جنان موسى وهارالد دورنبس

منذ نشأتها، علمنا عن “الدولة الإسلامية” من أعدائها. سمعنا عن قصتها بشكل كبير من قِبَل هؤلاء الذين يقاتلون التنظيم في العراق وسوريا، ومن المدنيين المصابين بصدمات نفسية الذين فرّوا من حكمها الوحشي، ومن المنشقين عن التنظيم في بعض الأحيان. هذا الأمر على وشك التغيير. هذه هي قصة أبو أحمد، وهو عنصر سوري في "الدولة الإسلامية" الذي شهد توسع التنظيم الهائل بأم عينيه وأمضى أشهراً إلى جانب أعتى المقاتلين الأجانب.
 
في هذه السلسلة من المقالات الثلاث، أبو أحمد يقدم رؤية فريدة عن كيف أن سياسة أبو بكر البغدادي الماكرة مهدت الطريق لتوسع تنظيم “الدولة” في سوريا، وعن جهود القاعدة للحد من صعود التنظيم، وعن الأسلحة المرعبة في ترسانة ما يسمى "الخلافة". بعض الأسماء والتفاصيل تم حذفها لحماية أبو أحمد. إقرأ الجزء الأول والثاني من هنا.
 

نحن في شهر مايو/أيار عام 2013، عندما كان تنظيم “الدولة الإسلامية في العراق والشام” المُنشَأ حديثاً مصمماً على تدعيم مكانته باعتباره القوة الجهادية الأكثر رعباً في العالم. ولكن قبل أن يتمكن من فعل ذلك كان يتعيّن عليه التعامل مع تحدٍّ جديد مع كبار شخصيات تنظيم القاعدة.

لم تكن القيادة العليا لتنظيم القاعدة لِتقبل بإدعاء أبو بكر البغدادي بحقه في السلطة – خاصةً في ضوء كذبته الوقحة بأنه كان ينفذ تعليمات زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. بعد شهر من ذلك الإجتماع التاريخي بين زعيم داعش وبعض القادة الجهاديين الآخرين في كفر حمرة، قامت مجموعة صغيرة من الرجال، بينهم عدد قليل من الحراس المسلحين بالسفر سراً في مركبتين ضمن الأراضي السورية. خوفاً من أن يتمّ إكتشاف أمرهم من قبل الجهاز الامني التابع للبغدادي أو أن يتمّ إستهدافهم من قِبَل النظام السوري، تحركوا بحذر وهدوء.
 
كانت هذه المجموعة تُسمّى "لجنة خراسان". خرج أعضاؤها من مخابئهم السرية في أفغانستان وباكستان وقَدِموا إلى سوريا نيابةً عن الظواهري الذي بقي مختبئاً هناك.
 
أحد أعضاء لجنة خراسان، وهو سوري يُكنّى بأبو أسامة الشهابي، أخبر أصحابه في اللجنة بأن يتوخوا الحذر الشديد خلال ترحالهم. وفقاً لأبو أحمد، قال لهم الشهابي: "لدي معلومات بأن البغدادي كان يخطط لإغتيال أبو ماريا القحطاني، أمير في جبهة النصرة، لذلك علينا أيضاً أن نكون حذرين."
 
كانت مهمة لجنة خراسان تهدف إلى التحقيق في توسّع البغدادي نحو سوريا. وكان عليها تسليم نتائج التحقيق إلى الظواهري، الذي بدوره سيقرّر ردة فعل القاعدة تجاه الوضع في العراق وسوريا، حيث التنافس بين داعش والقاعدة (ممثلة بجبهة النصرة) أصبح خارج نطاق السيطرة بشكل واضح.
 
كُشِف النقاب عن لجنة خراسان في سبتمبر/أيلول ٢٠١٤ عندما قام التحالف الدولي بقيادة الولايات المتحدة بإستهداف أعضائها في ضرباته الأولى في سوريا. بحلول ذلك الوقت، كان قدامى محاربي القاعدة الذين شكَّلوا تلك الجماعة قد إنتقلوا من التحقيق في مناورات البغدادي إلى التخطيط للقيام بهجمات في الخارج. "فيما يتعلق بتهديد أمننا القومي، فإن لجنة خراسان ربما تشكل خطراً لا يقلّ أهمية عن الخطر الذي تشكّله الدولة الإسلامية"، هذا ما صرّح به جيمس كلابر مدير الإستخبارات الوطنية الأميركية.
 
ولكن بالعودة إلى صيف 2013، لم تكن لجنة خراسان توجّه إهتمامها نحو الولايات المتحدة، بل إلى منافسها على الساحة الجهادية. بالنسبة إليهم، دقّ ناقوس الخطر: في كل يوم على ما يبدو، تنشق جماعة جهادية عن القاعدة لتعلن ولاءها لداعش. وإذا لم يستطِع الظواهري إستعادة ولاء بعض الجماعات في سوريا، أو على الأقل كبح هذا التمرد في مهده، فإن زعيم تنظيم القاعدة سوف يخاطر بأن يصبح جنرالاً بلا جنود.
 
زار ستة أعضاء من لجنة خراسان مقرّ داعش، الذي كان سابقا مقرا لمجلس شورى المجاهدين، في كفر حمرة. محدِّثُنا أبو أحمد إلتقى أربعة منهم شخصياً: أبو أسامة الشهابي؛ والكويتي محسن الفضلي (ولد في الكويت وقُتِل في غارة جوية أميركية في 8 يوليو/تموز 2015 في بلدة سرمدا السورية)؛ وسنافي النصر، سعودي معروف أيضاً بلقب أبو ياسر الجزراوي (قُتِل بإستهدافه بطائرة أميركية بدون طيار في بلدة "الدانا" الواقعة شمال سوريا في 15 أكتوبر/تشرين الأول 2015)؛ وأبو عبد الملك، سعودي آخر (قُتِل في نفس الضربة الجوية على بلدة الدانا في أكتوبر/تشرين الأول).
 
قال لنا أبو أحمد بأن أعضاء لجنة خراسان كانوا كلهم ودودين وكان لديهم علمٌ واسع بالقرآن الكريم. جميعهم كانوا قد قضوا سنواتٍ بصحبة بن لادن والظواهري في "خراسان"، تسمية إسلامية تاريخية  قديمة لمنطقة جغرافية تمتد بين إيران وأفغانستان وآسيا الوسطى.
 
لم يقضِ أبو أحمد وقتاً طويلاً برفقة الفضلي. تحدَّثا لفترة وجيزة خلال لقاءٍ في بلدة سرمدا السورية؛ في ذلك الوقت، لم يكن أبو أحمد يعلم بأنه كان يتحدث إلى شخصية بارزة في تنظيم القاعدة. ولكن بعد سنتين من لقائهما، وبعد أن قُتِل الفضلي بغارةٍ جوية، شاهد أبو أحمد صورةَ الأخير على الإنترنت، وأدرك حينها أنّ هذا هو الرجل الذي إلتقاه سابقاً. كانت الصورة جزءاً من مقالة لوكالة رويترز إقتبست كلاماً للمتحدث بإسم البنتاغون واصفاً الفضلي بأنه "أحد القلائل من قادة تنظيم القاعدة الموثوقين الذين تم إبلاغهم مسبقاً بهجمات 11 أيلول/سبتمبر 2001". حتى أنه في سنة 2012، كانت وزارة الخارجية الأميركية قد رصدت مكافأةً مقدارها سبعة ملايين دولار لمن يدلي بمعلومات تُفضي إلى العثور عليه.
 
كان أبو أحمد يعرف العضوَيْن السعوديين في لجنة خراسان أكثر. سافر مرةً معهما براً، وكان يعرف بأن أبو عبد الملك قد إستأجر منزلاً في بلدة الباب شمال سوريا. في الوقت عينه، كان الجزراوي رئيساً للمكتب السياسي لجبهة النصرة، وكان يقيم في ريف اللاذقية شمال غربي سوريا.
 
شعر أبو أحمد بالحزن عندما سمع نبأ مقتلهما بغارة جوية أميركية. "لقد بَدَيا وتصرَّفا مثل الاشخاص العاديين جدا"،  يقول لنا أبو أحمد. "على الرغم من أنّهما كانا قائدَيْن، لكنهما لم يتصرَّفا بطريقة متغطرسة".
 
من بين جميع أعضاء لجنة خراسان، كان أبو أحمد الأقرب إلى "الشهابي"؛ وهو سوري في عقده الرابع من مدينة الباب. كان الشهابي على إتصال مباشِر مع زعيم تنظيم القاعدة أيمن الظواهري. إحتاج الشهابي إلى شهر ونصف لكي يتمكن من الوصول متخفياً من أفغانستان إلى سوريا. سافرت معه زوجته الحامل مما جعل رحلته أكثر صعوبة. قال لأبو أحمد: "لقد قضيت عشرين عاماً في الجهاد، لذلك فإن المشقّة شيءٌ لا يُذكَر بالنسبة لي".
 
كان هدف لجنة خراسان سياسياً في الأساس. فقد وضعوا نُصْبَ أعينهم مهمة إقناع القادة الجهاديين الذين بايعوا البغدادي خلال إجتماع الخمسة أيام في كفر حمرة بالتراجع عن قرارهم. 
 
لقد أخبروا الجميع بأن مزاعم البغدادي لا أساس لها من الصحة وبأن الظواهري لم يرسل البغدادي أبداً من العراق إلى سوريا. لم يقل الظواهري مطلقاً بأن في إمكان القادة الآخرين أن يبايعوا التنظيم أو البغدادي نفسه.

لكن كان في إنتظار لجنة خراسان مهمة صعبة. فقد تمكَّن الشهابي من إقناع قائد بارز كان قد إنضم إلى داعش مؤخراً بأن يجتمعا في بلدة قريبة من الحدود التركية.
 
أخبره الشهابي، "من الواضح جداً أن البغدادي أسّس تنظيم الدولة الإسلامية في العراق والشام فقط لأنه شَعَر بأن شوكة النصرة تزداد قوة. لقد عرف بأن الجولاني، زعيم النصرة، كان في طريقه ليصبح قائداً كبيراً."
 
أجابه ذلك القائد، "كنا نظن بأن البغدادي يعمل بأوامر من الظواهري؛ إنّ ما تخبرني به أصابني بالصدمة". إقترح عليه الشهابي بأن ينقض بيعته "للدولة الإسلامية في العراق والشام" مباشرةً، ولكن القائد لم يكن مستعداً للقيام بذلك. "لقد بايعته (يقصد البغدادي)"، قال القائد. "أعطِني بعض الوقت للتفكير ومناقشة هذا الأمر مع الآخرين. فأنا لا أستطيع أن أتراجع عن بيعتي له هكذا وبشكل مفاجئ".
 
وفقاً لسرد أبو أحمد للمحادثة، ردّ الشهابي: "على أي حال، لقد أرسلنا معظم الرسائل والخطابات (المتعلقة بالتحقيق) إلى الظواهري؛ سوف يحكم (الظواهري) لصالح النصرة، وليس لصالح الدولة الإسلامية في العراق والشام".
 
الطلاق الأعظم في العالم الجهادي

 

الحرب الأهلية تبدأ
 
حتى تلك اللحظة في مايو/أيار 2013، كان التنافس بين داعش والنصرة لا يزال سلمياً. كان المقاتلون من الجماعات المتنافسة يستطيعون التنقل داخل المناطق المسيطَر عليها من الجماعة الأخرى، وكان لا يزال في إمكانهم زيارة مقرات الطرف الآخر. كانت التنظيمات الجهادية لا تزال تحاول حلَّ خلافاتها سلمياً – لذلك كان أبو أحمد، والذي إنضمّ إلى داعش، قادراً على الإجتماع والتحدّث مع أعضاء من لجنة خراسان.
 
ولكن عندما رجحت كفة ميزان القوى لصالح داعش، حلَّت "الريبة" وقلّة الثقة مكان الصداقة والمودّة بين أنصار الجماعتين. لقد شعر أعضاء النصرة "بالإشمئزاز" لإدراكهم أن تنظيم داعش يتحرك بإتجاه تقسيم وإضعاف الحركة الجهادية في سوريا بينما إتّهم أعضاءُ داعش جبهةَ النصرة بالليونة والسير مع التيار. ووصل الشقاق بين الطرفين لدرجة أنّ الكثير من أعضاء داعش قاموا بتكفير أصحابهم السابقين في النصرة وما عادوا يعتبرونهم مسلمين.
 
وعندما بدأت خطوط المعركة تتصلب، أنهى أعضاء لجنة خراسان تحقيقهم الميداني بخصوص مخططات البغدادي. وقد حكم الظواهري، بناءً على تحقيقهم الذي إستلمه، لصالح جبهة النصرة ضد داعش. لقد دعا النصرة لقيادة الجهاد في سوريا، وأوضح بأن على تنظيم البغدادي العودة إلى العراق.
 
"أخطأ الشيخ ابو بكر البغدادي اعلانه دولة العراق والشام الاسلامية دون ان يستأمرنا او يستشيرنا بل ودون اخطارنا" هذا ما قاله الظواهري في رسالةٍ نُشِرَت في 23 مايو/أيار 2013.
 
هذا الحُكْم أوضحَ بما لا يدع مجالاً للشك أنّ البغدادي لم يكن رجل الظواهري، وأنّ خطط التمدد والتوسّع كانت للبغدادي وحده. بعد إعلان الظواهري، شعر بعض الجهاديين بأنّهم خُدِعوا فعكسوا مسارهم وانضموا مجددا للنصرة. وفقاً لأبو أحمد، حوالى 30 بالمئة من أعضاء النصرة الذين كانوا قد إنضمّوا إلى داعش، عادوا إلى النصرة بعد حُكْم الظواهري. في المقابل، أعلنت بعض الفصائل وقوفها على "الحياد" في هذا النزاع المتنامي. فمجموعات مثل أحرار الشام وجند الأقصى كانوا يأملون بأن يبقوا بمنأى عن ذلك الصراع على السلطة. لقد كانوا يقاتلون بهدف إزاحة الأسد عن السلطة، لا ليتقاتلوا مع إخوانهم الجهاديين.
 
من أصل ما يقرب من تسعين مجاهداً هولندياً وبلجيكياً من أعضاء مجلس شورى المجاهدين – من رفاق أبو أحمد المقاتلين – والذين سبق لهم وأن إنضموا إلى داعش، حوالى خمسة وثلاثون منهم عادوا إلى جبهة النصرة؛ أما الباقون منهم، حافظوا على ولائهم لداعش. لقد وصل إلى مسامع أبو أحمد أيضاً بأن القائد ذا المنصب الرفيع في داعش والذي كان الشهابي (عضو لجنة خراسان) قد حاول إقناعه بالإنشقاق عن داعش، في اللقاء الذي جمعهما بالقرب من الحدود التركية، فإنَّ ذلك القائد تخلى ايضا عن داعش وعاد إلى حضن النصرة.
 

أوامر تكميم الأفواه

أبو الأثير، أمير مجلس شورى المجاهدين الذي إنضم إلى داعش، كان شديد الولاء للتنظيم. كان يبجّل أبا بكر البغدادي لكنه كان قلقاً من إحتمال خسارة مزيد من الهولنديين والبلجيكيين لصالح النصرة. "من الآن فصاعداً لا يُسمَح لكم بالتحدث إلى أعضاء النصرة عبر الإنترنت"، أمرهم أبو الأثير. "عليكم قطع كل أشكال التواصل معهم".
 
ابو الاثير بعث برسالة ايضا إلى مقاتلي النصرة من البلجيكيين والهولنديين إلى مقرهم الرئيسي في بلدة أورم الصغرى في محافظة حلب. "إياكم أن تجرؤوا على الإتصال برجالي،" قال أبو الأثير مهدِّداً الهولنديين والبلجيكيين الذين كانوا يقيمون مع أبو سليمان الأسترالي، أحد منظِّري القاعدة.
 
هدَّد أبو الأثير أيضاً بمصادرة جوازات سفر مقاتلي داعش وذلك لمنعهم من المغادرة. لكن هذا التهديد قوبل بغضبٍ من المقاتلين الأجانب الذين إتهموا أميرهم بأنه لا يثق بهم. رضخ ابو الأثير في نهاية المطاف وسمح لرجاله بالإحتفاظ بجوازات سفرهم.

لكن أصدقاء الأمس أصبحوا اليوم أعداء. حاول كلُّ طرف إقناعَ الآخر بالإنشقاق. وقد لاحظ أبو أحمد زيادة مفاجئة في أنشطة شرطة داعش السرية، والتي تعرف بإسم "الأمنيين". وقد سرت إشاعة في مناطق داعش مفادها بأن أي شخص يحاول الإنشقاق أو المغادرة سوف يتم إطلاق النار عليه في مكانه مباشرة.
 
أحد معارف أبو أحمد ضمن صفوف داعش أشار بوضوح إلى أنه لم يكن سعيداً بذلك التناحر بين الجماعات الجهادية المختلفة. لقد إنتقد أبا الأثير والبغدادي بسبب مواقفهما التي لا هوادة فيها، حتى أنه حرّف كلماتٍ في نشيد داعش الشهير — النشيد هو نوع من الغناء لا ينتهك أحكام الجهاديين التي تُحرِّم إستخدام الآلات الموسيقية — عندما حوَّل كلمات النشيد من "أمراؤنا بعيدون عن الشبهات" إلى "أمراؤنا بعيدون عن الجبهات."
 
في الليلة نفسها التي غنّى فيها هذا المقاتل ذلك النشيد، إقتادته الشرطة السرية لداعش إلى السجن. أُودِعَ في الحجز لبضعة ايام ولكن لم يتم تعذيبه. عوضاً عن تعذيبه، طلب منه أن يعذِّب الآخرين.
 
إنَّ نجاح إنقلاب البغدادي في أبريل/نيسان 2013، وضع جبهة النصرة على حافة الإنهيار تقريباً. لكن النصرة عادت لتكسب بعض القوة. لقد بدأوا بإعادة تنظيم أنفسهم وأقاموا تحالفات مع الجماعات الجهادية السلفية مثل أحرار الشام، وحتى مع بعض وحدات الجيش السوري الحر.
 
عندما وصل التوتر بين المعسكريْن إلى ذروته، بدأت جبهة النصرة وأحرار الشام والجيش السوري الحر بطرد داعش من إدلب ومن بعض أجزاء محافظة حلب. ففي بلدة دارة عزة، حيث إستحوذت النصرة على براميل من الكلور ومن غاز السارين من الفوج 111 التابع لقوات النظام السوري، قامت جبهة النصرة وحلفاؤها بإستعادة البلدة. إضطرَّ داعش حينها للإنسحاب من  دارة عزة إلى بلدة الدانا بالقرب من الحدود التركية. لكن بعد معركة أخرى، خسر داعش أيضاً تلك البلدة، ثم تراجع من الدانا بإتجاه بلدة الأتارب. هنا أيضاً تكرَّر السيناريو ذاته: تمّت هزيمة داعش مجدداً من قبل النصرة.
 
في نهاية المطاف، قرّر تنظيم داعش التخلي عن كامل منطقة شمال غرب سوريا. ففي الرابع من شهر مارس/آذار 2014، إنسحب داعش من بلدة أعزاز الإستراتيجية على الحدود التركية. قام تنظيم داعش بتجميع معظم قواته بالقرب من "كفر جوم"، غير بعيد عن المقر الرئيسي السابق لمجلس شورى المجاهدين، المكان الذي جرى فيه ذلك الإجتماع الذي دام خمسة أيام بين البغدادي والعديد من القادة الجهاديين.
 
لا زالت التصدعات التي برزت خلال تلك الفترة ترسم ملامح ساحة الصراع في شمال سوريا. مرت سنتان، أَسقَطت خلالهما "الدولة الإسلامية" عبارة "في العراق والشام" من تسميتها، ولكنها ظلت بمنأى عن جبهة النصرة، فكل تنظيم منهما له أهدافه الخاصة ومعاركه المستقلة. "فالدولة الإسلامية" تبسط سلطتها في مناطق "الخلافة" في شمال سوريا وشرقها، وقد قامت بقتل أو طرد فصائل المعارضة المعتدلة من أراضيها. في الوقت نفسه، عززت جبهة النصرة نفوذها في شمال غرب سوريا لتصبح اللاعب المسيطر في محافظة إدلب. لم تعد مناطق الجماعتين الجهاديتين متداخلة، فبالكاد تتشاركان حدوداً فيما بينهما. خط الإشتباك الوحيد بين الطرفين يقع في ريف حلب الشمالي. حلفاء الأمس يعيشون اليوم في عالميْن منفصليْن.
 
 في 20 يناير/ كانون الثاني 2014، أصبح الإنقسام بين الجماعتين الجهاديتين الأكثر قوة في سوريا نهائياً. ففي كفر جوم، أعدَّ تنظيم داعش قافلة من مئتي عربة. كانت السيارات والشاحنات ممتلئة بالمقاتلين وأفراد عائلاتهم وبالأسلحة والرهائن الأجانب. في ذلك الموكب، شاهد أبو أحمد ثلاثاً من الحاويات الخمسة عشرة الممتلئة بالمواد الكيميائية التي سبق وأن إستولت عليها جبهة النصرة من الفوج 111.
 
لاحقاً، علا هدير قافلة داعش الفولاذية الضخمة الممتلئة بالناس وهي تنطلق شرقاً بإتجاه مدينة الرقة.

 

(ملاحظة: هذا المقال نشر ايضا في موقع فورين بوليسي الامريكي باللغة الانكليزية)

وللحديث عن هذه المقالات الحصرية وتفاصيل حصول داعش على الأسلحة الكيميائية والجزء الاخير عن جهود القاعدة الفاشلة للحد من صعود داعش، نستضيف مراسلتنا جنان موسى، ويمكنك مشاهدة اللقاء عبر الرابط.