أخبار الآن | دمشق – سوريا (نور حمزة)

يخرج "أنس" طالب الماجستير في كلية الآداب كل يوم إلى وسط العاصمة دمشق قادما من منطقة "نهر عيشة" في حي الميدان، ليجد مكانا هادئا يستطيع فيه القراءة والكتابة علّه ينال الشهادة ويفكر بالهجرة.

حال أنس كحال غيره من الشباب والشابات في المدينة ممن يهربون من الظروف الحياتية الضاغطة عليهم ليجدوا بعض الهدوء بعيدا عن ازدحام السكن أو تفاصيل الشكوى اليومية من ضيق الحال ماديا ومعنويا.

استقر حال الطلاب، في الغالب، على اكتشاف مكان ينعم بالهدوء وأسعاره رخيصة جدا بما يقاس بأي مقهى عادي آخر. لم يكن هذا المكان إلا كافيتيريا "المتحف الوطني" الذي يقابل فندق الفور سيزنز الشهير و"جسر الرئيس".

ملاذ آمن ورخيص

"أنس" يرى أن المكان قريب لمواعدة الأصدقاء أو الذهاب إلى الجامعة: "الجلوس هنا يبعدني عن أزمات أسرتي النازحة، كما أنني أستطيع القراءة والكتابة في أطروحتي. نجتمع هنا لنهرب من ضغوط الحياة اليومية التي لا تدعنا نفكر بمستقبلنا".

"رنا" هي الأخرى طالبة في مرحلة الماجستير، تسكن في المدينة الجامعية على أوتستراد المزة، تقول: "لا يحتمل الوضع هناك، أشعر أنني في قطعة عسكرية وهناك من يتربص بي دائما لكتابة تقارير أمنية. آتي هنا مع زملاء كثر من الطلاب".

لم يقتصر الأمر على الطلاب، فغلاء أسعار المشروبات اليومية من شاي وقهوة ارتفعت كثيرا لاسيما إذا جلس الشباب مدة طويلة واضطروا لطلب المشروبات أكثر من مرة، إضافة إلى الخوف المتزايد من تغلغل الشبيحة والمخبرين.

"ناصر" موظف في مديرية الثقافة بدمشق يقول: "ي أي وقت أنت معرض للاعتقال، لا يوجد أسباب وجيهى تجعلك تطمئن نفسك، أعرف الكثير من الشباب تم اعتقالهم دون سبب ولم تأت أخبار منهم حتى الآن".

ويتابع: "كنت أجلس في مقهى الروضة بشكل دائم لكنني آثرت تغييره، كل المقاهي الأخرى أسعارها غالية مثل رويال أو مقهى الكمال وهي في ضجيج دائم، أما مقاهي منطقة "ساروجة" فيتغلغل الأمن فيها كالجراد وباتت مرتعا للشبيحة والموالين بعد هجرة الشباب الناشطين خارج البلاد. الآن سوف أغير المكان أيضا بعد الوجوه التي أراها".

الشبيحة .. وراك وراك

في ظل نظام الأسد لا يسمح بوجود تجمع مريح لجيل الشباب بعيدا عن الحذاء العسكري. فبعد أن كانت حديقة ومقهى المتحف الوطني حكرا على غالبية الطلاب في المراحل التعليمية المتقدمة، تم غزوها من قبل الشبيحة ورفيقاتهم. وما الوجوه التي تحدث عنها "ناصر" إلا تلك العناصر بلحاهم ورؤوسهم الحليقة وأسلحتهم.

ليس الأمر عبثيا أو بريئا، إذ لا يزال النظام يعتقد بملاحقة الشباب في أماكن تجمعهم ولو كان الحديث بينهم هو في شؤون الدراسة فقط.

"محمد" خريج في المعهد العربي للموسيقا، آلة العود، يقول: "أين يمكن أن أعزف دون أن أجد شبيحا يطلب مني أغنية "وطنبة" أو "فولكلورية"! اعتقدت أن هذا المكان هو خارج قذارة ما يفعله النظام، لكن لا جدوى، الهجرة هي الحل".

وللحقيقة، لم يكن التشبيح وملاحقة الشباب والمثقفين جديدا، ففي تسعينيات القرن الماضي تم إغلاق "نادي العمال" الذي كان مكان تجمع المثقفين والأدباء والشعراء بحجة نهاية عقده وتحوّل إلى مطبخ تابع لفندق قريب، ثم تحول "كافيه القنديل" الشهير الذي كان يقصده أشهر كبار المثقفين وسط دمشق، إلى ملهى ليلي بعد أن تم استثماره بالقسر من صاحبه. وقبل ذلك أغلق مقهى "الرواق" الذي كان يجمع الممثلين والنقاد فيه يوميا في منطقة العفيف، وتحول أيضا إلى فرن للمعجنات، وغير ذلك الكثير.

اليوم، تستطيع الذهاب إلى حديقة المتحف البسيطة، بمقاعدها من جذوع الشجر، لتجد عسكريا هنا وشبيحا هناك؛ لا شباب ولا طلاب، ولا رحلات تعرّف الأطفال بتاريخهم الذي يغتاله النظام ويغتصبه كل لحظة.

الجدير بالذكر أن المتحف الوطني أنشأ عام 1936 وتم توسيعه في أعوام 1956 و1975، قبل أن نراه اليوم ونحن ننهي عام 2015 وقد فرغ تقريبا من القطع الأثرية ويعاني الإهمال ثم السيطرة عليه من قبل رعاع الشبيحة.