دبي، الامارات ، 16 مارس 2014 ، ميدل ايست اون لاين ، محمد زكريا توفيق – 

يجب أن نعترف بأنه يوجد داخل كل منا، جانب مظلم يعشق العنف. راقب الأطفال وهم يشاهدون أفلام الرسوم المتحركة. والكبار وهم يقفزون من مقاعدهم صارخين: “جول”، عندما يحرز فريقهم هدفا في مرمى الخصم.

راقب السعادة والرضا على وجه لاعب الشطرنج وهو يقول “كش ملك”. الملك هنا يمثل الأب الذي يريد “أوديب” قتله (عقدة أوديب). الفيلم السينمائي الملئ بالضرب والعنف، هو الفيلم الجيد عند البسطاء.

مصارعة الثيران والديوك، ورياضة الملاكمة والمصارعة، لا نشبع من مشاهدتها، في كل مراحل العمر، بغض النظر عن المركز الاجتماعي ومستوى التعليم والثقافة.

يطيب لنا أن نقارن أنفسنا، كشعوب متحضرة، بالرومان القدماء الأقل تحضرا. الذين كانوا يذهبون، للترفيه عن أنفسهم، بمشاهدة الأسرى وهم يلقون للأسود الجائعة. نحن نكتفي الآن بمشاهدة العنف على شاشات التليفزيون. وما دام العنف على الشاشة الصغيرة، فهو عنف غير حقيقي، يمكن قبوله.

في الماضي، قُطِّع جسد ابن المقفع، مؤلف كتاب “كليلة ودمنة”، وأكره على أكله مشويا حتى مات وهو في مقتبل العمر، لم يتجاوز السادسة والثلاثين، لمجرّد كتابة مخطوطة للخليفة العبّاسي، أبو جعفر المنصور، “رسالة الصّحابة”، تضمّنت رؤِيته لإصلاح عيوب الخلافة والمستخلفين والقادة والجنود والقضاة وحتّى جباة الجزية.

لقي الحلّاج بعد تكفيره، مصيرا مشابها، حيث تمّ صلبه حيًّا، وفي مرحلة ثانية تم تقطيع جسده هو الآخر، لأنّه هو وابن عربي الذي كفّروه أيضا، كانا يعتقدان بوحدة الوجود، ويعني توحّد الخالق بمخلوقاته.

 

كان المسيحيون البروتستانت فى “تولوز” فرنسا غير مسموح لهم بمزاولة مهنة الطب أو المحاماة، أو امتلاك محلات بقالة أو مكتبات، أو حتى مزاولة مهنة المولدات. فى يوم من الأيام، ترك “مارك كالاس” الابن، عائلته وذهب إلى أقرب كوخ ليشنق نفسه.

جاءت الشائعات تتهم “جين كالاس” الأب، البروتستانتي الديانة، بقتل ابنه مارك، بسبب تحوله إلى الكاثوليكية. سرعان ما تم القبض على الأب وباقي العائلة. حُكم على الأب، بعد محاكمة سريعة غير عادلة لم يسمع فيها شهود النفي، بالتعذيب والإعدام.

تعرض الأب المسكين لعمليات تعذيب تفوق الوصف. نزعت عظام يديه ورجليه من مفاصلها بآلة خاصة. كان يضرب بقضبان الحديد على صدره لتحطيم ضلوعه. زبانية الجحيم، كانت تراعي بقاءه أطول مدة حيا حتى يتجرع من الآلام والعذاب أشده وأقساه. بعد ذلك، تم شنق ما تبقى منه وحرق جثته.

في القرن العشرين وحده، قتل ما بين 80 و 100 مليون نفس قتلا عنيفا. “إيفان الرهيب”، الذي قتل ابنه، أباد سكان ثاني أكبر مدينة في إمبراطوريته. الحرب العالمية الثانية، تسببت في قتل ما يقرب من 50 مليون نفس، ما بين قتل مباشر بالغازات السامة أو بسبب التعذيب أو بالقنابل الذرية.

نحن لا نتحدث عن الرومان أو المغول، وإنما عن جيل شارون وبن لادن وجورج بوش، والأجيال القليلة السابقة له مباشرة. في الواقع، نحن لا نختلف عن الملوك والسلاطين القدامى الذين كانوا يوسطون أعداءهم (أي شطرهم بالسيف من الوسط)، أو بسمل عيونهم بمسمار محمي، أو بخنقهم في السجون الرطبة المظلمة.

لماذا تنفتح شهيتنا على العنف وندمنه؟ هل هناك ضرورة له، حتى نبقى على قيد الحياة؟ وهل حاجتنا للعنف مثل حاجتنا للماء والهواء؟ إذا كان الأمر كذلك، فهل ورثنا هذه الغريزة عن جدودنا الحيوانات المفترسة؟ أم هو شيء تعلمناه منذ نعومة أظافرنا؟

 

الإجابة على هذه الأسئلة ليست سهلة. لقد حارت فيها العقول، واختلف فيها علماء النفس والسلوك. حتى العظيم شيكسبير، نجده يتساءل: “هل هناك شيء في الطبيعة، يجعل هذه القلوب مثل الصخر؟”

إننا لا نتحدث عن شيء نظري. إننا نتحدث عن الحياة والموت. عنف الإخوان والتكفيريين، والعنف المضاد من قبل الحكومة، عنف حقيقي. جرائم القتل بسبب العقيدة، أو بسبب السرقة، تزايدت بصورة مقلقة في المجتمع المصري. أسلوب القتل، من الإلقاء من الأدوار العليا للعمارات، إلى الذبح بالسكين والتمثيل بالجثث، أصبح شيئا مثيرا للغثيان.

في الولايات المتحدة، تزايدت جرائم القتل ثلاثة أضعاف في الآونة الأخيرة. 3% من جرائم القتل، ارتكبها آباء ضد أبنائهم. حالات الاغتصاب وضرب الزوجات، ارتفعت بشكل خطير.

في الولايات المتحدة، كل عام، ما يقرب من ثلاثة آلاف زوجة ماتت من ضرب الزوج. 162 ألف امرأة تم اغتصابهن. 19 ألف شخص تم قتله. مليون ومئة ألف، تم سرقتهم. إننا نعيش في ظل الرعب النووي، الذي قد يقضي علينا جميعا، إذا قامت حرب نووية بين الدول.

هل نحن قد نجحنا حقا في تحويل العنف الحقيقي إلى مجرد مشاهد تليفزيونية وأفلام سينمائية، مثل “إبراهيم الأبيض”؟ لكن تبقى الحقيقة المؤسفة، وهي أنه بالرغم من الحضارة الحديثة التي نعيشها، لازلنا نتربع على عرش المجتمعات التي تعشق العنف والإجرام.

هل يولد الإنسان مسالما، كما يعتقد بعض الناس؟ أم تولد معنا دوافع غريزية لا حيلة لنا فيها؟ دوافع عدوانية غير سوية نرثها أبا عن جد. تدفعنا إلى قتل أنفسنا أو قتل بعضنا البعض. أو تعذيب رفاقنا فى السجون والمعتقلات. وتجعل الحكام يحتكرون السلطة والثروة. والدول القوية تشن الحروب على الدول الضعيفة لنهب ثرواتها وقتل نسائها وأطفالها.

سيجموند فرويد يجد صعوبة فى تفسير مذابح الحرب العالمية الأولى. لذلك هو يفترض وجود غريزة الرغبة فى الموت داخل عقل الإنسان. بسبب قيام الحرب العالمية الثانية، وضرب اليابان بالقنابل الذرية، يعتقد كلا من “كونارد كورنز” و”روبرت آردرى”، أن الإنسان ينحدر من سلالة قاتلة من القرود، تعشق العنف.

بينما هناك آخرون يختلفون فى هذا الرأي. لا يعتقدون أن العنف فى الإنسان شيء غريزي، إنما هو شيء مكتسب. فمثلا جان جاك روسو، يعارض بشدة، ويقول: إن الإنسان طيب وخير بالمولد. لكن فساده يأتي من المجتمع الذي يعيش فيه.

في أنفسنا .. جانب مظلم يعشق العنف   في أنفسنا .. جانب مظلم يعشق العنف
  في أنفسنا .. جانب مظلم يعشق العنف  
في أنفسنا .. جانب مظلم يعشق العنف   في أنفسنا .. جانب مظلم يعشق العنف

نحن نولد بطبيعتنا أبرياء عطوفين شرفاء لا نعرف الكذب. لكن بغبائنا والتربية الخاطئة والحكومات الفاسدة، نخلق الجحيم على الأرض. أما الآخرون مثل “برندت” و”ميد” و”واتسن” و”سكنر”، فيقولون إن الإنسان يولد على الفطرة. لاهو شرير ولا هو طيب. كما تشكله يتشكل.

بالنسبة لباقي المخلوقات التي تعيش فى جماعات، الحيوان الأكثر شراسة وعدوانية داخل المجموعة، هو أكثرهم وصولا للطعام، وأنجحهم فى الاستئثار بالإناث والإنجاب. لكن فى عصرنا هذا عصر التكنولوجيا والضغط على الزراير، فرصة الإنسان المسالم والمرأة الضعيفة لا تقل فى النجاح عن الإنسان العدواني.

العلم والمعرفة فى هذا العصر، أهم من القوة الغاشمة. بالرغم من أن النساء لازلن تفضلن الرجل القوي، عريض المنكبين، على الرجل الذكي المثقف. هذا يتضح من هيام المرأة غير الناضجة بأبطال كرة القدم وضباط الجيش والشرطة.

القوة الغاشمة والتهديد باستخدام العنف وإثارة الخوف بين أفراد المجتمع، تعطي المعتدي بعض المزايا. تجعله ينفرد بالولائم والمغانم والثروات والإناث. هذا ما تفعله بالضبط الحكومات والسياسيون. فلكسب التأييد الشعبي، يلجأ الحكام إلى أسلوب التخويف والتحذير من خطر ما.

الإرهاب مثلا كما كان الحال بالنسبة للمحافظين الجدد فى الولايات المتحدة الأميركية. التخويف من خطر سيطرة الإسلاميين على الحكم، كما هو الحال عندنا، يدفع المواطنين إلى للتفاف حول الحكومة طلبا للحماية.

أُلقيت كمية كبيرة من الموز إلى مجموعة من القرود، تعيش فى مكان منعزل. جاء كبيرهم، القرد القوي المفتري، واستأثر بالكمية كلها. هذا ما فعله عيدي أمين سابقا بالثروة فى أوغندا. وما يفعله الحكام في بلادنا بثروة شعوبنا.

لكن كمية الموز كانت كبيرة، لا يقدر قرد واحد على حمايتها بمفرده. فجاء قرد ثاني وغافله، ثم اختطف صباع موز وفر هاربا. عندما رآه يجري وفي يده شيء أصفر، ترك ما لديه وطمع فى صباع الموز المسروق وجرى خلفه.

حينئذ، وجد قرد ثالث كومة الموز بدون حراسة، فانقض عليها كالصاعقة، يحاول أن يحمل ما يستطيع حمله بسرعة قبل أن يحضر القرد المفتري. مسك بكل يد كمية من الموز، ووضع بعضها فى فمه وتحت إبطيه وجرى بما حمل وهو ينظر خلفه.

حينما أدركه القرد المسيطر، وهو يصرخ ويزمجر غاضبا، حرر اللص إحدى يديه، وربت على رأس القرد المفتري ولسان حاله يقول: لم الغضب. اهدأ فلديك كمية كبيرة تكفيك، لا تستطيع أن تأكلها كلها وحدك. لكن المفتري لم يقتنع، وهجم عليه وهو يصرخ ويكشر عن أنيابه. مما أجبره على ترك ما حمل ولاذ بالفرار.

هناك نوعان من استخدام العنف عند الحيوانات التي تعيش فى مجتمعات. النوع الأول، هو عنف يقوم بين مجتمع وآخر. حروب وأسر وسبي واستيلاء ودفاع عن أوطان وممتلكات وخلافه. النوع الثاني يكون بين أفراد المجتمع الواحد، لتحديد الترتيب الإجتماعي للأفراد. كل واحد لازم يعرف حدوده. إنت عارف بتكلم مين.

إذا وضعت مجموعة من الفراريج فى حيز ضيق. فإنها تقوم على الفور بالهجوم على بعضها البعض، بالنقر ونتف الريش وفقع الأعين وإسالة الدماء فى معركة حامية الوطيس. يستمر الحال على هذا المنوال حتى يتحدد المركز الاجتماعي المناسب لكل فروج. أو بالبلدي المريح، كل واحد يعرف مقامه، وأنت عارف بتكلم مين؟

فنجد فى نهاية المعركة، الفروج المفتري صاحب السلطة المطلقة. قد يكون أقرعا أو أعورا، لكنه يستطيع نقر كل الفراريج، ولا يستطيع أن يقترب منه فروج آخر. يليه الفروج الثاني فى سلم السلطة، وهو الفروج الذي يمكنه نقر باقي الدجاج فيما عدا الفروج الأول. وهكذا إلى أن نصل إلى الفروج المسكين، الذي تقوم كل الدواجن بنقره، دون أن يكون فى مقدوره نقر أحد.

المثل الشعبى يقول: “ما يقعد على القور إلّا الفرخ الأعور”. العور هنا لا يعني الضعف والعجز، إنما يرمز للقوة والجبروت، ودلالة على خوض الحروب الطاحنة فى سبيل السلطة، مثل موشى ديان.

هذه المعركة ضرورية لاستقرار الأمن الاجتماعي بين الدواجن، متى عرف كل منهم وضعه المناسب بين الرفاق. فالدواجن لا تعرف الديموقراطية، وليس لديها ميثاق اجتماعي وحقوق دواجن شبيهة بحقوق الإنسان. لكن الإنسان المتحضر، وجد بديلا لنظام نقر الدواجن هذا، وأطلق عليه اسم الديموقراطية.

 

فهل يختلف نظام الحكم فى بلادنا كثيرا عن نظام نقر الدواجن؟ وهل نحن إلا ناقر أو منقور. وهل الفرخ المسكين الذي يُضرب من الجميع، يختلف كثيرا عن الشعب المسكين الواقف فى طوابير العيش؟ ومتى نرتقي في سلم التطور إلى شيء أفضل، ونحكم بنظام لا يشبه نقر الدواجن؟

هذا القانون يسري بين الحيوانات الأخرى التي تعيش فى جماعات. فالأبقار والكباش والماعز، عندما توضع مع بعضها البعض، يحدث لها نفس الشيء. ويحدث أيضا بالنسبة للإنسان إذا لم يقيد بالحضارة والقوانين.