كان حادث البوعزيزي في تونس شرارة اطلقت الانتفاضة التونسية التي أسقطت النظام فهل تكون مهاسا أميني التي توفيت عند الشرطة الدينية في إيران الشرارة التي تطلق انتفاضة إيرانية تسقط الجمهورية الإسلامية؟
ومثلما أن انتفاضة تونس لم تنطلق انتقاما للبوعزيزي فقط بل كانت هناك تراكمات سابقة كذلك الأمر في إيران. فالانتفاضة الحالية لم تشتعل فقط لأجل الفتاة أميني لكن أسبابا كثيرة لدى الإيرانيين تدفعهم للغضب والاحتجاج.
وفاة هذه الفتاة وبتلك الطريقة ولتلك الأسباب جعلت كل إيراني يرى فيها ابنته واخته وصديقته وزوجته وقريبته فهب ثأرا لروحها. فقد أثارت صورتها في المستشفى حفيظة الشباب الإيراني الذي انفجر في ثورة عفوية سرعان ما امتد صداها إلى أكثر من مئة مدينة في محافظات البلاد.
اعتقلت تلك الفتاة من قبل عناصر الشرطة الدينية الإيرانية بتهمة عدم وضع الحجاب بطريقة صحيحة وتعرضت للضرب على رأسها كما بينت الصورة الطبقية التي نشرتها وسائل إعلام المعارضة في الخارج وهذا أدى إلى إصابتها بالغيبوبة ثم الوفاة اثر نزيف داخلي.
ومع أن حكومته متعثرة ومضطربة وغير قادرة على ممارسة أولويات الحكم بالشكل الصحيح لجأ الرئيس الإيراني إلى التشدد في ضبط لبس الحجاب في الشارع وأصدر أوامره للشرطة الدينية لتطبيق هذه الأوامر وكأن كل شؤون الدولة أصبحت في حال مثالية ولم يبق سوى ضبط الحجاب الشرعي.
لا يزال الإيرانيون يعانون من مشكلات عديدة لم تستطع لا حكومة الرئيس السابق ولا الرئيس الحالي من حلها. وقد سبق للإيرانيين أن احتجوا وتظاهروا لأجل مشكلات نقص المياه والجفاف وارتفاع الأسعار والتضخم والانهيار القياسي للعملة الإيرانية وهذا كله يجعل حياتهم حالة من الضنك والفقر تدفع
على الدوام للاحتجاج والثورة على السلطات الحاكمة التي تواصل تجاهل مصالح هؤلاء الناس.
في كل مرة كان الإيرانيون ينتفضون كان العالم يعتقد أن تلك الانتفاضة قد تتحول إلى ثورة لكن القمع القاسي الذي يقوم به الحرس الثوري والبطش الذي يستخدمه وسقوط العدد الكبير من الضحايا كان يحبط تلك الاحتجاجات.
لكن النزول إلى الشوارع هذه المرة كان غير مسبوق وتمزيق صور الخميني وخامنئي والهتاف بسقوط المرشد الذي وصفوه بالدكتاتور يدل على أن الغضب الشعبي قد وصل حدا لا يطاق.
امتدت الاحتجاجات وتوسعت بعد أن اشتعلت السوشال ميديا بأخبار التظاهرات في العاصمة. البداية كانت ضد أسلوب الشرطة الدينية في التعامل مع المخالفين لطريقة اللباس الشرعي ثم تحولت إلى للمطالبة بالحقوق السياسية والمدنية والخدمات والعيش الكريم التي يشعر الإيرانيون انهم محرومون منها.
في المرات السابقة ربما كانت أغلبية المشاركين في الاحتجاجات من الفقراء والمعدمين الذين ليس لديهم ما يخسرونه أما هذه المرة فالمحتجون والمنتفضون من الطبقة الوسطة والطبقة العاملة وطلبة الجامعات وفي هذا مؤشرات عديدة على الحال الذي وصلت إليه إيران.
وأغلبيتهم من الجيل الجديد الذي نشأ على الإنترنت ووسائل التواصل الاجتماعي ولا يعرف الملالي كيف يتعاملون معهم.
في هذه الاحتجاجات كانت هناك أغلبية ظاهرة من النساء أكثر بكثير من كل المرات السابقة. ففي هذه المرة شعرت النساء بالاستفزاز جراء ما تعرضت له مهاسا أميني فكان الرد بالمشاركة الكثيفة وخلع الحجاب وحرقه تعبيرا عن رفض أسلوب النظام في فرضه وتضامنا مع الضحية الأولى التي
أشعلت هذه الاحتجاجات.
كان غريبا في هذه الاحتجاجات عدم تدخل الحرس الثوري منذ اليوم الأول لقمعها وترك الأمر للشرطة والدرك مع أن هؤلاء كانوا قساة في التعامل مع المحتجين وأدت المواجهات العنيفة إلى مقتل مئة وأربعين شخصا على الأقل وإصابة المئات. عدم اشتراك الحرس الثوري كان سببه أن السلطات لم
ترغب بإحراج الرئيس الإيراني أثناء وجوده في الأمم المتحدة وقد تزامن خطابه مع هذه الاحتجاجات.
وقد تجاهل خطاب الرئيس كل ما كان يجري في بلاده من انتفاضة ومواجهات مركزا حديثه على الصراع مع الغرب والاتفاق النووي. وكان أمرا مستهجنا أن يدعي الرئيس في خطابه على منبر الأمم المتحدة أنه مدافع عن الحريات ومقاتل ضد الظلم وهو الرئيس الذي يحجب الحريات عن شعبه ويمنع عنهم العدالة.
وقد ظهرت بوادر عديدة على أن السلطات تحضر للانقضاض على المحتجين. وكالعادة قامت السلطات بقطع الإنترنت والتضييق على مستخدمي التطبيقات لمنع التواصل بين المشاركين في الاحتجاجات.
يوم الجمعة الماضي حركت السلطات مئات الألوف بعد صلاة الجمعة للقيام بمسيرات مؤيدة للنظام والمرشد ومنددة بمن وصفوهم بالمشاغبين. كذلك أصدر رئيس الأركان الإيراني تحذيرا للمحتجين واتهمهم بالتعدي على المساجد وتدنيس القرآن الكريم. وقبل ذلك أصدر الحرس الثوري بيانا ووصف فيه ما يجري بأنه مؤامرة مبيتة من الأعداء. كل تلك الإجراءات تشكل إرهاصات تؤشر لما يمكن أن تقوم به السلطات الإيرانية بحق المعارضة والمحتجين إذا ما اعتبرنا أن تلك المسيرات الحاشدة بعد صلاة الجمعة سيتم احتسابها تفويضا شعبيا للحرس الثوري والجيش للبطش بالمحتجين والمتظاهرين الذين وصفوا في البيان بأنهم أعداء وبالتالي ستتم مواجهتهم بهذه الصفة.
أما تعامل الإعلام الإيراني مع الاحتجاجات فكان بطريقة انتقائية. ومع أنه تجاهلها في أول أيامها لكنه عاد ليتحدث عنها بصفتها أعمال شغب وتخريب. وحاول الإعلام الإيراني الرسمي استمالة الناس البسطاء وتعبئتهم ضد المحتجين عندما وصف انتفاضتهم بأنها هجمة معادية للدين وللإسلام موجهة من الخارج ويتم التحكم بها من قبل أعداء الجمهورية الإسلامية.
وعندما يسمي الإعلام الإيراني الرسمي ما يجري من انتفاضة بأنه أعمال شغب ويلصق بها تهمة معاداة الدين فهو بذلك لا يختلف عن إعلام باقي الدكتاتوريات الذي يستسهل اتهام المحتجين بالارتباط بالخارج وتلقي الدعم من الأعداء لتقويض إنجازات الدولة وكسر إرادة صمودها. كما تم وصف الاحتجاج بأنه شغب وتحريض ضد الجمهورية الإسلامية بسبب مواقفها الصلبة المتمسكة بالحقوق ودفعها للقيام بتنازلات.
لا شك أن الدول ذات الحكم الشمولي تعمل على الدوام على شيطنة المعارضة مهما كان حجمها وتصفها بالمعادية والمسيئة لرمزية الدين والعاملة على نقل المجتمع نحو الانحلال وإفراغ الدولة من هويتها الإسلامية متجاهلا الأسباب الحقيقية التي تدفع الناس للخروج إلى الشارع والاحتجاج بكل جرأة على نظام الحكم الذي لا يعمل لمصلحة شعبه وإنما لمصلحة بقائه في السلطة ومنفعة رجاله وأنصاره.
قد لا تتطور هذه الانتفاضة لتصبح ثورة عامة تسقط النظام لكنها تظل محاولة جريئة لا بد أن تتبعها محالات أخرى. لكن تبقى مشكلة المعارضة الإيرانية في الداخل أنه ليس لديها قيادة متماسكة محددة الأهداف والرؤيا تعمل وفق برنامج واضح المعالم. لذلك تبقى أي انتفاضة محدودة في المكان والزمان ولا تؤدي إلى نتائج ملموسة أو إلى تغييرات حاسمة.
فهل يكون الأمر مختلفا هذه المرة؟