إيران والقاعدة.. الغاية تبرر الوسيلة

شكلت العلاقة بين إيران والتنظيمات المسلحة بمختلف تلوناتها الأيديولوجية والمذهبية، إستراتيجية عامة لم تحد عنها إيران منذ عام 1979، وهو العام الذي شهد نجاح ثورتها وصعود خطابها الثوري الذي أعاد تشكيل منطقة الشرق الأوسط من جديد، عبر مزيد من التدخل والفوضى وعدم الاستقرار.

كل ذلك من أجل تحقيق الغاية الإيرانية العليا في التأثير والسيطرة على مختلف التفاعلات الإقليمية في المنطقة، ويبدو أن الرغبة الإيرانية ذهبت إلى أبعد من اقتصار رعايتها السياسية والأمنية على حركات معينة كحزب الله اللبناني أو الحوثيين في اليمن أو الفصائل الولائية في العراق، أو غيرها من التنظيمات المسلحة الناشطة في مختلف المسارح الأمنية في الوقت الحاضر، لتشمل حركات أخرى مصنفة أمنيا كعدو لها، إلا أن توافق المصالح الأمنية المشتركة، جعل إيران تمد جسور التواصل معها.

وفي هذا السياق يأتي الحديث هنا عن العلاقة بين إيران والتنظيمات المتطرفة، وأبرزها تنظيم القاعدة، فرغم أن هناك علاقات وثيقة ربطتها بتنظيمات أخرى كجماعة شباب المجاهدين الصومالية أو بوكو حرام في نيجيريا، إلا أن العلاقة مع تنظيم القاعدة شكلت ركيزة لتمدد إيران نحو التنظيمات الأخرى، والأساس لها، لتوضح صفحة خفية أخرى من صفحات الإستراتيجية الإقليمية الإيرانية، في توظيف البراغماتية السياسية على حساب الأيديولوجية الثورية، وفي هذا الإطار مرت العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة بثلاث مراحل:

المرحلة الأولى (التأسيس): 1992 – 2001: شهدت هذه المرحلة وضع اللبنة الأساسية لبذور العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة، وكان مهندس العلاقة في تلك الفترة القيادي في حزب الله اللبناني عماد مغنية الذي اغتيل من قبل إسرائيل عام 2008 في دمشق، عبر اللقاء السري الذي جمعه مع زعيم تنظيم القاعدة أسامة بن لادن وحسن الترابي زعيم حزب المؤتمر الشعبي العربي الإسلامي آنذاك، ومحمد باقر ذو القدر  رئيس هيئة أركان الحرس الثوري آنذاك، إذ كان التوجه الرئيس للعلاقة في تلك الفترة هي وضع خطوط عامة تحكم العلاقة بين الطرفين فيما بعد.

المرحلة الثانية (التنسيق): 2001 – 2011: تمثلت أبرز ملامح هذه المرحلة بقيام إيران في توفير الدعم المالي والفني واللوجستي لتنظيم القاعدة، والتنسيق بين عمليات فيلق القدس والهجمات التي تشنها القاعدة في الخارج، انطلاقاً من الأراضي الإيرانية.

المرحلة الثالثة (التوظيف): ما بعد 2011: شهدت هذه المرحلة إعادة تعريف العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة، تماشياً مع المعطيات الإقليمية والدولية الجديدة، حيث تحولت العلاقة من التنسيق العسكري إلى التوظيف السياسي، وتحديداً بعد مقتل بن لادن وتقوقع فاعلية التنظيم، حيث تحول تنظيم القاعدة إلى أحد أوراق المساومة السياسية الإيرانية مع الخارج، خصوصاً وأن هناك أعداداً لا بأس بها من عناصر وقيادات التنظيم الذي يقيمون على الأراضي الإيرانية.

وثائق تكشف عمق العلاقة بين الطرفين في هجمات 11 سبتمبر

بعيداً عن السياق التاريخي الذي أطر العلاقة بين إيران وتنظيم القاعدة في مرحلة التسعينيات من القرن الماضي، إلا إن التحول الخطير في هذه العلاقة كان بعد هجمات 11 سبتمبر 2001، التي ضربت برجي التجارة العالمية في الولايات المتحدة، وهذا ما أظهرته الوثائق التي كشفت عنها وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية، والتي أوضحت أنها حصلت عليها أثناء عملية قتل أسامة بن لادن في مدينة أبوت أباد الباكستانية، والتي كان التنظيم قد نشر نسخة منها باللغة العربية، حيث كشفت هذه الوثائق عمق التنسيق الاستخباري والأمني بين إيران وتنظيم القاعدة في الإعداد لهذه الهجمات، والأكثر من ذلك؛ أكدت هذه الوثائق على أهمية إيران في كونها نقطة آمنة لتبادل الرسائل ومرور المقاتلين القاعديين، فضلاً عن تجنب أي أهداف عسكرية  ودينية تعود لإيران وحلفائها في المنطقة.

بعد مقتل قائد فيلق القدس السابق قاسم سليماني تحدث نائب الرئيس الأمريكي السابق مايك بنس عن علاقة سليماني بهجمات 11 سبتمبر، ورغم انتقاد صحيفتي “نيويورك تايمز” و”واشنطن بوست” تصريحات بنس بأن سليماني ساعد منفذي هجمات 11 سبتمبر التي ضربت الولايات المتحدة، إلا أن صحيفة “نيويورك تايمز” شددت على أن ذلك لا ينفي بأن إيران لعبت دوراً كبيراً في تسهيل عبور أعضاء تنظيم القاعدة من وإلى أفغانستان قبل 11 سبتمبر، حتى وإن لم تكن إيران أو حزب الله اللبناني على علم بموعد هذه الهجمات.

إذ حاولت إيران الحفاظ على سرية علاقتها مع تنظيم القاعدة، وجعلت الحرس الثوري هو المتحكم الرئيس بمسارات هذه العلاقة، عبر جهاز استخبارات الحرس الثوري ورئيسه شخصياً حسين طائب، فهي علاقات لا يمكن لأي جهاز  إيراني آخر اختراقها نظراً لخصوصيتها، هذه الخصوصية هي التي سهلت عملية دخول وخروج العديد من قيادات وعناصر تنظيم القاعدة من وإلى إيران قبل هجمات 11 سبتمبر، دون الحاجة لجوزات سفر أو حتى وضع عليها ختم الدخول إلى إيران في حالة وجودها، وكانت أبرز وجهات عناصر التنظيم هي؛ أما لمعسكرات كوثر في جنوب غرب إيران تابعة للحرس الثوري، أو لمعسكرات تابعة لحزب الله اللبناني في سهل البقاع، ومن ثم فإن البحث أكثر في مسارات هذه العلاقة السرية، تكشف حجم الإعداد الكبير الذي مارسته إيران، في تسهيل جهود عناصر وقيادات تنظيم القاعدة في تنفيذ هجمات 11 سبتمبر 2001.

إذ حرصت إيران على استمرار التعاون مع القاعدة، من أجل إيقاع أكبر قدر  ممكن من الخسائر في الجانب الأمريكي، من منطلق العداء المشترك للولايات المتحدة، حيث مكن التعاون بين إيران وتنظيم القاعدة، من شن التنظيم هجمات مكلفة على المصالح الأمريكية، ومن ذلك التفجير الذي تعرضت له السفارات الأمريكية في كينيا وتنزانيا في 7 أغسطس 1998، راح ضحيته 223 شخصاً، فضلاً عن الهجوم الذي تعرضت له حاملة الطائرات الأمريكية يو أس أس كول في ميناء عدن اليمني في 12 أكتوبر 2000، حيث أوضحت العديد من التقارير الصادرة عن وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية آنذاك، أن إيران نجحت في الفترة التي سبقت الهجوم على حاملة الطائرات، من إنشاء شبكة لوجستية للقاعدة في اليمن، وفي شهادة لمسؤولين في وكالة الاستخبارات المركزية الأمريكية أمام محكمة نيويورك، للتحقيق في هجمات 11 سبتمبر 2001، أصدرت المحكمة حكما يؤكد علاقة طهران بتنظيم القاعدة، وضلوع المرشد الأعلى للنظام الإيراني علي خامنئي شخصياً، وحزب الله اللبناني المباشر في تخطيط وتمويل وتنفيذ الهجمات، التي أودت بحياة نحو ثلاثة آلاف شخص في واحدة من أكثر الهجمات دموية في تاريخ الولايات المتّحدة.

إن التخادم الأمني بين إيران وتنظيم القاعدة، مكن طهران من تحقيق العديد من الاختراقات في المنطقة اليوم، وبالشكل الذي وفر لإيران التمدد جغرافياً عبر شريط يشمل أغلب المدن التي كان يسيطر عليها تنظيم القاعدة ومن ثم تنظيم داعش، والأكثر من ذلك أخذ تنظيم القاعدة اليوم يطرح نفسه كأحد الخيارات الإيرانية لمواجهة صعود حركة طالبان في أفغانستان، فرغم الارتباك الحاصل بالسلوك الإيراني حيال سيطرة حركة طالبان على مقاليد الحكم في أفغانستان، إلا أنها لا زالت تحتفظ بورقة عناصر وقيادات تنظيم القاعدة المقيمين على أراضيها، وكان من أبرز قيادات القاعدة التي تواجدت في إيران، هي محمد صلاح الدين زيدان مصري المعروف بـ(سيف العدل)، وعبد الله أحمد عبد الله، المعروف بـ (أبي محمد المصري)، الذي اغتيل بظروف غامضة في طهران في 7 أغسطس 2020، حيث وفر تواجد هذه القيادات وغيرها في إيران، فرصة للحرس الثوري لضبط تحركات عناصر التنظيم بعيداً عن المصالح الإيرانية في العراق وسوريا، ومن ثم فإن استثمار إيران لحالة الخلاف بين تنظيم القاعدة وحركة طالبان اليوم، يؤشر إلى مدى الاهتمام الإيراني الكبير بورقة القاعدة، وتوظيفها كأداة لتحقيق أهداف إستراتيجية مهمة بعيداً عن شعارات الثورة وأيديولوجيتها الجامدة، وبالشكل الذي جعل تنظيم القاعدة اليوم يندرج بطريقة أو أخرى تحت شعار المستضعفين الذين تدافع عنهم إيران أيضاً!.