أخبار الآن | استوكهولم – السويد (يوسف بيرقدار )

كثيرا ما سمعنا عن معتقلي الرأي في عهد حافظ الأسد وابنه بشار، سواء في سجن صيدنايا أو سجن تدمر العسكري. تحدث العالم بأسره عبر تقارير نشرت عن حالات الإعدام الجماعية بحق المعتقلين بشكل شبه يومي، كان آخر هذه التقارير تقرير منظمة العفو الدولية الذي تحدث بشكل واقعي وقريب للصورة، بعد أن وثقت بشهاداتٍ لمن كتب لهم الخروج من هذه السجون وهم على قيد الحياة.

التقت أخبار الآن بأحد أهم معتقلي الرأي في سوريا وهو الشاعر "فرج بيرقدار" الذي قضى حوالي 13 عاماً ما بين سجني تدمر وصيدنايا. كل هذه الأعوام كانت كافية لتروي تجربة معتقل واحد من بين عشرات الآلاف من الذين خاضوا هذه التجربة، عن أساليب التحقيق والتهم التي توجه للمعتقلين، وكيفية سير المحاكم مع من يعارض نظام الأسد.

ثلاثة اعتقالات متباعدة.. وتهم متشابهة

1- من المعروف أنك تعرَّضت للاعتقال أكثر من مرة، فهل لك أن تحدثنا عن كيفية اعتقالك، وما هي التهم التي وُجِّهت إليك؟

كان اعتقالي الأول من قبل المخابرات الجوية عام 1978. كنت حينها في الخدمة الإلزامية في القوى الجوية، وقد وصل إلى الكتيبة استدعاء لمراجعتهم في آمرية الطيران، وهناك أنزلوني إلى القبو وبدأوا التعذيب بغية إجباري على الاعتراف بما قمت به من تفجيرات، ثم من أجل الاعتراف إلى أي حزب أنتمي. كان المحقِّق الرئيسي حينها المقدم علي مملوك، وكان مساعده الملازم الأول جميل حسن. 

لم يكن لديهم أي وقائع أو معلومات محددة ولهذا كبّروا الاتهامات لعلي أعترف بما هو أصغر منها. أعتقد أن السبب الرئيسي للاعتقال هو مشاركتي في تحرير مجلة أدبية سرية ومعارضة، وربما هناك سبب آخر يتعلق بأني قلت "لا" في الاستفتاء الأول على رئاسة حافظ الأسد. بعد شهور شملني عفو رئاسي، وفي اليوم التالي ذهبت إلى بيتي الذي أسكنه مع مجموعة أصدقاء في "مخيم اليرموك" جنوب دمشق، وكان هناك عناصر من مخابرات أمن الدولة في انتظاري، فأخذوني إلى الفرع الداخلي "الخطيب". 

هناك تمحور التحقيق حول انتسابي إلى رابطة العمل الشيوعي، وبعد 18 يوماً يئسوا من إمكانية اعترافي، فأعادوني مجدداً إلى المخابرات الجوية وبعد بضعة أسابيع أخلوا سبيلي. 

أما اعتقالي الثالث فكان من قبل المخابرات العسكرية عام 1987. طوّقوا الحي بأعداد كبيرة من الشرطة العسكرية على أسطح المنازل وفي مداخل الحي. هذه المرة كانوا يعرفون أني عضو في قيادة حزب العمل الشيوعي، وبالتالي كانوا يريدون أن أعترف عن أماكن سكن رفاقي وعن مطبعة الحزب وآليات عمل الحزب إلخ. استمر التحقيق معي في فرع فلسطين 11 شهراً، وبعدها نقلوا المئات إلى سجن صيدنايا، ونقلوني مع 17 آخرين إلى سجن تدمر كنوع من الإمعان في العقوبة. 

كنا عشرة أعضاء لجنة مركزية وثمانية عسكريين متطوّعين. بعد حوالي خمس سنوات في تدمر نقلونا إلى سجن صيدنايا وأحالونا إلى محكمة أمن الدولة العليا التي حكمت على معظمنا بالسجن 15 عاماً مع الأعمال الشاقّة والحرمان من الحقوق المدنية والسياسية. كان هناك حملة دولية من أجل إطلاق سراحي كشاعر، غير أن ضغوط  الحملة لم تفلح إلا بعد مرور 14 عاماً على اعتقالي.

2- ما هي الطرق التي يتم فيها إلصاق التهم بالمعتقلين، وهل هي تُهَم حقيقية أم كيدية؟

دعني أوضح في البداية أن كل تهمة سياسية هي باطلة حتى لو كانت حقيقية. في البلدان الديموقراطية أحزاب حاكمة وأحزاب معارضة. المعارضة السياسية ليست تهمة إلا عند الأنظمة الاستبدادية. ولكن في كل مرحلة تتبدل التهم. في فترة اعتقالنا كان الاتهام: الانتساب لجمعية سرية تهدف إلى قلب نظام الحكم بالعنف، ومعاداة أهداف البعث، ونشر أخبار كاذبة. أحياناً يكتفون بواحدة من هذه التهم، أما بالنسبة لي ولأمثالي فقد ألصقوا بنا التهم الثلاث. في مرحلة لاحقة سادت تهمة وهن نفسية الأمة، ولكن بعد انطلاق الثورة صارت تهمة الإرهاب هي الرائجة. والأنكى أنهم يحاولون إجبار السجناء على التوقيع على أوراق لا يعرفون ما هو مكتوب فيها.

جحيم صيدنايا .. التعذيب والمجازر

3- هل هناك أساليب تحقيق ممنهجة في سجن صيدنايا؟

لدى نظام الأسد كل شرٍّ ممنهج، وكل خير ممنوع أو محارب. ولفظة "ممنهج" ليست إيجابية بحد ذاتها خاصة عندما يتعلق الأمر بالتحقيق والتعذيب والبطش والسرقة. في عام 1986 تم تدشين سجن صيدنايا. كان الغرض منه أن يكون سجناً نموذجياً يرضي المنظمات الحقوقية الدولية، ولكن لم تستطع السلطة إقناع أي منظمة عالمية معنية بالسجناء السياسيين وحقوق الإنسان، ولهذا أوقفت السلطة كل ما يتعلق بالخدمات التي كانت مقررة مثل المطعم ووصول المياه الساخنة إلى الحمامات في كل مهجع، ومنع التلفزيون. باختصار صار سجناً عادياً، ولكن أقل سوءاً بكثير من سجن تدمر. أتحدث عن سجن صيدنايا في أواخر الثمانينيات وحتى بدايات الألفية الثالثة. في تلك الفترة لم يكن هناك تحقيقات. التحقيقات كانت تتم في الفروع الأمنية. لاحقاً بدأ كل شيء يسوء في هذا السجن ليصل الأمر إلى حد ارتكاب مجزرة داخل السجن في عام 2008. بعد انطلاقة الثورة صارت المجزرة مستمرة عبر التحقيقات الشكلية والتهم الجاهزة وأحكام الإعدام التي تصدرها المحكمة العسكرية الميدانية. تقرير منظمة العفو الدولية، الذي تحدث عن قرابة 13 ألف سجين أعدموا شنقاً داخل السجن خلال السنوات الأربع الأخيرة، ليس إلا جزءاً يسيراً من واقع الحال.

4- كيف يتم تعذيب المعتقلين وماهي أنواع التعذيب التي رأيتها؟ وماهي الأدوات التي كانت تستخدم للتعذيب؟

نُقلت من سجن تدمر إلى سجن صيدنايا، وكلاهما عسكريان، في 1992، وخرجت منه في أواخر عام 2000.  في عهدنا كان التعذيب فقط لمن يخالفون قوانين السجن، كالنظر من النوافذ، أو المراسلات التي تتم بين السجناء بخيوط أو أسلاك عبر المناور، أو الاحتجاج على نقص الطعام إلخ. ولكن إذا كنت تسأل عن أساليب التعذيب في الفروع الأمنية، فقد كانت أقسى وأكثر تنوّعاً. أشنعها كان ما يسمى "الكرسي الألماني" وكذلك صعقات الكهرباء، وبساط الريح، والدولاب، والشبح على السلَّم بشكل مقلوب، أي القدمين في أعلى السلَّم والرأس في الأسفل، حالة تجعل الرأس ثقيلاً وعلى وشك الانفجار. وهناك السخَّنة الكهربائية التي يُجلِسون السجين عليها وهي مشتعلة، وأيضاً إدخال أدوات صلبة في فرج السجين، وغير ذلك من الأساليب التي يرهقني مجرّد تذكّرها.

5- هل كانت أساليب التعذيب مختلفة بين معتقلي الرأي والآخرين؟

أنا جرَّبت السجن السياسي وجرَّبت السجن القضائي المدني. في السجن القضائي كل شيء قابل للبيع والشراء. إذا كان السجين ميسوراً مادياً فبإمكانه أن يحصل على ما يريد داخل السجن. نظام الأسد لا يعتبر أصحاب الجنح والجرائم خصوماً خطرين، وأجهزة الشرطة أكثر نخراً وفساداً وترهّلاً من أجهزة الأمن. لم أتعرّض في السجن القضائي لأي عقوبة جسدية، في حين أن عدد السياط التي  تلقيتها في السجن السياسي يكاد يعادل عدد الكلمات التي كتبتها في حياتي. ​