أخبار الآن | دمشق – سوريا (قيس الدمشقي)

تركزت معظم ساحات الصراع في الأرياف السورية بشكل كبير، حيث كانت المجتمعات المحافظة الحاضن الأكبر للثورة السورية وحراكها الشعبي.

وقد تحملت هذه المناطق النصيب الأكبر من أعداد النازحين واللاجئين السوريين داخل البلاد وخارجها، الأمر الذي ألقى بظلال الأزمة على الركن غير المتمكن في هذه المجتمعات ألا وهي المرأة.

تصدت المرأة السوريّة لحمل أعباء الحرب المعنوية المتمثلة بفقدان السند والمعيل سواء كان الزوج أو الإبن أو الأب، إضافة إلى عدم الاستقرار في مناطق اللجوء، و خاصة في بلد كسوريا لا يطبق فكرة التأمين والضمان الاجتماعي لمواطنيه، في فترة الرفاه والسلم فكيف والبلاد غارقة في اقتصاد حرب.

فالأصل في المجتمع السوري أن الأسرة تعتمد بشكل كلي على الرجل الّذي يقع عليه عبء تأسيس العائلة وتأمين الظروف المعيشية والاحتياجات الأساسية للحياة، بينما تقوم المرأة بدور ربّة المنزل ورعاية الأطفال، فكان غياب المعيل أمر يصعب التأقلم معه بالنّسبة إلى النساء السوريات.

مما حدا بهن الى الإعتماد على أنفسهن، خصوصا أن مجمل الأوضاع الإقتصادية في البلاد لا تساعد في أن يقوم أحد أقربائهنّ أو ذويهن بمد يد العون لهن، وبحسب لجنة الأمم المتحدة (الإسكوا) في تقرير لها أنّ 80% من السوريين يعيشون اليوم تحت خط الفقر.

ونتيجة ارتفاع الأسعار للمواد والحاجات الرئيسية وإيجار المنازل الى درجة لم تعد تتناسب بأي شكل من الأشكال مع الدخل (إن وجد أصلا)، وغياب الكثير من المهن عن السوق نتيجة انقطاع الكهرباء لفترات زمنية طويلة، وعزوف الكثير من الرجال دون سن الخمسين عن التنقل خارج حدود مناطق اقامتهم، كل ذلك خلق دافعا اقتصاديا قويا إلى تغيير المفاهيم الاجتماعية.

فكانت ضررورة لجوء الأسرة لتبرير فكرة عمل المرأة في ميادين تتجاوز الميادين التقليدية التي قبلها المجتمع المحافظ للمرأة لتكون عضوا منتجا فيها كالتعليم والتربية والتمريض  فتجاوزت المرأة السورية هذه الميادين الى العمل في محلات بيع الألبسة والأحذية النسائية وأدوات الزينة و الماكياج ومحلات بيع الأدوات المنزلية .

وفي مرحلة تالية أصبحت المراة تدخل ميادين العمل في المصانع والمعامل والورشات التي قد لا تتناسب مع طبيعة المرأة جسديا وعضليا، وأصبح أرباب العمل يفضلون تشغيل النساء بدلا من الرجال نظرا لما تتمتع به من حرية نسبية في التنقل عبر الحواجز الأمنية والعسكرية، كما أن الأجر المنخفض الذي يدفع للمرأة العاملة نتيجة غياب مؤسسات التمكين والتأهيل المهني للمرأة المعيلة وايجاد فرص مناسبة لعمل المرأة ودخولها المفاجئ الى سوق العمل جعل منهن مطمع أرباب العمل.

ميدان جديد دخلته المرأة ولا يقبله المجتمع المحافظ حيث أضحت الجغرافية السورية عبارة عن ألاف من الحواجز والكنتونات متعددة الانتماءت التي يصعب على الرجال التنقل فيما بينها،  فما كان من المرأة السورية إلا أن حملت على عاتقها مهمة تسيير شؤون أسرتها في مجال المعاملات الحكومية والأهلية فمن التسجيل في سجلات الإغاثة والجمعيات الخيرية وتسجيل الوفيات والولادات والوقوف لساعات طويلة في طوابير تختلط فيها الرجال مع النساء.

تقول أم أحمد وهي في منتصف عقدها الثالث: أنا إنسانة أميّة مابعرف إقرأ ولا أكتب، مات زوجي عام 2013 بدوما وعندي أطفال صغار (طفلتان 8 و7 سنوات، وطفل 5 أعوام) وعم سجل بالجمعية الخيرية وبيطلبوا مني صاحب العلاقة حصرا وأوراق وثبوتيات كتيرة ما معي منها الا هويتي الشخصية وماني عارفة شو سوي، يعني جيب أبو أحمد من القبر (زوجها) نحنا عايشين من قلة الموت ، الله يفرجها والله تعبنا.

فيما تقول مريم من مدينة حمص: تعلمت الخياطة بعد ضعف حال زوجي الإقتصاديّة والراتب القليل يلي بيحصل عليه من مهنة العتالة (الحمال). راتب زوجي ما بكفينا 4 أيام، والمفروض عليّ حاليّاً كزوجة أساعد زوجي بإدارة أمور العائلة، عندي طفل صغير عمره 3 أشهر، الناس كلّها بتعرف الوضع الصعب اللّي عايشين فيه، وبالتالي، لازم نشتغل لنعيش”.

ويرفض الحاج أبو راتب الكلام وهو من منطقة المعضمية وتحكي ملامحه أنه في السبعين من عمره تقريبا، نحاول أن نسمع شيئا عن قصته التي جعلته متجهما كل الوقت، فيجيبنا بغضب، (لك شو بدي احكي، ماضل شي نشوف حالنا فيه، نحن زلم قاعدين بالبيت والنسوان عم يطلعوا من الصبح لآخر الليل ليجيبوا لقمة الأكل، لك روح من هون الله يرضى عليك لا تفتح جروحاتنا.. صار عمري هالعمر وما حدا بيعرف مين بناتي ومين نسوان ولادي.. اليوم كلو صار مكشوف، صار بدنا نسكت .. بس نسكت .. لاتخلينا نحكي ونتذكر).

تتدخل جارة أبو راتب وتقاطع حديثنا، أطلب منها أن تعرفني باسمها ومن أي مكان فتجيبني (بدك تحط اسمي بالجريدة ؟ الله يوفقك والله بطيرونا بليلة مافيها ضو قمر) فوعدتها بعدم الكشف عن هويتها، فاكتفت بالقول: أنا إسمي عائدة من عربين، أنا من وقت ما كان عمري 15 سنة ما بشيل الخمار عن وجهي، راح زوجي وسافرو الشباب بالبحر وضليت أنا وهالصبية (تُيشرلابنتها) وابن بنتي يلي ببيع خبز، أنا وبنتي شلنا الخمار وعم نحط إشارات بس لحتى لقينا شغل.

وفي محل لبيع إكسسوارات الهواتف المحمولة تقوم فتاة من داريا بتلبية طلبات الزبائن من الساعة التاسعة صباحا وحتى التاسعة مساء، سألتها إن كانت تلبس الزي نفسه سابقا (بنطال جينز وتيشيرت وحجاب) فأجابتني باستغراب (بنطلون ؟؟!! والله كان أبي بيدبحني، من سنة بس صرت البسو).

فقاطعتها مستفسرا : أبوكي مات أو معتقل أو مسافر؟؟

فقالت (لا .. موجود بالبيت، بساعد أمي بتجهيز الخضرة والطبخ لناس بياخدو منهم أجار، وأنا اشترط صاحب الشغل إني غير لبس المانطو . والبس شي بناسب نوع الشغل)

تدرك النساء في سوريا، وخصوصاً منهنّ اللّواتي فقدن أزواجهنّ، أنّ الحاجة إلى العمل باتت ضرورة ملحّة في ظلّ ظروف الحرب القاسية، وأن نظرة المجتمع التقليدية الى فكرة عمل المرأة لن تصل الى درجة القبول أو الرضا خارج نطاق الأسرة المنكوبة مهما كانت الظروف ومهما كانت المبررات.

 وما بين ضغوط العمل وصراع الأدوار الذي تعيشه المرأة السورية وغياب المساندة الاجتماعية نتيجة كسرها للصورة النمطية التي يرسمها المجتمع المحافظ لواقع الأسرة السورية كانت المرأة والطفل السوريين ضحايا تحولات تغير المفاهيم والقيم الاجتماعية في سوريا نتيجة الصراع القائم في البلاد.