أخبار الآن | مقال رأي

تُعد التنشئة الإجتماعية Socialization حجر الزاوية في بناء أي مجتمع. كما تعد الأسرة واحدة من أهم مؤسسات التنشئة الاجتماعية، إن لم تكن أهمها. لذا خصص العلماء الكثير من الوقت و الجهد لدراسة كيفية التنشئة الإجتماعية و ما هي القيم الشخصية و المعايير الاجتماعية التي تحرص الأسرة في أي مجتمع على غرسها في الأجيال الجديدة. لقد درس الباحثون مجموعة كبيرة من القيم الشخصية و مدى اهتمام العوائل على تعليمها لأبنائهم خلال مراحل تنشئتهم الاجتماعية. يعد مسح القيم العالمي World Values Survey الذي يجري كل خمس سنوات تقريباً في كثير من دول العالم (و بضمنها العراق) من أهم الدراسات الميدانية التي تناولت هذا الموضوع حيث يجري استطلاع رأي وطني و شامل لآراء مواطني كل دولة بخصوص أهم القيم الإيجابية التي يتم التركيز عليها في تربية الطفل.

لوموا أنفسكم: قراءة جديدة في الشخصية العراقية

الشكل 1 مثلث الأهمية النسبية للقيم

من بين قائمة من 10 قيم إيجابية اختيرت بعناية من قِبل الخبراء النفسيين في العالم، هناك ثلاث قيم استرعت انتباهي هي الإيمان الديني، و الطاعة، و الإستقلال. إن السبب الذي جعلني أهتم بهذه القيم،هو أهميتها للمجتمع العراقي أولا ،كما أن أجابات العراقيين عبر الخمس عشرة سنة الماضية جعلت هذه القيم الثلاث هي التي تشكل أضلع مثلث الاهتمام بالقيم التي ينشىء العراقيون أبنائهم عليها. هذه القيم الثلاث تُجسد إلى حد كبير شخصية الفرد و تنعكس على العلاقات الاجتماعية بين الأفراد. فهي توضح خارطة الاهتمام النسبي الذي يوليه العراقيون للقيم المختلفة التي يربون أطفالهم عليها. و كما يبدو واضحاً من الشكل (1) فإن الأهمية النسبية للقيم لدى العائلة العراقية تتمثل بمثلث مقلوب تتربع فيه قيمتي الإيمان الديني و الطاعة في القمة في حين أن قيمة الإستقلالية تمثل رأس المثلث المقلوب (الشكل 1).

الإيمان الديني

ليس سراً القول أن الدين يلعب دوراً أساسياً لا عند العراقيين فحسب بل عند معظم شعوب العالم. لكن الأهمية النسبية لهذه القيمة تختلف من شعب لآخر.

لوموا أنفسكم: قراءة جديدة في الشخصية العراقية

الشكل 2

و لا شك أن  ذلك يمثل تحولاً في تفضيلات العراقيين نحو القيم الفردية التي يريدون لأبنائهم النشوء عليها و هذا بحد ذاته يمثل تحولاً مهماً يعكس طبيعة تفاعل الدين مع المجتمع خلال هذه الفترة. مع ذلك فقد بقيت قيمة الإيمان الديني ضمن قمة التفضيلات للعراقيين و لم يتفوق عليها سوى قيمة احترام الغير. وسيكون من المثير متابعة التغيير الحاصل في أهمية هذه القيمة عند العراقيين وما أذا كان هذا الأنخفاض في أهميتها سيستمر أو لا. لكن،حتى الان فأن هذه القيمة مازالت تتربع على قمة القيم المفضلة للعراقيين على الرغم من ان الموجة الأخيرة للبيانات(2019) أظهرت تفوقا نسبيا لقيمة (تحمل المسؤولية) على الأيمان الديني وهي دلالة أخرى على حصول تغيير واضح في أولويات المنظومة القيمية للعراقيين.خلال الأربع موجات التي أجرى فيها البحث في العراق في سنوات ( 2004، 2009، 2014، 2019 ) ، لوحظ الاهتمام الشديد للعراقيين بتنشئة أبنائهم على الإيمان الديني. و كما هو واضح من الشكل (2) فإن 92% من العراقيين اختاروا الإيمان الديني كأحد القيم التي يربون عليها أبنائهم عام 2004، و هذه أعلى نسبة مقارنة مع كل القيم العشرة الأخرى التي تم اقتراحها للمستجيبين في هذا الإستطلاع. و بالمقارتة مع المعدل العالمي لهذه القيمة لدى شعوب باقي العالم في نفس السنة والواضحة في الشكل،فإن حرص العراقيين على تربية أبنائهم على الإيمان الديني أكبر بكثير من المعدل العالمي البالغ 53%. و حتى في الموجات اللاحقة في سنوات 2009،  2014 و2019  كان العراقيون متفوقين بوضوح في تفضيلهم لهذه القيمة مقارنة بالمعدل العام لشعوب العالم الأخرى. صحيح أن هناك دول أخرى تتفوق في تفضيل هذه القيمة على العراقيين كما هو الحال في الأردن و مصر مثلاً لكن العراق و كما تُظهر الأرقام كان دوماً من بين أعلى الشعوب في تفضيل هذه القيمة. مع ذلك ينبغي الإنتباه إلى ملاحظة مهمة، و هي أن نسبة اختيار هذه القيمة قد انخفضت تدريجياً خلال السنوات اللاحقة حتى وصلت إلى 62% عام 2019 (الشكل 2).

الطاعة

تعني الطاعة عند الأطفال، أن يتعلموا على عمل ما يؤمرون القيام به حتى لو كانوا يعتقدون أن هناك طريقة أخرى مفضلة لهم. بمعنى أن يتعلم الطفل على تحقيق ما يحتاجه الآخرون منه *للمصدر اضغظ هنا . أن الطاعة هي المادة الحقيقية للسلطة،فبدون الطاعة لا يستطيع أصحاب السلطة ممارسة تأثيرهم على الآخرين. لقد أظهرت تجارب نفسية شهيرة قام بها عالم النفس مليكرام كيف أن الطاعة للسلطة تجعل الأفراد يقومون بأشياء لا يؤمنوا بها و قد تصل حد إيذاء الآخرين بل و قتلهم *للمصدر اضغظ هنا.

و على الرغم من أن الطاعة لسلطة الأبوين أو لمصادر السلطة الأخرى(الرسمية وغير الرسمية) مطلوبة إلا أن الإفراط في تنشئة الأجيال على الطاعة على حساب قيم أخرى تعلم الاطفال على الاستقلالية وتحمل المسؤولية تخلق مجتمعاً تسوده ثنائية التسلط-الخنوع.

إن الأرقام التي يظهرها المسح الميداني للقيم التي يفضل العراقيون تربية أبنائهم عليها (الشكل 3) تدق ناقوس الخطر بخصوص نوعية الأفراد الذين نريدهم لمجتمعنا ! فالشخصية التسلطية هي شخصية مطيعة في أصلها كما تشير لذلك البحوث النفسية التي أجريت عالميا. بمعنى أنها تطيع السلطة حتى و إن بدت هذه السلطة و الأوامر التي تصدرها متعارضة مع قيم الخير الإنسانية. و قد أوضحت تجارب مليكرام كيف أطاع الجيش الألماني هتلر رغم أن أوامره كانت تتعارض أحياناً مع ما يؤمنون به. أن سيادة قيمة الطاعة وعلويتها على بقية القيم تساعد على تربية جيل من الخانعين و\أو المتسلطين وهو نمط سلوكي شائع للاسف لا في العراق حسب بل في كثير من المجتمعات التي تقدس ثنائية السلطة الطاعة.

إن ما نسميه بالشخصية المزدوجة للعراقي(التي كتب عنها الراحل علي الوردي ويتحدث عنها العراقيون بأستمرار) تتجسد في إظهار سلوكيات مرغوبة أمام المجتمع (بإعتبار أن سلطة المجتمع تفرض على الإنسان طاعة هذا السلوكيات)، في حين أنه يظهر سلوكيات أخرى قد تكون متناقضة تماماً لما يظهره مجتمعياً و ذلك عندما يخلو بنفسه بكلام أخر فإن هذا الإهتمام العالي بقيمة الطاعة و كما تظهره الأرقام في شكل 3 تنمي عند العراقي إمكانية السلوك المتناقض.فالشخص المطيع جدا يحاول باستمرار ارضاء السلطة،سواء كانت هذه السلطة الأب أو المجتمع أو المدير أو الوزير …الخ وبغض النظر عن مدى قناعته كشخص مستقل بمدى صحة أوامر السلطة. في المقابل تجد نفس الشخص يتصرف بشكل مناقض تماما لما قام به أمام السلطة عندما يشعر أن تلك السلطة لا تراقبه. لقد صور الراحل العظيم نجيب محفوظ هذه الشخصية المزدوجة لمن نشأ على الطاعة والتسلط عبر أبطال قصته في ثلاثيته الشهيرة، فتجد مثلا الأب(سي السيد) وولده يتصرفان بتناقض عجيب أمام مصادر السلطة المختلفة(الأسرة،المجتمع،والأصدقاء).

لوموا أنفسكم: قراءة جديدة في الشخصية العراقية

الشكل 3


الإسقلالية
وكما هو الحال مع قيمة الأيمان الديني فأن الطاعة بحد ذاتها كقيمة ليست شيئا معيبا ظاو مرفوضا. فبدون حد أدنى من الطاعة لا يمكن لأي عملية تنشئة أجتماعية أن تنجح، كما لا يمكن ضبط السلوك الأنساني داخل المجتمعات أو المنظمات المختلفة. لكن المشكلة تنشأ حين تجري المبالغة في أهمية الطاعة كما هو ظاهر لنا هنا.وحتى عندما نقارن نسبة الاهتمام بتنمية هذه السمة مع المعدل العالمي نجدها عالية جداً بين العراقيين. اذ يوضح الشكل (3) كيف أن العراقيين و عبر كل موجات الإستطلاع و سنينه أظهروا نسبة اهتمام بالطاعة أعلى بكثير من المستوى العالمي. و هذا قد يفسر مرة أخرى سبب ارتفاع نسبة السلوك التسلطي أو سلوك الخنوع في المجتمع العراقي مقارنة بالمجتمعات الأخرى.

يعد علماء النفس الإستقلالية في شخصية الطفل موازية في قيمتها للصحة العقلية له. بمعنى أن الطفل الذي لا يتعلم الإستقلالية في قراره فهو غير سوي نفسياً *للمصدر اضغط هنا .

أن سمة الإستقلالية تساعد على تعليم الطفل و من ثم الفرد حين يكبر كيفية اتخاذ قرارته بنفسه و دون الحاجة إلى الآخرين، و هي سمة ترتبط مباشرة أيضاً بتحمل المسؤولية.

للأسف و كما ظاهر من الشكل (4) فإن سمة الإستقلالية هي أقل السمات الشخصية التي يحرص العوائل العراقية على تربية أطفالهم عليها بحسب كل موجات الإستطلاع التي أجريناها منذ عام 2004. لذلك تظهر أهمية هذه السمة ممثلة في رأس المثلث المقلوب للأسفل

لوموا أنفسكم: قراءة جديدة في الشخصية العراقية

الشكل 4

و في الوقت الذي لم تصل فيه نسبة الاهتمام بتنمية الإستقلالية لدى الأطفال بين العراقيين إلى مستوى 30% في كل السنين فإن الظاهرة المقلقة أنها انخفضت إلى 14% فقط في عام 2019. و مقارنة مع المعدل العالمي للإهتمام بهذه السمة فإن الشكل (4) يوضح أن العراقيين يهتمون بإستقلالية قرار أبنائهم بدرجة أقل بكثير من المعدلات العالمية وهذا مؤشر أجتماعي مقلق جدا.فحين يهتم 1.5 عراقي فقط من كل عشرة أشخاص بزرع قيمة الأستقلالية في القرار والتصرف لدى أبناءه فهذا يعني أننا ننشىء أجيالا معتمدة وغير مستقلة وتحتاج من يتخذ القرار أو يتصرف عنها. هذه النسبة الخطيرة قد تفسر كثير من السلوكيات السلبية السائدة في المجتمع وأهمها محاولة التنصل من المسؤولية وألقاء اللوم على الاخرين في الفشل. فكثير من الطلاب لا يلومون أنفسهم حين يفشلون لكنهم يلومون المعلم(المتحيز والمتشدد…الخ). والفريق الذي يخسر المباراة يلوم الحظ أو الحكم المتحيز. كما أن فشل الحكومة يعزى لكونها تابعة لهذا الطرف أو ذاك أو لأنها عرضة لمؤامرة أستعمارية أو صهيونية…الخ ونادرا ما تسمع من يقول أننا نحن الذين أخطأنا في قرارنا وانتخابنا لها!!

الخلاصة

إن الإستنتاج الرئيس الذي يمكن الخروج به من هذه الدراسة الموجزة للارقام أعلاه ،هو أن مثلث أهمية القيم المقلوب (الشكل1) أعلاه يؤشر بوضوح خارطة الأهمية النسبية للسمات الشخصية التي يهتم بها غالبية العراقيين و التي تؤدي إلى خلق مجتمع لا يهتم فيه الأفراد بتحمل المسؤولية و الإستقلالية في القرار بقدر اهتمامهم بإظهار الولاء و الطاعة. و تتفاقم هذه المشكلة عندما تتفاعل هذه القيم الثلاث (الإيمان الديني، الطاعة ، و الإستقلالية) مع بعضها البعض. فالإيمان الديني قيمة مرغوبة بحد ذاتها و كذلك الطاعة، لكن هاتين القيمتين كما يبدو من الإختبارات الإحصائية التي أجريتها تتفاعلان مع بعضهما البعض و بشكل يعزز أحداها الأخرى.فقد تبين وجود علاقة ارتباط موجبة و قوية بين من يهتمون بتنمية الطاعة  ومن يهتمون بتنمية الأيمان الديني لدى أبنائهم. و كانت المفارقة الأشد هي وجود علاقة ارتباط (لكنها عكسية هذه المرة) بين من يهتمون بتنمية الإيمان الديني و الطاعة من جهة و بين من يهتمون بالإستقلالية!! بكلمة أخرى فإن من يهتمون بتنمية الإيمان الديني أو الطاعة لدى أبنائهم لا يهتمون كثيرا بتنمية الإستقلالية لديهم! معنى أن العراقيين الذين يركزون على غرز قيمتي الأيمان الديني والطاعة(وهم الأغلبية) لا يعيرون في الغالب أهمية لتنمية قيمة الاستقلالية لدى أبنائهم.

إن بقاء مثلث أهمية القيم مقلوباً  في العراق كما يجسده الشكل الأول سوف لن يؤدي إلاّ إلى تخريج أجيال متسلطة، وخائفة، وغير قادرة على تحمل المسؤولية و لا على اتخاذ القرار دون الإعتماد على الآخرين. كما أن علينا عدم لوم أبنائنا أو أفراد مجتمعنا على إظهار سلوكيات متناقضة أو ما نسميه بالشخصية المزدوجة لأننا (كعوائل) ننمي في أجيالنا أهمية الخضوع للسلطة سواء الرسمية منها أو التقليدية (الدين و العرف) في حين لا نهتم بتنمية استقلاليتهم في أفكارهم و قراراهم.

ملاحظة مهمة أخيرة، أن قيمتي الإيمان الديني و الطاعة مهمتان في عملية التعلم و التنشئة الاجتماعية الإ أن زيادة الاهتمام بهما، و إهمال بقية القيم التي تساعد على تنمية جيل صحيح مثل قيمة الإستقلالية، أو العمل الشاق، أو التخيل أو سواها من القيم التي لم يبد العراقيون اهتماماً كبيراً بها لن يؤدي إلاّ إلى خلق مجتمعات لم تعد صالحة لمتطلبات العصر الرقمي.

تنويه: جميع الآراء الواردة في زاوية مقالات الرأي على موقع أخبار الآن تعبر عن رأي أصحابها ولا تعكس بالضرورة موقف موقع أخبار الآن