أخبار الآن | ريف دمشق – سوريا ( جودي شامي ) 

بهدوء يشبه القلق وبوجه أسمر لفحته الشمس اقترب طفل في الثانية عشرة من عمرها تقول : "الله يوفئك اشتري مني هاي العلكة أو هاي البسكوتة ب 50 ليرة بس! اشتريت منها الاثنتان معا، ابتعدت قليلاً والفرح يبدو على وجهها تبحث عن مشتري آخر.

ليس ببعيد عن الفتاة ترى طفلاً أخر يبحث بين القمامة عن زجاجات فارغة أو أي شيء يبيعه، تزداد القسوة في ملامحهم، والأسى الدائم، وأحيانا ترتسم على وجوههم علامات السخط والانتقام! ، لم لا فهم يعيشون في الحارات والشوارع الضبابية، يأكلون فتات الأرض وما يرميه بعض المارة لهم، يتعرضون لشتى أنواع الانتهاكات من ضرب واهانة وجوع وخوف وبرد، لكن الشارع أصبح صديقهم الوحيد، هو كل شيء بالنسبة لهم! الطرق المتعرجة والأرصفة القذرة والمشردين أصدقاؤهم، وبعض الكلاب المسعورة والقطط الفارة من صوت الرصاص والقصف والطيران والبراميل المتفجرة.
في صحنايا لمى بسحنتها الجميلة البيضاء تجر بقايا عربة، الكل هنا يعرفها لجمالها الأخاذ وسوط لسانها كتمت ضحكتها براحتها اليمنى عندما ابتسمت له .وتطاير أطراف شعرها المغبر الذي ماعبث به مشط منذ أربع سنوات ربما، سوى الهواء والشمس والمطر وربما أيادي الآخرين، كانت ترتدي بنطالا واسعا أسودا وكنزة صوفية حمراء، قديمة عليها بضعة بقع سوداء.

قلت لها: أريد ان احدثك …
أجابت: ماذا تريدين مني؟
ازدادت حدة صوتها واعوجاج جبينها مقطبة : " ارحلي من هنا لاأريد التكلم مع أحد ".
أخفت جسدها خلف أسوار العربة ولم تنتبه لظلي الذي بات يتبعها استرقت نظرة من خلف عربتها، فوجدتني مازلت أنتظر الحديث معها فجأة وقفت، وضربت الأرض بقدمها اليسرى فتناثرت ذرات من الغبار قد أبعدتني عنها قليلا اقتربت منها فتاة أخرى تشبهها، يبدو أنها أختها ابتسمت لي بسحنة أذابها الحزن والأسى مدت لي لسانها ساخرة وركضت مبتعدة لحقتها، توقفت ثم قالت لي : " اشتري مني هذه الحلوى ".
أعطيتها ثمنها وقلت لها سأعطيكي مئتي ليرة أيضاً
هزت رأسها موافقة سألتها عن أهلها؟ ومن أين جاءت؟
قالت : " أهلي جميعهم استشهدوا في داريا عندما عدنا أنا وأختي من المدرسة لم نجد أخي وأمي وأبي وجدتي لم نرى أحد منهم كل ما رأيته كان دماء تملؤ الأرض والأثاث، جلست أنا وأختي نبكي ولم يكن لدينا أي خيار سوى أن نرحل من جيراننا إلى صحنايا ونتابع حياتنا هنا، تتوقف الفتاة والدموع تنهمر من عيونها وهي تتذكر تابع قصتها تحدثت عن سعادتها مع عائلتها التي فقدتها وكيف أنهم كانوا كل شيء بالنسبة لها ولأختها قبل أن تصبحا وحيدتين في هذه الدنيا، بكت .. ثم رمقتني بعينيها الزرقاوين المحمرتين بنظرة تشبه الموت، أو رصاصات رحمة أطلقتها في وجهي مبتعدة تاركة لي صمتها الحزين.
في مدينة جرمانا طفل جميل الوجه قرص البرد وجنتيه البيضاء اللون فأصبحتا شديدة الاحمرار، وشعره عسليا مغبرا، كان يرتدي بلوزة رقيقة ذي أكمام نهاياتها ممزقة وكأن جرذا قد قضم أطرافها البيضاء، وبنطالا قصيرا في هذا البرد القارص، وجوارب قصيرة سوداء وشحاطة مهترئة، كان الطفل يبيع البقدونس والبندورة والفجل والسبانخ، لايتجاوز عمره  9 سنوات سألته كم جرزة البقدونس فقال ب 40 ليرة ..
لماذا أنت لست بمدرستك؟
استغرب من سؤالي بل أجابني هازئا: مدرسة …؟! أي مدرسة نحنا يادوب ناكل ياخالتي؟!
-تبدو غريبا عن هنا من أين قدمت؟
من المليحة! لاتسئليني عن أبي فقد استشهد بتفجير الكازية بالمليحة وأنا أعيش مع أمي وأختي الصغيرة هنا في الجناين بآخر جرمانا، بدك تشتري أم لا … لست فاضي للكلام! لا تعطليني خالتي، اشتريت منه فابتسم لي ابتسامة حزينة مليئة باليأس والألم.

ماتت أمها برصاص قناص بالدخانية وهي تعيش مع أخوتها الخمسة في دكان للغاز

عبير فتاة عمرها تسع سنوات، كانت تحتضن أخيها الصغير المريض الذي لم يكف عن السعال وأنا أحدثها، ترتدي بنطالا من الجينز وكنزة رمادية صيفية وجوارب حمراء من دون حذاء، لم تنس أن تحضر مع أخيها الرضيع أدويته، سألتها من أين جاءت؟ فقالت: جئت مع اخوتي من الحجر الأسود الى هنا بعد أن وضع الأمن أبي في السجن، وأمي ماتت برصاصة قناص بالدخانية، كانت تجلب لنا الطعام، ذهبت ولم تعد أبدا، استئجر أخي محلا يبيع فيه أنابيب الغاز يبيع الغاز في النهار وننام فيه في الليل نكاد نموت من رائحة الغاز التي تعبأ المكان، بيتنا في الحجر الأسود يقطنه جنود ربما من الأمن! لقد طردنا منه وسكنوا به بعد أن سجنوا والدي، أخوتي الثلاث والأصغر مني لاأعرف أينهم يذهبون في الصباح الباكر ولا يعودون الا في آخر المساء، يبحثون عن رزقهم، أنا أربي أخي الرضيع عمر لكنه يمرض كثيرا ويبكي كثيرا ولا أعرف كيف أعمل لأساعدهم.
وماذا تعملين ..؟
أنظف المحل لأخي الأكبر مني بسنتين ثم أحمل أخي الصغير وأقبع هنا في الحارة لعل الله يرزقنا!
أما هنا فطفل أخر سامر الذي لم يتجاوز ال 8 سنوات ومع هذا فهو يبيع غزل البنات، اقتربت منه فابتسم لي قائلا لاتصوريني!
كان جميل الطلعة بوجهه الأبيض وشعره الخرنوبي يرتدي بنطال جينز مهترىء وشحاطة قديمة أصغر من حجم قدمه وبلا جوارب، وبلوزة مخططة بالأبيض والأسود قلت له: بكم علبة الغزلة فقال لي بمئة ليرة.
-أنت في المدرسة؟ يجيب : "لا اذا رحت إلى المدرسة مين بدو يبيع غزلة ويصرف عل البيت ..! مافي بالبيت غير أنا وأختي وأخي الصغير وأمي جينا من الحجيرة بعد أن ذبحوا والدي ".

ومن ذبح والدك؟
لاأعرف أمي قالت لي أن حزب الله في السيدة زينب هم ذبحوا والدي وحرقوا بيتنا، أمي تبيع الخضرة وأنا أبيع غزل البنات وبيتنا غرفة واحدة في شارع البيدر فوق سطح مبنى نعيش على سطح المبنى مع الدجاج والحمام.

استرقت النظر الى طفل بشعره الأسود وعينييه السوداويين الحالمتين، يرتدي بلوزة حمراء وبنطال جينز قديم يحمل أثقالا فوق أثقال من كراتين وصناديق من المنظفات المنزلية! وقفت قليلا معه، قال أنه لايعرف شيئا عن أهله فقد جاء من حمص عندما قصف النظام حي باب عمرو، مات جميع أهله! هرب مع عمه وزوجته من القصف وجاء معهم الى هنا لكنه يعيش في هذا المحل يحرسه ليلا نهارا.
فجأة قال لي صاحب المحل بامتعاض شديد: لاتعطلينا يا آنسه خلي الولد يشوف شغله ويوصل الكراتين للمحل التاني.

الشوارع تمتلأ بالأطفال المهجرين وأحيانا أمهات يحملن أطفالهن ويقبعون على الأرصفة، وقصصهم لاتنتهي ولا تتوقف، يسيحون بين الحارات والشوارع لا أحد يقف معهم ويدعمهم، همهم أن يحصلوا على قوت يومهم وأن يعيشوا بسلام، فمتى يعود كل حي الى بلده وأهله وحارته؟ ومتى تنتهي هذه المآسي والحرب ؟