الميليشيات في العراق إرث من الانتهاكات

تنتشر الجماعات المسلحة في الدول والمناطق التي يغيب فيها سلطة القانون والدولة، عن طريق استغلال الفراغ الأمني والإداري، والعمل على تشكيل هياكل أمنية وإقتصادية ترتبط بصورة مباشرة مع القيادات العليا والبارزة للميليشيات والفصائل المسلحة، وفي العراق ونتيجة لانهيار الدولة وإلغاء الأجهزة الأمنية والعسكرية عام 2003، شهدت البلاد ظهور وبروز العديد من الجماعات المسلحة التي وجدت البيئة المناسبة للعمل والنشاط واستغلت ضعف المؤسسات الرسمية للدولة وشكلت مناطق نفوذ خاصة لممارسة النشاطات العسكرية والأمنية وإدارة المصالح الإقتصادية عن طريق ابتزاز رجال الأعمال وتهديد المحلات وفرض الأتاوة لضمان مورد مالي مستمر للجماعة.
وقد عملت هذه الميليشيات وبصورة ممنهجة ودعم إيراني مستمر على بناء منظومة متكاملة في محاولة لتكرار نموذج الحرس الثوري الإيراني داخل العراق، حيث حرصت على إبقاء المؤسسات العسكرية والأمنية للدولة في حالة ضعف والعمل على ضرب العديد من نقاط الجيش العراقي لتشويه سمعة القوات العراقية الرسمية وإظهارها بمظهر ضعيف وتبرير تواجد وانتشار الميليشيات بحجة حماية هذه المناطق والقدرة على حماية الأهالي لتأمين نفوذها وضمان تحقيق المصالح الإيرانية داخل العراق.

تاريخ الانتهاكات والتجاوزات الحقوقية

تنص المادة التاسعة من الدستور العراقي الدائم للعام 2005 على حظر تكوين الميليشيات العسكرية خارج إطار القوات المسلحة، وعلى الرغم من النص الدستوري الواضح إلا أن السلطات العراقية لم تفشل في إيقاف الميليشيات العراقية التي تأسست قبل عام 2003 فقط، بل عجزت عن الحيلولة دون تأسيس المزيد من الميليشيات التي وصلت أعدادها إلى أكثر من 60 ميليشيا وفصيل مسلح تعمل خارج إطار الدولة العراقية وتساهم في تقويض المؤسسات الرسمية، إضافة إلى إرتكاب العشرات والمئات من الانتهاكات والتجاوزات الحقوقية والقانونية بحق العراقيين في أغلب المدن العراقية.

الميليشيات في العراق إرث من الانتهاكات
تورطت الميليشيات العراقية الموالية لإيران بالكثير من الانتهاكات الحقوقية وارتبط اسمها بالكثير من التجاوزات والجرائم الانسانية، حيث بدأت هذه الفصائل باستهداف الكوادر والنخب العراقية من الأطباء والعلماء والشخصيات المعروفة والمرموقة في المجتمع، وأدى هذه السياسات إلى تحويل البيئة العراقية إلى بيئة طاردة للعقول وبدأت موجات هجرة العقول العراقية إلى الخارج خوفاً من إنتقام الميليشيات والتي كانت خطوات ممنهجة لتعبيد الطريق أمام المنظومة الجديدة وعرقلة نشوء أي مشروع وطني قد يُعرقل المشاريع الطائفية مستقبلاً.

الميليشيات في العراق.. إرث من الانتهاكات
كما لعبت الميليشيات الموالية لإيران دوراً فاعلاً في تغذية الحرب الطائفية إلى جانب الجماعات الإرهابية الأخرى، حيث مارست هذه الميليشيات عمليات خطف وتعذيب واغتيالات علنية في العاصمة العراقية بغداد، إضافة إلى عمليات التغيير الديمغرافي الذي شملت مناطق في محافظة صلاح الدين وديالى، وتدمير العديد من المنازل والقرى في محافظة الأنبار بشهادة المنظمات الحقوقية الداخلية والخارجية التي وثقت هذه الانتهاكات وخاصة أثناء العمليات ضد تنظيم داعش الإرهابي عام 2016، حيث تهدف الميليشيات إلى تغيير بنية هذه المناطق لتأسيس نفوذ مستقبلي وعسكرة المنطقة بصورة مدروسة، دون التفكير في التداعيات السلبية على الأمن والإستقرار والتسبب في زرع الألغام التي سوف تنفجر لاحقاً عندما تتراكم المظلوميات ويغيب القانون.

ملف المغيبين أبرز محطات مسيرة الانتهاكات

 

بحسب التقارير الحقوقية فإن ميليشيات “فيلق بدر ولواء علي الأكبر وعصائب أهل الحق وكتائب حزب الله والخراساني و جند الإمام” وغيرها من الفصائل المنضوية تحت غطاء الحشد الشعبي شاركت في عمليات التغييب القسري وخطف آلاف المواطنين الأبرياء خلال وبعد الحرب على تنظيم داعش الإرهابي، حيث عملت هذه الميليشيات على إستغلال الحرب على الإرهاب لتنفيذ عمليات تصفية ممنهجة وانتقام جماعي وجرائم ضد الإنسانية بحق المواطنين العراقيين، وحاولت تبرير هذه الجرائم وشرعنة التجاوزات القانونية بحجة المعركة ضد الإرهاب، وقد وضعت الميليشيات نقاط تفتيش ومراكز لإستقبال الهاربين من تنظيم داعش ثم اقتيادهم إلى أماكن مجهولة دون معرفة مصيرهم حتى اليوم.
وبعد أكثر من خمسة سنوات على إعلان الإنتصار على الإرهاب، يتم الحديث اليوم عن تحول المغيبين إلى مغدورين، ويتحول آلاف المواطنين إلى مجرد أرقام فقدوا خلال المعارك، ليُضاف هذه الجريمة إلى قائمة الجرائم والانتهاكات التي سُجلت ضد الميليشيات والفصائل المسلحة، والتي نجحت في الإفلات من العقاب في ظل حكومات عراقية عاجزة عن فرض القانون والسيادة وتحقيق هيبة الدولة وتفعيل المحاسبة بصورة فاعلة لمعاقبة الجُناة ووضع حد للانتهاكات المستمرة وخاصة في المناطق التي تخضع للجماعات المسلحة التي تعمل خارج إطار الدولة.

الميليشيات في العراق إرث من الانتهاكات
لا يقتصر ملف المغيبين على المدنيين الذين اختطفوا أثناء عمليات التحرير في سنوات 2014 وحتى 2017، بل يشمل العشرات من الناشطين العراقيين الذين تم اختطافهم من قبل الجماعات المسلحة أثناء تظاهرات تشرين عام 2019، وعجزت السلطات الرسمية حتى الآن عن تقديم معلومات دقيقة حول مصيرهم أو أماكن تواجدهم، نظراً لخشية الأطراف السياسية التي تُدير الحكومة من الإقتراب من هذا الملف أو الاستجابة لمطالب الأهالي والمنظمات الحقوقية المحلية والدولية، حيث عملت الميليشيات على حماية نفسها بحصانة دينية عن طريق فتوى المرجع السيستاني، وحصانة قانونية عن طريق القانون الذي أقره البرلمان العراقي في عام 2016 والذي إعترف بالحشد الشعبي ككيان رسمي وجزء من القوات الرسمية العراقية، كما عمل قيادات الحشد الشعبي على إعطاء الميليشيات هالة من القدسية والاستفادة من فتاوى رجال الدين المقربين من الفصائل المسلحة لتقديس هذه الجماعات وربط مصير المكون الشيعي داخل العراق ببقاء هذه الجماعات المسلحة، في محاولة للحفاظ على الحاضنة الشعبية واستغلال الأحكام الدينية لتقوية الميليشيات وزيادة نفوذها داخل المجتمع العراقي.

تقوية الدولة مفتاح لإيقاف الانتهاكات

 

تمتلك الميليشيات تاريخاً حافلاً بالانتهاكات والتجاوزات على حقوق الإنسان منذ أكثر من 20 عام، ونظراً لغياب أدوات المحاسبة فإن قائمة هذه الانتهاكات في زيادة مستمرة وتصاعد واضح، ما يرفع من مخاوف العراقيين من مستقبل بلادهم في ظل غياب واضح لملامح الدولة وعجز المؤسسات الرسمية على الاستجابة لمطالب ملايين العراقيين الذين يشعرون بغياب الأمن ويُحذرون من مخاطر هذه الجماعات والفصائل المسلحة التي تُعتبر ادوات ضمن مشروع أيديولوجي إيراني عابر للحدود تتخذ من العراق محطة لزيادة مواردها المالية وتضخم نفوذها للانطلاق إلى باقي دول المنطقة وتشكيل مخاطر على الأمن الإقليمي.

تقوية الدولة العراقية وإعادة الهيبة للمؤسسات الأمنية والعسكرية الرسمية وتجفيف منابع إيرادات الفصائل المسلحة يُعد المفتاح الرئيسي لحماية العراقيين وصيانة حقوقهم وإيقاف الإنتهاكات المستمرة التي تلحق أضراراً جسيمة بسمعة العراق على المستوى الخارجي، وخاصة أنه يمنح صورة سلبية حول عجز الحكومة العراقية عن حماية العراقيين من ميليشيات موالية لإيران فرضت نفسها على العراقيين وتعمل على إدامة وجودها.
على السلطات العراقية وبمساعدة من الأطراف الدولية العمل على إعادة ترميم وبناء الثقة بين المواطنين وبين الدولة العراقية، عن طريق اتخاذ مجموعة من القرارات الشجاعة لإنهاء ظاهرة السلاح المنفلت و الإفلات من العقاب وإيقاف الانتهاكات الحقوقية المستمرة التي تُمارسها الميليشيات المسلحة والتي سيكون لها تداعيات سلبية خلال السنوات القادمة إذا لم يُقدم معالجات حقيقية لمواجهة الفواعل العنيفة من غير الدول والتي أصبحت ورماً سرطانياً داخل الجسد العراقي.