لم أصدق أنّ ذلك الهجوم على أوكرانيا سيحصل فعلاً مع أنّني كنت أشعر ببعض الإشارات، أحسست بأنّ الهجوم يمكن أن يحصل في 24 فبراير. في تلك الليلة، اسيقظت عند منتصف الليل – أحياناً يصيبني القلق – اتطلعت على الأخبار فلم يكن هناك أيّ جديد، عدت إلى السرير ونمت لبضعة ساعات ثمّ اسيقظت واتطلعت على الأخبار أيضاً، حينها بدأت أقرأ أخبارأً عاجلة تعلن بدء الهجوم على أوكرانيا.. هنا أصابتني الصعقة.

بعد ذلك بقليل اتصلت بي وسيلة إعلام سويدية، أعتقد أنّ الساعة كانت الخامسة أو الخامسة والنصف صباحاً، وبعد دقائق سمعت صوت الصافرة التي تنذر بحصول غارة جوية، وهنا أخطأت حين توجهت نحو النافذة وفتحتها لأرى ما الذي يحدث في الخارج… اليوم الأوّل كان غريباً للغاية.

مع انبلاج الصباح، خرجت كي أشتري بعض المواد الغذائية، كان الوضع شبه طبيعياً في البداية، لكن الناس كانوا قلقين بعض الشيء. بينما كنت أسير في الشارع، سمعت صوت طائرة تحلّق على علوٍّ منخفض، حينها بدأت أعي أنّ أمراً ما يحدث، وأنّ الأيّام التالية كانت صعبة جدّاً ومليئة بالمشاعر.

ليلة 24 فبراير المرعبة في أوكرانيا.. "لن أنسى وجه تلك الفتاة على الأرض ميتةً"

 

لم أشعر حينها بالخوف، لكن يمكن القول إنّني كنت قلقاً.. كان القتال يدور بالقرب من المطار وعلى الطريق السريع في الغرب باتجاه وسط العاصمة كييف. حاولت قوات الروسية التقدم لكنّها فشلت، ورغم ذلك فقد قطعت مسافة بعيدة جدّاً، فهي وصلت تقريباً إلى سيرك كييف، ثمّ بعد بضعة أيّام كان واضحاً أنّ الوضع صعب وقد حقق الروس تقدّماً في جنوب أوكرانيا. بعد ذلك بأسبوع تقريباً كانت القوات الروسية تتقدم ببطء، طبعاً كانت قواتهم تتقدم لكنّها لم تنجح في تحقيق أهدافها لناحية التقدم باتجاه المدن الموجودة على الخطوط الأمامية مثل خاركييف وطبعاً ماريوبول وغيرهما.

في الحقيقة، هذا هو الوضع منذ ذلك التاريخ. طبعاً كانت هناك تلك القافلة الضخمة شمال غرب كييف، لكنّها لم تتمكن من التقدّم وقد حاولت روسيا التقدّم من ناحية تشينيف للوصول إلى كييف ومن تسومي وحتى من خاركييف، كل تلك التحركات لم تنجح، وحتى القوات الروسية اضطرّت إلى الإنسحاب من تشينيف وتسومي بسبب نقص المؤن، وشمال غرب كييف أعتقد أنّهم كانوا يعانون من نقص في المخزون.

أعتقد أنّه كلّما واجهت روسيا العقبات في حربها على أوكرانيا كلّما زادت وحشية أعمالها

إنّ ما حصل في ماريوبول محزن جدّاً، فعدد الضحايا كان كبيراً جدّاً، وتلك هي الحال في تشينيف وتسومي وخاركييف وغيرها من المدن، وفي دونبسك دمّر العديد من المنازل. روسيا بدأت تقوم بأعمال وحشية منذ البداية  كنهب المتاجر أوّلاً، ومن ثمّ قتل المدنيين بالصواريخ وكلّما واجهت روسيا العقبات كلّما زادت وحشية أعمالها.

في الأيّام الأولى لذلك الهجوم كنّا حذرين جدّاً، وقد حظرت السلطات الأوكرانية التجوال في الليل والنهار. بعد ذلك بدأت المتاجر تشهد زحمة كبيرة لشراء المواد الغذائية، بقيت تلك المتاجر مفتوحة لكنّ كميات المواد فيها كانت محدودة، على سبيل المثال، فقد انقطع الخبز، ومنتجات الألبان مفقودة حتى الآن.

أيضاً المدارس المحلية  تحوّلت إلى مراكز للتطوّع، ورأيت المتطوعين يقفون في صفوف طويلة لتقديم المساعدة للمتضررين أو الهاربين من القصف الروسي. كل شيء اختلف تماماً، انقلب رأساً على عقب، فيوم أمس مثلاً، كنت أسير في الشارع وفجأة ساد الهدوء في المنطقة، من الممكن أن ترى رجلاً مع كلبه في الشارع، أو تقابل أشخاصاً عندما تذهب إلى المتجر، لكن بخلاف ذلك ليس هناك الكثير من الحركة.

تركت وزوجتي منزلنا كوننا نسكن في بناية في أحد الطوابق العلوية، نقيم اليوم مع والدة زوجتي لأنّ شقتها في الطوابق السفلى، وذلك المكان أكثر أماناً. المبنى حيث كنّا نسكن هو الوحيد الذي ما زال على حاله في المنطقة، نعتقد أنّه سيتعرض للقصف قريباً. بالأمس وبينما كنت أسير في الشارع، رأيت الجنود يزيدون التحصينات، وقد لاحظت أنّ نوعية تلك التحصينات اختلفت عن ذي قبل.

لا يمكن أن أنسى وجه تلك الفتاة إبنة الـ8 سنوات ملقاة على الأرض ميتةً

من الواضح أنّهم تدرّبوا أكثر خلال الأسابيع الفائتة، كما زاد عدد أسلحتهم وأصبحوا مجهّزين بشكل أفضل، لكن في المقلب الآخر مثلاً، رأيت سوقاً في الشارع وتلك إشارة جيّدة، فعادة تكون هناك أسواق مشابهة في عدة أحياء، لكنّها توقفت منذ بدء الإجتياح، كذلك رأيت أولاداً يلعبون في الملعب، أعتقد أنّ ذلك ليس فقط نتيجة لآداء أوكرانيا الجيّد في الحرب، بل أيضاً نتيجة لتقبّل الناس للواقع وقرارهم متابعة حياتهم بالرغم من سماع أصوات القصف بشكل يومي. أحياناً يستمر القصف لأكثر من ساعة، ونحن نسمع المدافع وحتّى صوت الرشاشات عندما تهدأ الغارات.

من أكثر ما شاهدته وأثّر بي جدّاً، أذكر وجه أوّل فتاة ميتة رأيتها، كانت في الثامنة من عمرها تقريباً، أتذكّر وجهها ولا يمكنني أن أنساه. طبعاً أتذكّر مشهد النساء اللواتي أخرجن من عيادة الولادة في ماريوبول، ورأيت فيديو مزعجاً جدّاً لرجل على الطريق السريع الذي يوصل إلى الغرب، وقد ترجّل من سيارته ورفع يديه في الهواء ثمّ أطلق الجنود الروس عليه النار. هكذا مشاهد لن تنسى طبعاًولن تُمحى من الذاكرة.

ليلة 24 فبراير المرعبة في أوكرانيا.. "لن أنسى وجه تلك الفتاة على الأرض ميتةً"

“ربّما الصين كانت تعرف عن عملية روسية استراتيجية محدودة”

أعتقد أنّ القيادة الصينية ربّما لم تكن تعلم بمخطط روسيا “الغبي”، ربّما كانوا يعرفون عن عملية استراتيجية محدودة ولم يكن لديهم فكرة عن كلّ ما يحصل الآن، عن مخطط الحرب ككل. أعتقد أنّ القيادة الصينية ستفكر بذلك عندما تتعامل مع روسيا، وموقف الصين ليس واضحاً بعد، فنحن لا نعلم ما إذا كانت ستدعم روسيا أم لا، فهل ستقف إلى جانب حليفتها روسيا أم ستحمي اقتصادها، ومن المحتمل أن تفرض الولايات المتحدة عقوبات على الصين إذا ما دعمت روسيا، لكنّ الصين والولايات المتحدة يقللون من قدر أوروبا، والولايات المتحدة ليس لها تأثير كبير على الإتحاد الأوروبي كما يعتقد البعض، فواشنطن لا تتحكم بأوروبا كما أنّ أوروبا لديها الإقتصاد الأقوى في العالم، والإتحاد الأوروبي يتصرّف كدولة واحدة عندما يتعلق الأمر بالإقتصاد، التجارة تديرها بروكسل وهو الأمر الوحيد الذي تديره بروكسل. إذاً أوروبا لها كيان خاص بها، والتحالف بينها وبين الولايات المتحدة أصبح أقوى الآن بسبب هجوم روسيا على أوكرانيا، وبالتالي هذين الإثنان معاً يمثلان القوّة الرائدة المطلقة في العالم والصين لا يمكن أن تقف بوجههما.

في الختام أقول لكم إنّ الحرب هي وضع أبيض وأسود مقارنة بغيرها من الأمور، يضطر الكثيرون إلى اتخاذ موقف من الصعب القول إنّني محايد، كيف يمكنك أن تكون محايداً عندما ترى الأولاد والمدنيين يقتلون، الأولاد الأبرياء يقتلون على يد الجيش، فذلك الوضع إمّا أبيض إمّا أسود.

“ربّما ستتعامل الصين مع روسيا بشكل مختلف لاحقاً”

العديد من الدول اضطرت إلى أن تأخذ موقفاً، وكذلك الشركات اتخذت موقفاً ضدّ روسيا مع أنّ العديد منهم كانوا جبناء، لذا أظن أنّ العالم سيكون مضطراً أن يأخذ موقفاً إمّا مع روسيا إمّا ضدها، سيكون من الصعب جدّاً البقاء على الحياد وأعتقد أن مع خسارة روسيا، أعني أنّ روسيا قد خسرت بالفعل، وذلك واضح في هذه المرحلة منذ نحو الأسبوع كان واضحاً أنّ روسيا خسرت، روسيا لا تزال في أوكرانيا وما زال لديها الجيش، لكنها لم تنجح في تحقيق مبتغاها وهو الإستيلاء على كييف وتغيير الحكومة الأوكرانية.

إذاً روسيا لم تتمكن من تحقيق هدفها الأساسي، وعلى الأرجح لن تتمكن من ذلك، إذاً هي خسرت وبعض البلدان تعيد حساباتها، فهي لا تريد أن تتحالف مع خاسر لذا أعتقد أنّه سيكون من الصعب على روسيا أن تحافظ على تحالفاتها، وأعتقد أنّ الصين لن تقدم الدعم لروسيا لأنّها أيضاً لا تريد أن تتحمل ذلك العبء، ربّما ستتعامل مع روسيا بشكل مختلف عندما تصبح روسيا ضعيفة وتحاول أن تسيطر عليها.

شاهدوا أيضاً: التسجيل الأخير يوثق اللحظات الأولى للهجوم الروسي على أوكرانيا