ناشط بيئي لأخبار الآن: 5 مليون طن من الملوثات الخطرة في تونس تلقى سنويا ببحر قابس دون معالجة

تعتبر مدينة قابس الواقعة جنوب تونس مدينة قديمة أقيمت على ضفاف أكبر خليج في البحر الأبيض المتوسط وكانت قبلة سياحية لجمعها في مشهد نادر بين الجبل والواحة والبحر إلا أن هذه المدينة تحولت إلى منطقة منكوبة وملوثة بعد أن تم تركيز مجمع كيميائي يحول الفوسفات إلى حمض الفوسفوريك فيها في سبعينات القرن الماضي.

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

صورة طائر نافق على شاطئ السلام (أخبار الآن)

وقد تنقلت أخبار الآن لهذه المدينة وتحديدا إلى شط السلام حيث تفوح الأبخرة الكيميائية حاملة معها روائح الموت الذي قضى على الثروة الحيوانية وأضر بصحة سكان الحي المجاور للمجمع بمعدل كبير وفي هذا الإطار التقت أخبار الآن بالناشط البيئي وعضو حملة أوقفوا التلوث Stop pollution، خير الدين دبية الذي أخذنا في جولة في المنطقة الصناعية التي يمنع التصوير فيها في العادة.

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

صورة وضعية النخيل الذي كان يعتبر أكبر ميزة طبيعية في المدينة (أخبار الآن)

وقد كشف لنا الشاب:”نحن الآن في شط السلام ونستطيع أن نرى أنه ما بين الواحة والبحر يوجد مصنع يسبب التلوث وفي السابق كانت هذه المنطقة الواحة البحرية الوحيدة في المتوسط ومن الأماكن النادرة في العالم واليوم أصبحت رمزا للتلوث.”

بعد أن كانت رمزا عالميا.. قابس تتحول إلى أكثر منطقة تعاني من التلوث في تونس وفي المنطقة المتوسطية

كان التصوير في المنطقة الصناعية صعبا ليس لأن الصحفيين في العادة يتعرضون للتضييق فيها فقط بل لأن الأبخرة الكيميائية كانت بالفعل خانقة وقد تعرض الفريق الصحفي والناشط البيئي لنوبة سعال متواصلة طوال فترة التواجد في تلك المنطقة هذا إلى جانب شعور بالحرقة في الحلق والعينين وقد كشف الناشط البيئي:”تعتبر هذه المنطقة أكثر مكان يعاني من التلوث في الساحل التونسي بحكم الكميات الضخمة التي يتم إلقاؤها في البحر والتي تقدر بحوالي 16 ألف طن من مادة الفوسفوجيبس الذي تحتوي على اليورانيوم وكادميوم والمواد المشعة وأكد خير الدين:”هذه المنطقة تعتبر أكبر منطقة مشعة كذلك لأن 5 مليون طن من الملوثات الخطرة تلقى سنويا في البحر دون أدنى معالجة.”

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

صورة البحر الملوث (أخبار الآن)

في ذات السياق التقت أخبار الآن بالخبير البيئي حمدي حشاد الذي كشف أن قابس ليست أكثر منطقة ملوثة في تونس فحسب بل في المنطقة المتوسطية أيضا إذ صرح:”تعتبر قابس تقريبا من أكثر المناطق الملوثة ليس في تونس فقط بل في المنطقة المتوسطية ككل وفق عديد التقارير الدولية.

وتابع:”أهالي وسكان قابس يدفعون يوميا ضريبة خيارات تنموية خاطئة اتخذت في فتره الستينات والسبعينات وهم مازالوا يدفعون الضريبة إلى حد الآن، سواء على الجانب الصحي أو كذلك على الجانب البيئي”.

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

كما كشف حشاد أن التلوث لا يقتصر على منطقة قابس والمناطق المجاورة لها فقط بل امتد إلى سواحل مدينة صفاقس وجزر قرقنة وكذلك سواحل الجنوبية التي تشمل جربة وعديد المناطق الأخرى وقال:”الأسماك التي يقع اصطيادها من تلك المناطق أو الرخويات على الأغلب هي محملة بكميات من الملوثات التي ممكن أن تتسرب إلى صحة الإنسان وجزء كبير من الأسماك التي يقع اصطيادها في تلك المنطقة يقع تصديرها إلى دول أوروبية ودول عربية وحتى إلى أمريكا الشمالية والأزمة بدأت تأخذ أبعاد دولية أكثر من المتصور.”

“في كل بيت يوجد ضحية من ضحايا التلوث”

لم تتوقف جولة أخبار الآن على منطقة المجمع الكيميائي بل وقع التنقل إلى الأحياء المجاورة له والتي لا تبعد إلا بعض مئات الأمتار القليلة عنه إذ يطل عدد كبير من منازل سكان شط السلام مثلا حرفيا على المجمع الكيميائي وقد اعترضت طريقنا سيدة تونسية يجاور منزلها هذا المجمع يبدو على ملامحها المرض والتعب إلا أنها أصرت على استقبالنا في منزلها وقد قالت:”معاناتنا مع المجمع يومية وعلى ما يبدو أبدية، أنا أسكن بجانبه وكأننا جيران لا تفصلنا إلا سكة حديدية.”

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

وكشفت لأخبار الآن:”بسبب التلوث، أصبت بالسرطان ولست الوحيدة أغلب سكان هذه المنطقة مصابون أو مهددون بالإصابة به.. الوضع هنا لا يطاق إذ نجبر على إغلاق نوافذ بيتنا أغلب الوقت لتجنب الروائح المنبعثة من المنطقة الملوثة.”

وتابعت:”ابنتي مصابة بالحساسية وزوجي كذلك وابني غادر المنزل العائلي الكبير الذي كان يجمعنا لينجو بأبنائه من التلوث ورغم صعوبة ظروفه المادية استأجر منزلا بعيدا عن هذه المنطقة ليحافظ على سلامة عائلته.”

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

صورة للمرأة المصابة بالسرطان في منزلها الواسع الذي هجره ابنها للنجاة من التلوث (أخبار الآن)

وقد التقت أخبار الآن بابنها محمد أمين الشريف الذي يعمل فلاحا وقال بينما يشير إلى شجرة محترقة أوراقها:”الشجر والبشر متضررون.. على سبيل المثال هنالك تسريب حدث في المجمع الكيميائي في الليل وبسبب الرياح انتقلت تلك الانبعاثات إلى هذه الغابة وتسبب في موت واحتراق عدد من أشجارها.”

وعلى الجانب الصحي صرح الشريف:”أبخرة المجمع الكيميائي تجعلني غير مرتاح ومرهقا بدنيا وبسبب المجمع الكيميائي أصيبت أمي بمرض السرطان وهناك العديد من الناس في شط السلام أصيبوا بنفس المرض جراء الانبعاثات.”

وفي ذات السياق كشف الناشط البيئي دبية:”في كل بيت يوجد ضحية من ضحايا التلوث يعني إذا لم يصب التلوث السكان بأمراض الجهاز التنفسي فإنه على الأغلب قد أصاب أحدهم بمرض السرطان.”

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

وذكر خير الدين جملة يرددها المتساكنون هنا تقول:”السرطان أصبح مثل الإنفلونزا” لأنك إن سمعت شخصا أصيب بمرض السرطان فهو ليس شيئا غريب بل متوقع.” وأضاف:”كل شخص يتوقع أنه سيصاب بمرض من هذه الأمراض وهذه مأساة يومية وإرهاب يعيشه الناس إرهاب صحي ونفسي كبير جراء هذه الملوثات ويجب غلق المجمع في أقرب وقت.”

الحلول المقترحة لحل الأزمة البيئية.. “مجازفة كبرى”

منذ 2011 كانت هناك عديد التحركات التلقائية من السكان لغلق المجمع الكيميائي وقد قال الناشط البيئي:”قمنا بالعديد من التحركات وعديد الحملات منها الحملة الموجودة من 2012 نحب نعيش.. أوقفوا التلوث وصدر قرار سنة 2017 يقضي بتفكيك هذه الوحدات وبالنسبة للسكان كان هذا نوع من الانتصار لكن للأسف هذا القرار لم ينفذ إلى الآن.”

وحذر دبية:”لامبالاة المسؤولين ستجر السكان لانفجار اجتماعي وهو متوقع لأنه حدث سابقا سنة 2015 و2020 ولأنه مع المشكل البيئي يوجد مشكل اجتماعي يتمثل خاصة في البطالة وهذا الخليط سينبئ بتحركات في المستقبل لأن طريقة تعامل السلطات التونسية لم تتغير كثيرا  بالرغم من أن من يرأس السلطة اليوم كان في السابق أحد المتحركين ضد التلوث في قابس.”

"السرطان مثل الإنفلونزا" سكان أكثر منطقة ملوثة في تونس يتحدثون لأخبار الآن عن مأساتهم الصحية

صورة من أمام المجمع الكيميائي (أخبار الآن)

أما عن الحلول المقترحة الأخرى لهذا المشكل البيئي فصرح الخبير البيئي حمدي حشاد:”الحل يعتبر مجازفة كبرى لأنه من الصعب الحفاظ على المجمع الكيميائي والعائدات الاقتصادية المهمة والجانب التشغيلي الذي يساهم فيه وكذلك من جانب آخر الحفاظ على أرواح الناس وحماية المنظومة الإيكولوجية الهشة لكن بتنا الآن ننادي أكثر من قبل كناشطين إيكولوجيين إلى التوجه إلى حلول وسطية يعني اعتماد معايير التكنولوجيا البيئية في مراقبة نشاطات المجمع الكيميائي للحد من الملوثات وأن تكون الانشطة الممارسة داخل المجمع الكيميائي مطابقة للمعايير الدولية دون أن تحدث أضرار جانبية سواء على البيئة أو على صحة الإنسان.”

هذا وتحتل تونس منذ عقود مراتب عالمية في إنتاج الفوسفات وتحويله وتوجيهه نحو التصدير إذ كانت خامس أكبر مصدر للفوسفات عالميا سنة 2010 ويعتبر من أهم أرقام المعادلة الاقتصادية في تونس لكن هذا النمو الاقتصادي كان له ضريبة بيئية كارثية على مستوى ولاية قابس و الولايات المجاورة.