شهادة زميل نيرة: نريد حق نيرة ولكننا خائفون مهددون

كانت تحب البحر، إليه تبعث بنظراتها الحالمة وتعطي ظهرها للحياة تتأمل في العالم خلفه، تجيد الاعتذار وترتيب الحروف الرقيقة، هكذا بدت من كلماتها التي ألقتها مرغمة على جروب الدفعة قبل اختيارها الرحيل بنصف ساعة، لم تستطع نيرة أن تواجه إثنين من الأوغاد الصغار، مازالا في بداية طريقهما في رحلتهما من الابتزاز والتهديد والاستقواء على من يظنونه ضعيفا.

جميلة “نيرة” بعينين بريئتين تتنقلان في وجهتيهما ما بين زرقة البحر والسماء وخضار الزرع الطازج في حقول المنصورة والمنوفية” بلدينا  الجارتين يا صغيرتي”.

أعرف كم خفتي، أتخيل مشاعرك الرقيقة، وهي تهدر على مذبح الاستقواء، وأنا أقرأ رسائل التهديد والابتزاز التي رفعها زملاؤك، محاولين أخذ حقك الضائع، يتبارى كل من شروق وطه في تهديدك واستباحة أعصابك بما لديهم من صور أو فيديوهات، وكانت تهديداتهما لك على مرأى ومسمع من طلبة دفعتك كاملة، يدخل البعض في البداية ويسخر ويتخذ تهديدك مادة للإضحاك ثم يدرك البعض المأساة بعد فترة فيحاولون تهدئة طه وشروق ولكنهما لا يهدآن، أبدا لا يهدآن، لا يعلم أحد السبب في تلك الغضبة الشديدة منهما، ربما لأنك كما يردد زملاؤك وقفت أمام أحد زملائك وحاولتي طرده من سكن الفتيات الذي تواجد فيه بلا سبب ودون أحقية؟! أم لأنك وقفت أمام مجموعة من أبناء “الناس الواصلين” وجادلتيهم كلمة بكلمة؟!

أراك في غرفتك بسكن المغتربات، وحيدة باكية تضرعين لله، صغيرة مشوشة لا تعرفين بمن تستنجدين وهم يهددونك بشراسة وشر يفوق أعمارهم، تعتذرين أنك وقفت أمام زميلاتك وحدثت مشادة بينكم، ورغم الاعتذار لاتزال نبرة التعالي والتهديد مستمرة! فتتخذ روحك القرار بالهروب من ذلك الكابوس الذي لم تستطع تحمله وحيدة.

سؤال منطقي بلا إجابة

سؤال يطرق أبواب عقول أبناء المدينة: لماذا لم تتوجه نيرة إلى أبويها وتستعين بهما على هذا الكابوس؟!

سؤال منطقي ليس له إجابة في معظم بيوتنا الدافئة البسيطة في مدن وقرى أرياف مصر، فأنا من هناك، سبقت نيرة في حالة اللافهم لمنطق كونك فتاة ريفية خجولة ورقيقة، عليكي أن تكوني بلا نقاط ضعف حتى ولو كانت زائفة صنعها أحدهم ليقتلك بحبلها، أنا من هناك، من حيث يجب أن تكون الفتاة قوية وبلا أخطاء، بل بلا حديث يذكر عن أخطاء لها، البسطاء المستورين من الطبقة الوسطى، أمثال أهالينا لا يعلمون فتياتهم أن العالم مباح نصنع به ما نشاء وفي نفس الوقت لا يعلموننا كيف نقي أنفسنا ممن يربيهم أهلهم بمنطق”أن كل شئ مباح وأنك مسنود وعليك أن تعلم الجميع ..ابن من أنت.”

لا يتعقبنا أهلنا لأجل أن يمحووا خلفنا الخطايا، بل يخبرونا أننا يجب أن نكون بلا خطايا أو أخطاء من الأساس، بينما يربي البعض أبناءه وبناته بمنطق” افعل ما يحلو لك وأنا سأمحو خلفك”، فقط  كنا نريد أن يعلم الأهالي فتياتهم كيف يحتمين من هؤلاء الأوغاد أولاد “الناس الواصلين”.

أدرك يا نيرة أن مجتمعنا في ريف بحري يدلل الفتاة ويهدهدها ولكنه لا يستطيع التعامل مع كونها يمكن أن تصبح مادة للفضيحة، لم يعلمنا أهالينا كيف نثق بهم ونخبرهم بالعالم الأسود، المظلم بالخارج، يتباهى الأهل في أرياف مصر بالبنت المتفوقة الجميلة المهذبة الخجولة وكل ذلك عبء، عبء عليها ألا تفصح يوما عن ضعفها، ألا تذهب لأمها وأبيها وتخبرهما أن مجموعة من القتلة المبتدئين يريدون سلب روحها.

لم يعلمنا آباؤنا أن الضعف داخلنا والخوف ليس عيبًا وأن علينا اللجوء إليهم، بل وأن نطلب منهم أن يبطشوا بهذا العالم الذي لا نستطيع مواجهته وحيدين بلا سند في غرفة مظلمة باردة الجدران.

تبدأ القصة برسالة من أكاونت وهمي على إحدى منصات التواصل الاجتماعي تتحدث عن الخوف والتهديد الذي يعيشه طلبة وطالبات كلية الطب البيطري بالعريش يروي كيف تعرضت زميلتهم نيرة للتهديد والابتزاز من بعض زملائها.

ضجت السوشيال ميديا منذ صباح اليوم الخميس بالقصة، وبدأت صور المحادثات والتهديدات والاعتذارات تملأ فضاء صباحنا غير المرحب به، كان صباحا يحمل مزيجا من المشاعر السيئة التي أطاحت بروح بالفتاة المسكينة، مزيج من تنمر وشر زميليها مرتكبي جريمة الابتزاز مع خوف وضعف ممزوجين بغضب الصامتين مجبرين من باقي زملائهما في الدفعة.

مثلك.. لم يعلمني أبي كيف أواجه الأوغاد يا نيرة 

رسالة اعتذار كتبتها نيرة على جروب الدفعة قبل وفاتها بنصف ساعة

كانت إحدى الصور التي نشرت لاعتذار نيرة لزميلتها شروق عن مشادة حدثت بينهما ومعها طالبتين أخرتين، وكانت هذه الرسالة قبل تناولها للحبة القاتلة بنصف ساعة، كما أخبرني أحد زملاء نيرة وهو أحد طلبة دفعتها بكلية الطب البيطري جامعة العريش والذي تواصل معي ليرضي ضميره الذي ينغص حياته مع مجموعة أخرى من زملائه المجبرين جميعا على التزام الصمت.

يقول الشاهد الذي اخترنا أن نضع كلماته كما هي بلهجته العامية دون تجميل حتى تصل مشاعره للقراء كما عبر عنها دون تحريف “كنا في ليلة عادية خالص لقيت طه بيتكلم هو وشروق دي بيتكلموا بطريقة بشعة فا احنا كنا فعلا بنحسب هزار لحد ما في بعض الناس بدأت تتكلم علشان تشوشر على الموضوع علشان عرفوا أنه حقيقة في حاجة ويهدو في طه وشروق بس الاتنين ماهديوش أبدا،  لحد ما بعدها في الكلية نيرة كانت موجودة عادي معانا ليلة اليوم ده سمعنا أنها في العناية، دا اللي حصل قدامي”.

ثم يكمل زميل نيرة قائلا “القصة التي عرفناها جميعا بعد ذلك، أن زميلا كان موجودا في سكن البنات  فقامت نيرة بطرده فهددوها بال.. وبعدها حصلت شروق وطه على صورها وهددوها وحصل اللي حصل والفكرة ان الاتنين مش شايلين ذنبها بالعكس شايفين نفسهم صح وعادي”.

تهديد ثم صمت وغضب

ثم يكمل الشاهد الصامت مع زملائه  عنوة رغما عنهم “نحن كدفعة معرفناش نسكت وتاني يوم بعد الواقعة دي روحنا للكلية وحرفيا كان كل حاجة بتتقفل بسبب إن محدش بيتحرك من الكلية وفي الاول وفي الاخر احنا طلبة ملناش حاجة غير ان احنا نكلم الكلية وحاولنا كتير بجد يومها لحد ما محصلش اي حاجة من الكلية”.

تضمنت الصور المسربة رسالة لمسؤول بالجامعة يطلب من الطلبة إلتزام الصمت وعدم ذكر أي شئ عن الحادث على وسائل التواصل الاجتماعي، لذا ينتشر الرعب بين الطلبة المعترضين على ما حدث لزميلتهم والذين يشعرون بالحزن والغضب من أجل نيرة ويشعرون بالحيرة بين خوفهم وبين ضمائرهم التي تئن بالحقيقة التي يحملونها من تعرض نيرة للتهديد والابتزاز مما دفعها إلى التفكير في الانتحار.

ثم يضيف الطالب الشاهد “أنا لو اتعرفت هويتي ازداد شرف لنفسي، بس أنا خايف علشان كليتي، خايف يحصلي حاجة، لكن أنا بقول كلمة حق يشهد عليا ربنا فيها، اللي عمله طه وشروق قسوة قلب، حتى شروق لما جت للوكيل بعديها للكلية قالت للكلية كلها حلال فيكم القتل فا ربنا يتولاهم بجد، احنا كطلاب عايزين حق نيرة ويا ريت بما أن حضرتك صحفية كبيرة أتمنى بجد الموضوع ميتسكتش عليه احنا كطلاب خايفين”.

أشعر بالحزن الشديد من ذلك المجتمع الذي يحرمنا حق التعامل والكلام عما يفعله بنا الأوغاد، أولئك الذين ينتزعون براءتنا ومستقبلنا وأحيانا أرواحنا، أشعر بالأسى على هذا الجيل الذي لم يفكر أحد ما في بنائه، إنه جيل سئ الحظ، لم يخرج إلى الدنيا ويجد مؤسسات تثقيفية وجمعيات مجتمع مدني تعنى بالتثقيف وبناء الشخصية، لم يجد فنًا يعبر عنه بصدق ولا إعلامًا يبني شخصيته بقوة ومهنية، هو جيل مظلوم ومهدر حقوقه، ومن بين هذه الحقوق أن يحارب المجتمع الأوغاد الخارجين من صفوفه ويحمي الأبرياء منهم.

لم أجد يوما التعامل مع أولئك الأوغاد، لم يعلمني أبي ذلك، ولكنها الحياة هي من تعلمنا، فوجودهم حولنا في كل مكان جعلني أرسم دوائري وأضع لكل منهم ومنهن حدوهم وحدودهن، أنا لن أكون مثلهم ولن أستطيع التعامل معهم ولكنهم سيعلمون دائما أني أجيد التعامل مع الأوغاد وأستطيع الرد عليهم إن أردت.

ليتك علمتي مبكرا أن الأوغاد يخافون الأقوياء يا نيرة.