انتقادات داخلية تتعرض لها إيران بسبب الحرب الروسية على أوكرانيا

أخيراً، وبعد فترة من الإنكار والمكابرة، اضطرت إيران إلى الاعتراف بأنها قدمت بالفعل دعماً عسكرياً إلى روسيا، ممثلاً في الطائرات من دون طيار، لكنها زعمت أن ذلك كان قبل اندلاع الحرب الروسية-الأوكرانية في 24 فبراير الماضي. إذ قال وزير الخارجية الإيراني حسين أمير عبد اللهيان، في 5 نوفمبر الجاري، أن “إيران زودت موسكو بعدد محدود من الطائرات بدون طيار، قبل الحرب في أوكرانيا”.

لماذا تتعرض إيران لانتقادات داخلية بسبب الحرب الأوكرانية؟

اضطرار إيران إلى الاعتراف بدعمها لروسيا عسكرياً، ربما يكون مرجعه أنه لم يعد هناك مجالاً للإنكار، فالأدلة والمؤشرات كلها تثبت أن الطائرات الإيرانية من دون طيار أصبحت سلاحاً أساسياً تستخدمه روسيا في حربها ضد أوكرانيا، على نحو تسبب في تدمير قسم كبير من البنية التحتية الأوكرانية، لاسيما في قطاع الطاقة. ورغم أن إيران ما زالت تصر على أن هذا الدعم كان قبل اندلاع الحرب، فإنها قد تضطر مرة أخرى إلى تغيير موقفها والاعتراف بأن هذا الدعم لم يكن قليلاً، ولم يتوقف قبل 24 فبراير الماضي.

هنا، كان لافتاً أن ردود الفعل التي أثارها هذا الموقف لم تقتصر على الساحة الخارجية، حيث أبدت الدول الغربية موقفاً متشدداً تجاه إيران، مشيرة إلى أنها تتجه نحو فرض مزيد من العقوبات على الأخيرة، وإنما امتد إلى الساحة الداخلية أيضاً، إذ أشارت اتجاهات عديدة في طهران إلى أن هذا التخبط الملحوظ يمكن أن ينتج تداعيات سلبية عديدة على مصالح إيران.

وانعكس ذلك في مقال مسيح مهاجري في صحيفة “جمهوري إسلامي” المحافظة، بعنوان “هنوز هم فرصت دارید” أو “لا يزال لديك وقت”، والذي نشر في 7 نوفمبر الجاري، ووجه فيه انتقادات قوية للسياسة الإيرانية إزاء الحرب الروسية-الأوكرانية، خاصة على صعيد عدم السعى بجدية نحو الوصول إلى تسوية لإنهاء الحرب، والإصرار على عدم استخدام الدرونز الإيرانية في الحرب، وعدم الإضرار بالعلاقات مع أوكرانيا. وطالب مهاجري وزير الخارجية حسين أمير عبد اللهيان بالعمل بناءً على المعطيات الجديدة التي فرضها اعترافه بتقديم الدعم العسكري إلى روسيا، معتبراً أنه ما زال هناك وقت لاحتواء ما جرى.

ربما يمكن القول باطمئنان إن هذا الموقف يعبر عن اتجاه بارز داخل إيران لا يوفر جهداً للدعوة إلى مراجعة السياسة الإيرانية إزاء الحرب في أوكرانيا، واتجاهات العلاقات مع طرفيها الرئيسيين. ويستند هذا الاتجاه إلى اعتبارات عديدة لتبرير رؤيته وإضفاء وجاهة وزخم خاص عليها.

أولا هذه الاعتبارات يتمثل في أن إيران تبدي حساسية خاصة إزاء التحركات العسكرية الروسية. صحيح أن العلاقات الثنائية مع الأخيرة وصلت إلى مرحلة غير مسبوقة، وأصبح التعاون هو النمط الغالب فيها، وصحيح أن روسيا أصبحت الظهير الدولي الأهم بالنسبة لإيران، كما أنها قد تكون المصدر الأساسي للأسلحة الثقيلة بالنسبة للأخيرة، خلال المرحلة القادمة (في إطار تعاون عسكري متبادل)، إلا أن الصحيح أيضاً أن نظرة إيران إلى روسيا كمصدر تهديد لم تتراجع. فالأخيرة كانت إحدى القوى الدولية التي دخلت في أكثر من حرب مع إيران، انتصرت فيها وفرضت على الأخيرة، في عهد القاجار، معاهدات “مُذِلَّة”، استقطعت بموجبها مناطق شاسعة منها، على غرار معاهدتى جلستان (گلستان) وتركمنشاي (ترکمنچای) عامي 1813 و1828.

علاقات على المحك

وثانيا هذه الاعتبارات ينصرف إلى أن هذا الدعم العسكري الإيراني لروسيا وضع العلاقات بين إيران والدول الغربية على المحك، وأضاف مزيداً من التعقيد عليها، وربما يكون سبباً في وصول التوتر بين الطرفين إلى مرحلة غير مسبوقة خلال المرحلة القادمة.

صحيح أن العلاقات مع تلك الدول لم تكن على ما يرام في الغالب، باستثناء فترات قليلة على غرار الفترة التي تلت الوصول إلى الاتفاق النووي في 14 يوليو 2015، حيث قام الرئيس الإيراني السابق حسن روحاني بزيارات عديدة إلى الدول الأوروبية مثل فرنسا وإيطاليا والنمسا. لكن الصحيح أيضاً أنه كان هناك حرص على عدم إغلاق الباب أمام تحسين تلك العلاقات، حتى مع الولايات المتحدة الأمريكية نفسها.

إذ برزت دعوات عديدة في إيران خلال مرحلة ما بعد الوصول إلى الصفقة النووية في عام 2015، تشير إلى أنه لم يعد من المنطقي عدم التعامل مع الولايات المتحدة الأمريكية، أو الالتزام بالخطاب الأيديولوجي العام ضدها باعتبارها “الشيطان الأكبر” لاسيما أن الظروف الدولية والإقليمية التي تأسس فيها نظام إيران في عام 1979، تختلف تماماً عن الظروف الحالية التي طرأت على الساحتين خلال العقدين الأخيرين.

لماذا تتعرض إيران لانتقادات داخلية بسبب الحرب الأوكرانية؟

لكن الآن، وبعد أن ثبت أن إيران باتت طرفاً رئيسياً في الحرب الروسية-الأوكرانية، بالدعم العسكري الذي تقدمه إلى روسيا، لم يعد هناك مجال، في الغالب، للحفاظ على الحد الأدنى من العلاقات مع الدول الأوروبية. وربما يكون الشرط الأساسي لتجنب تطور هذا المأزق هو الوصول إلى صفقة نووية جديدة وإنقاذ المفاوضات المتعثرة حالياً في فيينا، وهو شرط بات صعباً، في ظل تصاعد حدة الخلافات بين إيران والولايات المتحدة الأمريكية، وتزايد المؤشرات التي تكشف عن أن إيران ما زالت مترددة في الوصول إلى صفقة جديدة يمكن من خلالها مواصلة العمل بالاتفاق النووي وعودة أطرافه الرئيسية إلى الالتزام ببنوده.

ومن دون شك، فإن ما يزيد من مساحة التوتر بين إيران والدول الغربية هو الاتهامات التي توجه لإيران باستمرار بمحاولة تهديد أمن بعض تلك الدول، على غرار الاتهامات التي وجهتها ألبانيا إلى إيران في هذا الصدد، في 7 سبتمبر الماضي، وقطعت بموجبها العلاقات الدبلوماسية مع الأخيرة، على نحو حظى بدعم أوروبي وأمريكي واضح.

بل إن هناك مخاوف أمريكية من إمكانية تورط إيران في محاولة اختراق للتأثير في انتخابات التجديد النصفي للكونجرس الأمريكي، التي أجريت في 8 نوفمبر الحالي، على نحو دفع مكتب التحقيقات الفيدرالي إلى تأسيس مقر قيادة أمنية جديدة ومراكز قيادة منفصلة في جميع المكاتب الميدانية في الولايات المتحدة الأمريكية من أجل مراقبة أي تدخل خارجي في الانتخابات، لاسيما من جانب إيران وروسيا والصين.

حسابات موسكو

أما ثالثا هذه الاعتبارات، فيتعلق بأن هذا الدعم وما يفرضه من توتر في العلاقات مع الدول الأوروبية، التي ربما لا تكتفي بفرض عقوبات جديدة على إيران، وإنما قد تتجه إلى محاولة اختبار مقاربة جديدة تقوم على أن هذا الدعم ينتهك قرار مجلس الأمن رقم 2231 الذي صدر بعد الوصول للاتفاق النووي بأسبوع واحد، أي في 20 يوليو 2015، يُعرِّض إيران لانكشاف استراتيجي خطير على الساحة الدولية، بشكل سوف ينتج عواقب غير محمودة على مصالحها.

لماذا تتعرض إيران لانتقادات داخلية بسبب الحرب الأوكرانية؟

إذ أن هذه المعطيات معناها أن الخيارات المتاحة أمام إيران على الساحة الدولية لم تعد متعددة، وإنما باتت منحصرة في روسيا، باعتبار أن العلاقات مع الصين لا ترتقي لمستوى العلاقات مع روسيا، خاصة أن الأخيرة رقم مهم في الملفات الإقليمية الرئيسية بمنطقة الشرق الأوسط، والتي تحظى باهتمام خاص من جانب إيران، ولاسيما الملف السوري.

وهنا، يمكن الإشارة إلى الدعوة التي ظهرت في إيران بضرورة عدم “وضع كل البيض في سلة روسيا”. هذه الدعوة تحديداً باتت رائجة بشكل كبير داخل إيران، وتمثل قاسماً مشتركاً في رؤى قطاع واسع من الإيرانيين إزاء روسيا.

هذه الدعوة تطرح دلالة مهمة تتمثل في أن هذا القطاع يرى أن روسيا لن تدعم إيران إلى النهاية، وأن حساباتها ومصالحها سوف تفرض عليها وضع سقف لهذا الدعم. بل إن هناك من يرى أن روسيا نفسها لن تسمح لإيران بالوصول إلى المرحلة التي يمكن أن تملك فيها القنبلة النووية وسوف تكون أول من سيتدخل لمنعها من تحقيق ذلك، على عكس ما قاله مسئولون أمريكيون، في 5 نوفمبر الجاري، من أن إيران تسعى إلى الحصول على مساعدة روسيا للوصول إلى المرحلة التي يمكن أن تمتلك فيها سلاحاً نووياً.

ختاماً، يمكن القول إن إيران تحاول مراجعة موقفها إزاء الأزمة الأوكرانية. لكن هذه المراجعة تبدو متأخرة إلى حد كبير. إذ أنها لن تستطيع بسهولة تقليص الفجوة واحتواء التوتر في العلاقات مع الدول الأوروبية التي تماهت سياستها تجاهها بشكل كبير مع السياسة الأمريكية على عكس ما كانت تتمناه إيران. كما أنها في الوقت نفسه لن تستطيع التراجع بسهولة عن هذا الدعم الذي تقدمه إلى روسيا.

فالأخيرة بدت في أمس الحاجة إلى هذا الدعم، لاسيما في ظل الاستنزاف الواسع الذي يفرضه استمرار الحرب حتى الآن بلا أدنى إمكانية لإنهاءها قريباً، بالتوازي مع تصاعد حدة الضغوط والعقوبات الغربية. وبالتالي، فإن اتجاه إيران إلى مراجعة موقفها قد ينتج في النهاية تداعيات عكسية في علاقاتها مع ظهيرها الدولي الأهم، على نحو يوحي في النهاية بأن إيران وضعت نفسها في مأزق قد لا تكون تكلفة الخروج منه هينة.