أخبار الآن | درعا – سوريا (عبد الحي الأحمد)

لم تكن آلة النظام العسكرية التي طالما دكّت المدن السورية الثائرة، بحمم قذائفها وجحيم براميلها المتفجرة منذ سنوات، بمفردها مسوغا وحيدا لهجرة الشعب السوري عن دياره بقدر؛ ما أسهمت قصص الواصلين الجدد من الفردوس الأوروبي في تحفيز الكثيرين للخروج من رحم الوطن المكتئب إلى بلاد القارة العجوز.

فمع كل إشارة نصر تُرفع من محطة القطارات في مدن أوربا إيذانا بالوصول تنمو الوساوس رويدا رويدا لدى الشباب الثائر في سوريا للحاق بهم، فضبابية المشهد السياسي ورداءة الوضع المعيشي دفعت بالمئات من المقاتلين إلى ترك السلاح وشدّ الرحال إلى بر الأمان الذي يتحدث عنه الجميع.

هجرة من نوع آخر ..

في الوقت الذي يفرّ فيه آلاف السوريين من هذه الحرب المستعرة، قرر البعض الآخر المغامرة والعودة من جديد إلى الوطن، تاركين وراءهم الأمن والسلام ورفاهية العيش التي كانوا ينعمون بها من أجل الوقوف إلى جانب الثوار المرابطين، فكان منهم الطبيب والناشط والمقاتل؛ لكل منهم قصة تداولها السوريون عبر صفحاتهم الشخصية فيما سمي "الهجرة العكسية" التي تنطوي ضمن حكاياها قصص "العائدين من أوروبا" ومنها قصة الشاب السوري "محمد قطيفان".

محمد قطيفان الذي ينحدر من مدينة درعا مهد الثورة السورية كان كغيره من الشباب الثائرين الذين أرادوا لبلادهم أن تتحرر من قيود العبودية والاستبداد الذي نشأوا وترعرعوا في كنفاته، إلى أن إنطلقت الشرارة الأولى من المسجد العمري بدرعا البلد فكان من أوائل المشاركين في المظاهرات السلمية برفقة أخيه الأكبر "أحمد"، إلا أن غطرسة القوات النظامية ومجازرها بحق المتظاهرين السلميين أجبرت محمد كما غيره من الثوار إلى الالتحاق بركب الثورة المسلحة دفاعا عن حريتهم ليترك من خلفه مقعد دراسته الجامعية فارغا؛ فالمستقبل المنتظر سيكون أجمل بعد تحرير سوريا.

خاض "محمد" جميع المعارك التي دارت رحاها في درعا البلد بدءا من معركة "الرماح العوالي" إلى معركة "شهداء الخندق" وصولا إلى معارك حي المنشية التي ارتقى على إثرها أخاه "أحمد" شهيدا في إحدى الاشتباكات مع قوات النظام المتحصنة بأسوار الحي منصف العام الماضي.

ومع مرور الأيام ازداد الوضع المعيشي والأمني في درعا بالتدهور شيئا فشيئا وهو ما دفع "محمد" إلى ترك ساحة القتال والالتفات إلى طريق الحلم الأوروبي الذي زُيّن له كملجأ من الواقع السوري المرير، سالكا لأجله بحر الموت المتوسط وغابات البلقان وصولا للحلم المنشود "ألمانيا" علّه يمسح من ذاكرته تلك السنين السوداء التي مر بها.

العودة للوطن من جديد

لم تمض سوى أشهر قليلة حتى حصل "محمد" على بطاقة الإقامة الدائمة لتفتح أمامه أبواب المستقبل من جديد: "الآن أستطيع إكمال دراستي، الآن أستطيع لمّ الشمل لعروسي المنتظرة في الأردن" ذلك ما تصوّره الجميع.

إلا أن كل ذلك لم يحدث، فمحمد فاجأ كل من حوله بقرار عودته للقتال مع رفاق السلاح على جبهات مدينة درعا تاركا ورائه رغد العيش والمستقبل المؤجل دائما، فالواجب الأخلاقي أمام دماء أخيه الشهيد وصور المجازر اليومية كان كفيلا باتخاذ ذلك القرار الذي لم يثنه عنه "نعيم الهجرة".

فبعد حصوله على جواز السفر المؤقت بأيام سارع بالعودة إلى الأردن واصطحب منها عروسه إلى درعا قبل شهرين من الآن، كانا الأخيرين في حياته قبل تداول الناس خبر استشهاده بالقصف الذي تعرضت له أحياء درعا البلد مساء الإثنين معلنة بذلك انتهاء قصة  "ثائر" دافع عن ثورته ورفض العيش خارج أسوار وطنه.