الصقيع وفقدان الغذاء

مرّت الأنواع البشرية على الأرض، منذ سبعة ملايين سنة الى عصر هيمنة الإنسان العاقل المعروف بـ Homo Sapiens على الأرض قبل 40 ألف سنة، بأطوار ودوران عديدة، ولا يزال علماء الآثار والأنثروبولوجيا والمناخ، في طور البحث والاستكشاف لمعرفة المزيد عن دورة البشرية Human cycle ومسارات تقدمها. 

نظراً لأن إنسان نياندرتال هو أقرب الأنواع البشرية إلينا، حيث تشير الأبحاث الأنثروبولوجية وعلوم الآثار الى ان ما يقدر 1٪-4٪ من سكان أوروبا وآسيا يحلون جيناته، فإنه حضي بقدر أكبر من الدراسات والأبحاث. ولا يزال العلماء يسألون لماذا اختفى مجتمع نياندرتال فجأة؟

هل قضت عليهم تغيرات المناخ العنيفة، خاصة انهم عاشوا في العصر الجليدي الأخير منذ حوالي 110,000 إلى 10,000 عام، أو أبادهم الإنسان الحديث، أو انصهروا وذابت ذريتهم في مجتمع هومو سابيانز؟

يعزو العلماء السبب الأول للانقراض إلى التأثير المناخي للعصر الجليدي الأخير، عندما كانت التغيرات سريعة وعنيفة، من الحر إلى شديد البرودة، وكذلك من البرد الى الحرّ الشديد، ما شكل ضغوط كبيرة على مصادر غذائهم، مثل النباتات والحيوانات.

كان على إنسان نياندرتال التكيف بسرعة مع المناخ وغالباً لم يقدر على ذلك. السبب الثاني بحسب الدراسات والاكتشافات هو قلة أعدادهم التي لم تبلغ عشرات الآلاف، وكانوا يعيشون غالباً ضمن مجموعات مكونة من 15 شخصاً. وقد أدى ذلك إلى حصول انخفاض في التكاثر والبقاء على قيد الحياة، بينما كان الانسان الحديث يغلب عليهم سكانياً، وكانت مجموعاتهم تتكون من 150 شخصاً.

أما السبب الثالث فكان صراع قوي بينهم وبين الكائنات المتوحشة، بخاصة ان البشر الجدد الذين ظهروا في إفريقيا منذ أكثر من 300 ألف عام، بالإضافة الى تضاعف أعدادهم، امتلكوا أدوات الصيد والقتال المتقدمة بالمقارنة مع أسلافهم.

ارتباطاً بهذه النقطة الأخيرة، يتوقع الاتجاه الرابع بأن الإنسان الحديث قضى على نياندرتال، وذلك بالعودة الى جريمة يرجع تاريخ حدوثها الى 75 الى 50 ألف عام قبل عصرنا في كهف شانَدَر في كُردستان العراق والذي يعد واحداً من معاقل إنسان نياندرتال، وتم العثور فيه لليوم على 11 هيكل عظمي يعودها جميعها الى انسان نياندرتال.

تشير الأبحاث التي أُجريت على تلك الجريمة الى انها حصلت خارج الكهف. وقد عادت المرأة المصابة الى الكهف والتأمت جرحها قبل ان تموت داخل الكهف. تم العثور على الهيكل العظمي لتلك المرأة عام 1956 للمرة الأولى وكان الاعتقاد الغالب في تلك الفترة هو ان الإصابة حصلت جراء حادث صيد أو حقد أحد أفراد المجموعة. وسميت المرأة المقتولة بشانَدَر-3، لأنها كان الشخص الثالث من بين الهياكل العظمية التي تم العصور عليها من قبل فريق البحث. 

جريمة ما قبل التاريخ

شكك ستيفن تشرشل، أستاذ الأنثروبولوجيا في جامعة دوك في نورث كارولينا، بالتفسيرات القديمة لتلك الجريمة، ورسم سيناريو آخر لحيثيات القصة، معتقداً بأن القاتل ربما كان أحد أسلافنا المألوفين، أي الإنسان الحديث. لتسليط المزيد من الضوء على لغز تلك الجريمة التي عدها علماء الأنثروبولوجيا والآثار واحدة من جرائم ما قبل التاريخ الكبيرة، استخدم فريق ستيفن تشرشل تقنيات الطب الشرعي الأكثر تعقيداً.

قام هو وأفراد فريقه ببناء قوس ونشاب خاص، وتم اختباره المقذوفات على الخنازير. أظهر هذا التحليل أن الجرح المميت في صدر المرأة نتج عن سلاح مثل الرمح أو السهم، بينما كانت أدوات نياندرتال الذي عاش في الغابات وبالقرب من الكهوف، تشتمل على الأسلحة المدببة والحراب. 

وكان الإنسان العاقل هو الوحيد الذي كان يمتلك تقنيات رمي ​​متقدمة عصرئذ، وقد ساعدتهم عقبات السهول الأفريقية على ابتكار وسائل متقدمة للصيد. من الواضح الآن أن السلاح المستخدم ضد شانَدَر-3 تسبب في جرح بزاوية 45 درجة للأسفل، ما يسمح مقارنته بجرح ضربة الرمح وفق ستيفن تشرشل، بافتراض أن الضحية (طولها حوالي 1.67 متراً) كانت واقفة. وبما ان الضحية لم تمت بعد الإصابة وبقيت في الكهف، عاد فريق البحث إلى سجلات الجرحى أثناء الحروب الأهلية عندما لم تكن المضادات الحيوية متوفرة بعد، وذلك لتحديد الفترة الواقعة بين الإصابة والتئام الجرح.

بناءً على ذلك، يعتقد هذا التيار بأن الإنسان الحديث هو الذي قضى على نياندرتال. ولكن، كيف لذلك الإنسان الذي اتسم ببنية جسدية قوية، وعاش في أوروبا وآسيا ما يزيد مائتي ألف سنة وتحمل العصور الجليدية، الاختفاء بعد ظهور الإنسان العاقل من إفريقيا؟

لم يغب هذا السؤال عن غالبية الأبحاث العلمية المناخية والأثرية والأنثروبولوجية، ولكن لم يلق جواباً مقنعاً، ذلك ان الهياكل العظمية التي تم العثور عليها في أوروبا، منذ الاكتشاف الأول عام 1856 بالقرب من دوسلدورف بألمانيا، وعلى رغم آثار جروح على بعض منها، لم تقدم أحداث مشابهة لقصة كهف شانَدَر. 

إضافة الى ذلك، وجد جينات نياندرتال في الانسان الحديث في أوروبا وآسيا، ما يدل على اختلاطهما والتزاوج بينهما، بعدما خرج الثاني من أفريقيا ووصل الى أوروبا وشمال إفريقيا والشرق الأوسط قبل الانتشار في آسيا. وقد أوصل هذا الاكتشاف العلماء الى الاعتقاد بأن نياندرتال هو أقرب الأنواع من هومو-سابيانز، آخذين في الاعتبار الاختلافات في الوجوه والرؤوس بنظر الاعتبار.

وعاش الأول في أوروبا والشرق الأدنى، بما في ذلك كردستان العراق، ويعود ظهورهم إلى أربعمائة ألف عام. كان ذكياً وشجاعًا ونُسب إليه العديد من الاختراعات، مثل صنع أدوات الصيد والعيش معاً ونقل النار الى معاقلهم في الكهوف وأكل النباتات ورعاية بعضهم البعض داخل المجموعات. وتشير التقديرات إلى أنهم دفنوا القتلى وعالجوا الجرحى. ويعد كهف شانَدَر في كردستان أفضل مثال على ذلك حيث وجدوا فيها هياكل لأطفال يبلغون من العمر ثماني سنوات ونساء وكبار السن. 

الغلبة السكانية

قام فريق بحث من جامعة ديوك في نورث كارولينا وجامعة Witwatersrand في جنوب إفريقيا بجمع بيانات عن 13 إنسان نياندرتال و233 إنسان ما قبل التاريخ من الإنسان العاقل و83 إنساناً حديثاً. وركزوا من خلال الإحصاءات، على قياسات الجمجمة كعنصر تحكم للتحقق من حجم وشكل مكونات الوجه الرئيسية. أتاح وجود مثل هذه الضوابط للفريق أن يقرر على أفضل وجه ممكن ما إذا كان من المحتمل أن يكون الإنسان العاقل قد تزاوج مع إنسان نياندرتال أم لا.

استخدم الباحثون أيضاً الاختلافات البيئية المرتبطة بالأزمات المناخية في ملامح الوجه البشرية لتحديد ما إذا كانت العلاقات بين الإنسان البدائي وبيننا هي نتيجة التكاثر أو عوامل أخرى مثل المناخ.

تشير النتائج إلى أن خصائص الوجه لم تتأثر بالمناخ بشدة، ما يزيد من احتمال التأثيرات الجينية، حيث ظهر للباحثين أن تغير شكل الوجه كان أكثر فائدة لتتبع التأثيرات التناسلية بين الإنسان الحديث وسلفه نياندرتال. بشكل عام، كان نياندرتال أكبر من البشر، وبمرور الوقت أصبح حجم الوجوه البشرية أصغر. ولكن يعود العلماء وبشكل متكرر الى احتمال حصول أزمات مناخية عنيفة في العصر الجليدي الأخير ما أدى إلى فقدان مصادر الغذاء النباتي والحيواني، ولم يقاوم نياندرتال بسبب قلة أعداد أفراده وعدم امتلاكه أدوات متقدمة، بينما ظل الإنسان المعاصر مسيطراً بحكم الغلبة السكانية وامتلاكه أسلحة أكثر تقدماً.

يتبدى على الأرض كبرج ناصح

حدثت خمسة إنقراضات كبرى في تاريخ الأرض، وكان الانقراض الخامس قبل 65 مليون سنة جراء اصطدام نيزك عملاق بالأرض من الفضاء الخارجي ما أدى بشكل مفاجئ الى اختفاء الأنواع على الأرض حيث لم يبق منها سوى 5٪، وقد اختفت الديناصورات بالكامل. ولكن ما يحدث اليوم والذي يسمى بالانقراض السادس، فليس وليد حدث مناخي مفاجئ، بل هو تاريخ متواصل من التدهور على الأرض، يشكل انقراض انسان نياندرتال الصور الأوضح عنه. وقد توالى الانقراض في العصور اللاحقة وشمل مئات الآلاف من الأنواع بحسب بيانات علماء المناخ والتنوع البيولوجي على مستوى العالم. 

يحدث كل ذلك جراء بصمة بشرية نلاحظ آثارها الهائلة والمؤلمة على مناخ الكوكب وأنواعه من الحيوان والنبات ويؤدي إلى الانقراض الجماعي السادس. انها بصمة تتبدى على الأرض كبرج ناصع وتتجلى أشكالها في أحداث مناخية تهدد العالم الذي بنى بعد اختفاء نياندرتال بعشرات الآلاف من السنين. تالياً، نحن ورثة الانسان العاقل، لسنا بعيدين عن عما تعرض له نياندرتال، اذا أمعنّا النظر فيما نحن فيه من ناحية مصادر الغذاء والظواهر المناخية العنيفة الشاذة مثل ارتفاع غير مسبوق لدرجات الحرارة، الجفاف، الحرائق، تفشي الأوبئة، الفيضانات وتلوث مياه المحيطات، ما يحول دون توقف الانقراض الجاري.