السياق مع الولايات المتحدة الأمريكية حتى في عهد إدارة الرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب. إلا أنها في الحالة الأخيرة ربطت بين اعتقال الأوروبيين التسعة والاحتجاجات المتصاعدة داخلها منذ أكثر من شهر، وذلك بهدف إضفاء وجاهة خاصة على روايتها الرسمية التي رددها المرشد الأعلى للجمهورية علي خامنئي والرئيس إبراهيم رئيسي أكثر من مرة خلال الفترة الماضية، والتي تقوم على أن ما يحدث نتيجة خطة أعدتها قوى خارجية، وتحديداً الولايات المتحدة الأمريكية وإسرائيل، لنشر الفوضى داخل إيران و”وقف الإنجازات التي حققتها الأخيرة خلال العقود الأربعة الماضية” حسب زعمهم.

هل وصلت الاحتجاجات الإيرانية إلى سجن ايفين؟

هنا تحديداً، يمكن القول إن العلاقات بين إيران والدول الغربية انتقلت إلى مرحلة أخرى من التصعيد غير المسبوق، بسبب الاحتجاجات الحالية. فرغم أنه لا يمكن استبعاد حرص الطرفين على مواصلة إجراء اتصالات حول بعض الملفات، ولاسيما المفاوضات النووية التي تعثرت في الفترة الماضية نتيجة إصرار إيران على الاستجابة لبعض شروطها المسبقة قبل الوصول إلى صفقة جديدة، فإن الرواية الرسمية التي يتبناها النظام في الوقت الحالي والتي أثرت على الإجراءات التي اتخذتها السلطات إزاء الاحتجاجات، سوف يكون لها تأثير مباشر على السياسة التي سوف يتبناها إزاء هذه الدول خلال المرحلة القادمة، خاصة أن ذلك في مجمله يتوازى مع تطور آخر لن يقل في تأثيره على العلاقات بين الطرفين عن تداعيات الاحتجاجات، وهو اتهام هذه الدول لإيران بتقديم دعم عسكري إلى روسيا لمساعدتها في إدارة العمليات العسكرية في أوكرانيا، عبر مدها بطائرات من دون طيار كان لها تأثير كبير في حجم الدمار الذي تعرضت لها العاصمة كييف وبعض المدن الأخيرة في الفترة الأخيرة.

لكن هذا التأثير سوف يرتبط في النهاية بمتغيرات عديدة يتمثل أهمها في المدى الذي سوف تصل إليه الاحتجاجات الحالية، والنتائج التي سوف تترتب عليها، خاصة على صعيد العلاقة بين النظام والشارع، وعلى مستوى اتجاهات السياسة الخارجية الإيرانية خلال المرحلة القادمة.