إن حدث نقل 22 مومياء لملوك مصريين هو لداعي فخر لنا جميعاً كشعب عربي، ذلك لأنه جزء مهم لكيف استطعنا استعادة إدارة تراثنا العربي والمصري بعد احتلال سنوات.

إن نشأة علم المصريات مع الأسف كعلم غربي استعماري حرم الشعب المصري وبالتالي الشعب العربي من إتاحة المعلومات للغة يسهل قراءتها، فضلا عن استغلال الاستعمار الأمر في سرقات أثرية وثقافية لحساب الغرب.

واليوم لا زالنا نعاني من تبعات هذا الاستعمار الذي لم يستعمر بلادنا فقط، ولكن استعمر ثقافتنا بنسبها له وإبعاد مصريين الحاضر عنها بأكثر من طريقة، فلن أنسى أثناء عملي بدار الوثائق القومية على أرشيف ديوان المدارس على مدرسة اللسان القديم والتي أنشئت في أواخر القرن التاسع عشر لتعليم ستة طلاب من المصريين “لغة الهيروغليف” والأثار المصرية وكيف رفض أوجوست مارييت باشا أن يقوموا بالتدريب في المتحف على قراءة النصوص المصرية القديمة حتى لا يتفوقوا على أقرانهم الأوروبيين.

المومياوات الملكية

 

 

إقرأ أيضاً: أسرار المومياوات المصرية يكشفها فريق بحثي شاب.. الحقائق مثيرة

وقاتل أحمد كمال باشا رائد الأثريين المصريين، وأحد طلبة مدرسة اللسان القديم لاستكمال المسيرة وسط ظروف كانت صعبة جداً، وأتذكر أيضاً كيف تحكم الفرنسيون بمصلحة الأثار بنظارة الأشغال العمومية وكانوا السبب بأن مصر فقدت تمثال رأس تفرتيتي والذي يظل حبيساً بمتحف النويس ببرلين بعيداً عن مصر، وإقناع اسرة محمد علي التي كانت تعمل على مصالحها الشخصية اكثر من محاولة لبناء دولة مصرية قومية بالموافقة على قوانين القسمة والتي كانت مجحفة لمصر وأضاعت العديد من المجموعات الأثرية التي تعرض في المتاحف الدولية الآن.

 

المومياوات الملكية

 

ولكن اليوم هناك حوار قوي جداً في هذه المتاحف الغربية والتي بنيت على الإرث الاستعماري بأن القطع الموجودة لديهم سرقت بسبب استعمارهم للبلاد الأخرى، وقام رئيس دولة فرنسا ايمانويل ماكرون في ٢٠١٨ بإلقاء بيان تاريخي بأن فرنسا وباقي دول الاتحاد الأوروبي سوف تعمل على التخلص من الإرث الاستعماري في متاحفهم باسترجاع القطع الأثرية الإفريقية للبلاد التي تم سرقتها وتجريفها من تراثها تحت الاحتلال.

يتزامن ذلك مع طلب دولة نيجيريا لاستعادة آثار بنين والتي سرقت بعد قتل جميع القرية تحت الاستعمار البريطاني.

وبالعودة للحديث عن مصر، فلدينا الكثير من القطع الأثرية التي خرجت في ظروف مشابهة مثل حجر رشيد الذي أخذه الجيش البريطاني من الحملة الفرنسية كغنيمة حرب، وزودياك دندرة الذي تم تفجير المعبد لكي يتم أخذه عنوة، ورأس نفرتيتي والعديد من القطع الأثرية الأخرى المهمة للهوية المصرية اليوم.

والكثير من مديري المتاحف الدولية التي بنيت على تراث الشعوب الأخرى يقولون إن الأثار التي لديهم هي بمأمن لأن الدول التي أخذوا منها هذه الأثار لن تقدر على حمايتها والحفاظ عليها بالشكل الذي يضمن استدامتها، ولكن اليوم بموكب نقل الـ٢٢ مومياء الملكية وبافتتاح متحف الحضارة، ردت مصر ردا قويا جداً على السردية الاستعمارية الجديدة.

 

المومياوات الملكية

 

المتحف القومي للحضارة المصرية

وفيما بدا وكأنها رسالة للعالم، قالت مصر إن لدينا متاحف عظيمة مثل المتحف القومي للحضارة المصرية والذي بني لكي يرد على الرواية الاستعمارية بأن المصري اليوم ليس له علاقة بالمصري القديم لكي يستمر الغرب في استعماره الثقافي لحضارتنا.

والرائع أن متحف الحضارة يتناول الطبقات التاريخية المختلفة للتراث والهوية المصرية التي شكلت هذا البلد الفريد الغني بتراثه، وأن نقل الـ٢٢ مومياء من المتحف المصري بالتحرير والذي بنته القوى الاستعمارية في مطلع القرن العشرين وكتب عليه باللغة اللاتينية التي لم يقرأها أي من المصريين.

لقد حاول المستعمر أن يفصل المصري عن تراثه لكي يستولي عليه، ولكن الآن يستعيد الشعب المصري الولاية الثقافية على تراثه من جديد وليس فقط من خلال أن يسترد القطع الأثرية، ولكن من خلال استرداد المعرفة التي يتم إنتاجها من خلال هذه القطع لإثراء ثقافتنا الحضرية.

المومياوات الملكية

 

إن عرض الـ٢٢ مومياء في متحف الحضارة هو أيضاً له مغزى قوي بأن المصريين اليوم يشعرون بأن هؤلاء الملوك همة بمثابة أجدادهم من آلاف السنين، وكان ذلك جلياً في نقلهم في أواخر القرن التاسع عشر عندما اتشح النساء بالسواد وغطين وجوههن بنبات النيلة مثل أسلافهن القدماء المصريات لكي يشيعن جنازتهن عندما خرجت من البر الغربي بالأقصر، وأيضاً أمس عندما وقف الكثير من المصريين ليتابعوا بفخر وعزة الموكب المهيب الذي انتقل من المتحف المصري بالتحرير إلى متحف الحضارة بالفسطاط والذي يقع بجانب أقدم عاصمة إسلامية لمصر.

ويأتي الحدث ليضاعف حالة الزخم الموجودة بين المصريين المهتمين بتراثهم، وأرجو أن تستمر تلك الحالة من خلال إدماج المصريين بشكل أفضل في حوار مجتمعي قوي عن تراثهم وكيفية إدارته وعرضه حتى يكون هناك إحساس لمواطن الشارع العادي بملكية تراثه وهو ما سوف يحمي هذا التراث للأجيال القادمة أكثر من أي شيء آخر.

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن