الزيارة التاريخية للرئيس الصيني إلى المملكة العربية السعودية

لا تزال نتائج الزيارة التاريخية للرئيس الصيني إلى المملكة العربية السعودية حية وفاعلة في الشرق الأوسط وخصوصا على الساحة الإيرانية. وفي ختام القمم المهمة الثلاث التي عقدها الرئيس الصيني في العاصمة السعودية مع القيادة السعودية وقادة دول مجلس التعاون الخليجي وعدد من القادة العرب يمكن القول أن تحولا مهما يطرأ على المنطقة جراء هذه العلاقات الجديدة.

في عام 1973 وبعد حرب أكتوبر ارسل العاهل السعودي آنذاك الملك فيصل بن عبد العزيز برقية تهنئة إلى الزعيم السوفياتي ليونيد بريجنيف بمناسبة ذكرى انتصار ثورة أكتوبر ووقتها كتب رئيس تحرير مجلة العربي في عنوان افتتاحية العدد “عزيزي القارىء إليك تحولا هاما”. كان ذلك التحول بداية مرحلة جديدة في العلاقات بين السعودية وروسيا السوفياتية.

واليوم بزيارة الرئيس الصيني التاريخية إلى الرياض دخلت العلاقات السعودية الصينية تحولا هاما يخدم مصالح الجانبين الأمر الذي أثار غضب إيران التي اعتبرت اتفاقيتها الاستراتيجية مع الصين مثل بوليصة احتكار للعلاقة مع الصين ومنعها من تطوير علاقاتها مع غيرها.

البيان المشترك الصادر عن القمة الصينية الخليجية بتأكيده على ضرورة التفاوض لحل قضية الجزر العربية الإماراتية التي تحتلها إيران أحرج طهران كثيرا. لم تكن قضية الجزر وحدها التي أشار إليها البيان المشترك بل أن أربعة بنود من اصل ثمانية عشر بندا تضمنها البيان كانت تتعلق بالعلاقات مع إيران.

تحولات هامة بين الصين والعرب: أين سيقف الغضب الإيراني؟

البيان المشترك دعا إيران للتعاون

لم يعجب إيران أن البيان المشترك دعاها إلى التعاون لأجل ضمان الطابع السلمي لبرنامجها النووي وضرورة تعاونها مع الوكالة الدولية للطاقة الذرية والتأكيد على الحوار بمشاركة دول المنطقة لمعالجة الملف النووي الإيراني والأنشطة الإقليمية المزعزعة للاستقرار والتصدي لدعم الجماعات الإرهابية والطائفية والتنظيمات المسلحة غير الشرعية. وكذلك مطالبة البيان للنظام الإيراني بعدم التدخل في الشؤون الداخلية لدول الجوار واحترام سيادتها وسلامة أراضيها. وكان البند الرابع دعم مساعي دولة الإمارات للتوصل إلى حل سلمي لقضية الجزر الإماراتية التي تحتلها إيران ودعوة طهران للتفاوض بشأنها وفقا لقواعد القانون الدولي.

فاجأ هذا البيان المشترك النظام الإيراني لأن الصين من الأصل رفضت التدخل في الملف النووي الإيراني والآن بدت وكأنها تنتقد مشروعها النووي. لكن البند المتعلق بدعوة إيران إلى التوقف عن تقويض الاستقرار في المنطقة عبر دعمها للميلشيات المسلحة غير المشروعة هو أكثر ما استفز النظام الإيراني. وهذا الموقف الصيني الذي تم التعبير عنه في البيان جعل المسؤولين الإيرانيين يقفون على رؤوسهم ويحتارون فيما إذا كان هناك أي تغيير جذري في سياسة الصين تجاه المنطقة وخصوصا في ظل بداية انحسار النفوذ الأميركي نسبيا.

اعتبرت إيران أن الإشارة إلى موضوع الجزر الثلاث موقفا غير ودود من الصين تجاهها وقال وزير خارجيتها إن هذه الجزر جزء لا يتجزأ من وحدة التراب الإيراني وأمرها غير قابل للتفاوض. ورأت طهران في الموقف الصيني كما تم التعبير عنه في البيان تحولا خطيرا ويجب أن يؤخذ على محمل الجد. ولهذا قامت باستدعاء السفير الصيني إلى وزارة الخارجية الإيرانية لإبلاغه انزعاجها الشديد مما أسمته تدخل الصين في شؤونها الخاصة. لكن إيران لم تجرؤ أن تعلن أنها استدعت السفير الصيني إلى وزارة الخارجية لأن مثل هذا الإعلان سيؤدي إلى مضاعفات سلبية عديدة في علاقاتها مع الصين وقد تثير غضبها بشكل لافت فاكتفت بالإعلان عن أن السفير الصيني زار مسؤولين في وزارة الخارجية لسماع رأيهم في البيان المشترك.

تدرك إيران أن اللعب مع الصين في مثل هذه المسائل لن تكون عواقبه محمودة وقد يخلق آثارا جانبية ستعاني منها إيران وحدها. ولا يمكن لإيران أن تصعّد تجاه الصين فهي ما زالت بحاجة إلى علاقة طيبة معها ولا تريد إضاعة مشروعات متفق عليها بمئات المليارات من الدولارات وفق اتفاقية الشراكة الاستراتيجية الموقعة بين الجانبين. كما أن إيران لا تقوى على خسارة صداقة الصين لأنها تريدها أن تستمر في استيراد نفطها.

 

أما الصين فتعاملت بذكاء دبلوماسي مع الغضب الإيراني وأرسلت مبعوثا رئاسيا أكد للرئيس الإيراني أن الصين لا تزال راغبة في تطوير شراكة استراتيجية شاملة مع إيران وتدعمها في موقفها الرافض لأي تدخل أجنبي في شؤونها. فهل يعقل أن تكون الصين راغبة في عزل إيران أو مخاصمتها؟ الصين دولة عظمى ويهمها اتخاذ مواقف جادة من القضايا الدولية وتحترم التزاماتها ولا يهمها غضب أحد بل يهمها أن تعرب عن مواقفها الحقيقية في الأوقات المناسبة لها. ومن المؤكد أنها لا تعزز علاقاتها مع دولة على حساب دولة أخرى لكن لها حساباتها كدولة عظمى وهذا ما اعترفت به بعض صحف التيار الإصلاحي في إيران. وقد رأى عطاء الله مهاجراني أن الصين تعاملت بمقتضى ما تمليه عليها مصلحتها ولا ينبغي أن يتوقع أحد من الدول وخاصة الكبرى منها غير ذلك. فالصين مثل أي دولة أخرى لا تفكر إلا بمصالحها واذا كانت إيران لا تعرف ذلك بعد فهذه مشكلتها وما عليها سوى أن تتكيف مع السياسة الصينية وليس مواجهتها أو التصادم معها. علاقات الدول ببعضها البعض علاقات مصالح وهذا أمر طبيعي في عالم السياسة.

من المعروف أن صورة الصين لدى الجمهور الإيراني ليست مثالية لكن هذا لن يضر بالتعاون القائم بين الجانبين على المستوى الرسمي ويمكن لهما تجاوز هذا الأمر. لكن الصين تحاول أن تكون محايدة في تعاملها مع كل من إيران والسعودية وفي الوقت نفسه حماية مصالحها السياسية والاقتصادية والأمنية في المنطقة. ولذلك كانت اتفاقية الشراكة الاستراتيجية بينها وبين إيران الموقعة في العام 2021 وهناك اتفاقية مشابه بينها وبين السعودية. وفي عامي 2017 و2019 أجرت الصين مناورات مشتركة مع إيران والسعودية على التوالي.

توقيت زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية

كانت زيارة الرئيس الصيني إلى السعودية في وقت مهم وحساس لجميع الأطراف سواء من ناحية الظروف الإقليمية أو من ناحية علاقات دول المنطقة بالولايات المتحدة. ولا شك أن الصين ترغب مثلما يُفهم من البيانات المشتركة الصادرة بعد زيارة الرئيس الصيني إلى الرياض بفتح صفحة جديدة في علاقاتها مع الشرق الأوسط لتعبئة أي فراغ قد ينشأ عن خروج الولايات المتحدة. ونجاح زيارة الرئيس الصيني يشير بشكل أو بآخر إلى “فشل ما” في زيارة الرئيس الأميركي التي تمت في الصيف الماضي عندما كان يرغب في إبعاد السعودية ودول الخليج عن فلك روسيا والصين.

جاءت هذه الزيارة والقمم التي عقدت في الرياض بإنجازات غير مسبوقة للصين في مجال إظهار القوة تجاه الولايات المتحدة الأمر الذي قضى على عهد العلاقات الأحادية بين الرياض وواشنطن. فقد أكدت الزيارة مكانة الصين في النظام العالمي الذي لن يبقى محكوما من قطب واحد ولا حتى من قطبين بل من ثلاثة أقطاب ولكل قدراته وأهدافه وكذلك نجاحاته وإخفاقاته.