في ظل أزمة المناخ.. كيف نحافظ على الأرض؟

يقف اليوم العالم أمام ثلاث أزمات متزامنة ومترابطة: أزمة المناخ، وباء كورونا والغزو الروسي لأوكرانيا، ناهيك بحروب إقليمية ومناطقية أخرى لها الأثر المباشر على امدادات الطاقة وسلاسل التوريد والأمن العالمي. وتعد أزمة المناخ الناتجة عن البصمة البشرية على الأنظمة البيئية جراء حرق الوقود الاحفوري والزراعة المكثفة والتكاثر السكاني، أقدم وأخطر الأزمات على الأمن والغذاء والاستقرار، انما بقيت الى يومنا الحاضر دون استجابة من شأنها انقاذ ما بقي من الأرض. أقول (ما بقي من الأرض) لأن مجتمع الأرض فقد الكثير في 500 السنة الماضية حيث انقرض ما يقارب 170 ألف نوع من النبات والحيوان بحسب دراسة نشرت بداية العام الحالي (2022). ومن شأن ذلك ترك آثار خطيرة على مستقبل الأنظمة الأيكولوجية التي لا يمكن ان تستمر الحياة على الكوكب من دونها.

انقرض في 500 السنة الماضية ما يقارب 170 ألف نوع من النبات والحيوان

وبما الحروب والأوبئة تترك آثار مباشرة على حياتنا، تكون الاستجابة لها سريعة ويتم توفير الأموال اللازمة لمواجهتها كما لاحظنا أثناء تفشي وباء كورونا، والأمر مشابه نوعاً ما في التعامل مع الحروب اذ تنهيها الاتفاقات والمصالح الدولية والإقليمية ولا تدوم عقود أو قرون. يختلف الأمر فيما خص أزمة المناخ، فعلى رغم  جميع الأخطار الناجمة، والتي ستنجم عنه، وهي متمثلة بالجفاف، ارتفاع درجات الحرارة، الفيضانات، حرائق الغابات، العواصف الغبارية وانقراض الأنواع، لم يستجب له العالم بعد. ويعود سبب هذا التغاضي عما يحصل للأرض في الغالب، الى ان الآثار على مصادر الاقتصاد والغذاء واستقرار المجتمعات والأنظمة البيئية، طويلة الأمد ولا تهدد بالفقدان المباشر للأرواح، بينما تظهر آثار الأوبئة والحروب بين كل لحظة وأخرى.

محاولة حماية ما تبقى من الأرض في ظل أزمة المناخ

إوزة رمادية تمشي في بحيرة زيكسي التي جفت تقريبًا بالقرب من سانكت أندريه ، حيث من المتوقع حدوث موجة حارة أخرى في أجزاء من البلاد ، في النمسا ، 12 أغسطس ، 2022. رويترز

الاستجابة الخجولة

يتعرض مناخ كوكبنا الى التدهور منذ حوالي قرنين من الزمن ولا زالت الاستجابة له خجولة تتخللها المصالح و الأنانية. لقد توصل عالم الفيزياء الإيرلندي جون تيندال (1820-1893) في بداية النصف الثاني من قرن التاسع عشر، الى ان التغيرات الطفيفة في الغلاف الجوي يمكن ان تؤدي الى أزمة المناخ. واعتمد العالم الفيزيائي الذي مات مسمماً على يد زوجته، على تجارب علمية مبكرة كان يقيس من خلالها تركز غاز الكاربون في الغلاف الجوي وامتصاصه أشعة الشمس. وقد ألهم اكتشاف جون تيندال، عالم الكيمياء السويدي سفانت آرهينيوس (1859-1927) في التوصل الى ان حرق الفحم والنفط بغية إنتاج الطاقة من شأنه زيادة درجات حرارة الكوكب. ويعتبر آرهينيوس، الحاصل على جائزة نوبل لعلوم الكيمياء 1903، أول من قام بعمليات حسابية لكثافة غاز ثاني أكسيد الكاربون على سطح الأرض، ملاحظاً بأن الامتصاص المتقدم في الأشعة تحت الحمراء يؤدي الى ارتفاع درجة حرارة السطح. وقد أصبح هذا الاحترار ملحوظاً بعد قرنين من الزمن.

بعد أربعة عقود من أبحاث العالم السويدي، تنبأ المهندس الكندي-البريطاني غي ستيوارت كاليندار في سلسلة من المقالات العلمية بأن تؤدي زيادة مستوى الكاربون في الغلاف الجوي الى ارتفاع درجات الحرارة بنحو 2.0 درجة مئوية. وبقيت تلك المقالات التي كتبت بين أعوام (1938-1964) حول دور الكاربون في احترار الأرض طي النسيان ولم يتذكره أحد الاّ في الوقت الذي أصبح الاحتباس الحراري شاغلاً للعلماء في الولايات المتحدة الأمريكية في سبعينات القرن المنصرم.

محاولة حماية ما تبقى من الأرض في ظل أزمة المناخ

خزان La Vihuela أثناء الجفاف الشديد ، بالقرب من مالقة ، جنوب إسبانيا في 8 أغسطس 2022. موجة جفاف مطولة وحرارة شديدة جعلت شهر يوليو الماضي أكثر الشهور سخونة في إسبانيا منذ عام 1961 على الأقل.
رويترز

بتاريخ 30 أغسطس 1971 قال عالم البيئة الأمريكي بول إيرليك في برنامج صباحي على قناة ABC الأسترالية، بأن عدد سكان العالم بلغ 3.7 مليار نسمة، ويزداد سكان العالم 70 مليون شخص سنوياً. وكان ذلك برأيه كفيلاً بتدهور أنظمة دعم الحياة على كوكب الأرض. بعد مرور خمسين عاماً على كلام إيرليك تضاعف عدد سكان العالم إلى 7.8 مليار نسمة. كان عدد السيارات في ذلك الوقت 200 مليون سيارة على الطرقات، بينما يتجاوز العدد اليوم مليار ونصف مليار سيارة، ناهيك بتضاعف استهلاك اللحوم والطاقة، الأمر الذي يشكل المزيد من الضغط على الأرض والأنظمة البيئية وسلاسل التوريد. وكان ذلك تحذيراً واضحاً لما سوف يعانيه العالم جراء أزمة المناخ، ذاك اننا لا نملك سوى كوكب واحد، ولا يمكن تصديق كلام مجاني يشير بغرض المزيد من جني الأموال الى إمكانية “وجود” متعدد الكواكب.

أول تحذير رسمي

في عام 1979 خلص تقريران أصدرهما علماء في حكومة الولايات المتحدة برئاسة جيمي كارتر إلى أن الاعتماد على الوقود الأحفوري من المحتمل أن يسبب في ارتفاع درجة حرارة الأرض من 2 إلى 3.5 درجات مئوية، مما يؤدي إلى ذوبان جليد القطب الشمالي، وانخفاض الحصول على مياه الشرب فضلاً عن الآثار الرئيسية على الإنتاج الزراعي.  وحذر العلماء في التقريرين، الأول بعنوان (تأثير طويل الأمد لثاني أكسيد الكاربون في الغلاف الجوي على المناخ) في ربيع 1979، والثاني بعنوان (ثاني أكسيد الكاربون والمناخ) صيف 1979، من تأثير استمرار حرق الوقود الأحفوري وتركز الكاربون في الغلاف الجوي على المناخ وارتفاع درجات حرارة الأرض. ويشير التقرير الثاني الى مخاوف جدية بشأن تأثير ارتفاع الحرارة على المُنظم الحراري للمحيطات والذي يدفئ الهواء في الشتاء ويبرّده في الصيف.

على رغم الأخطار الجدية المذكورة في التقريرين، طوى النسيان ذلك التحذير العلمي الذي جاء بعد سنوات من صرخة بول إيرليك، وسيطرت سياسة الإنتظار بضغظ من المحافظين على إدارة جيمي كارتر. وقد تحول الانتظار في زمن االرئيس الأمريكي السابق دونالد ترامب الى “التجاهل” حيث قرر الانسحاب من اتفاقية باريس/2015 بشأن المناخ بينما تعد الولايات المتحدة المصدر الأول والرئيسي لانبعاثات الغازات الدفيئة في العالم.

محاولة حماية ما تبقى من الأرض في ظل أزمة المناخ

البخار يتصاعد من أبراج التبريد في محطة توليد الكهرباء بالفحم في RWE ، إحدى أكبر شركات الكهرباء والغاز في أوروبا في نيديراوسيم ، ألمانيا

المناخ بين غزو أوكرانيا والتنين الصيني

كانت لعودة الولايات المتحدة الى اتفاقية باريس للمناخ بداية العام 2021 بعد تولي جوي بايدن الرئاسة الأمريكية، تأثير كبير على السياسات المناخية عالمياً، وخطت الدول بعد ذلك خطوات طموحة نحو خفض الانبعاثات الحرارية، خاصة في قمة المناخ العالمية في غلاسكو COP26 في نوفمبر (تشرين الثاني) 2021. وكان من المنتظر اتخاذ قرارات طموحة أخرى بخصوص خفض الكربون في قمة شرم الشيخ COP27 في شهر نوفمبر القادم، انما غير الاحتلال الروسي لأوكرانيا وأزمة (تايوان-الصين) ملامح مشهد سياسة المناخ الدولية. لقد أعادت حرب موسكو على كييف دبلوماسية المناخ الى الوراء بخطوات، وذلك ارتباطاً بفرض العقوبات الأوروبية على روسيا ولجوء هذه الأخيرة الى اللعب بورقة الغاز ضد البلدان الأوروبية المعتمدة على الغاز الروسي، مما أدى الى تحريك سوق الفحم؛ أي المزيد من الانبعاثات.

من ناحية أخرى أعلنت بكين إنها ستتوقف عن العمل مع الولايات المتحدة بشأن أزمة المناخ، إلى جانب قضايا رئيسية أخرى. وكان ذلك رداً على زيارة رئيسية مجلس النواب الأمريكي نانسي بيلوسي بداية شهر الشهر الحالي (أغسطس 2022) لتايوان التي تعتبرها الصين جزء من أراضيها. ويأتي القرار الصيني في ظل دبلوماسية مناخ مرتبكة أساساً بين البلدين اذ يتهمان بعضمها البعض بعدم القيام بما يكفي لوضع حد لانبعاثات الغازات الدفيئة.

محاولة حماية ما تبقى من الأرض في ظل أزمة المناخ

صورة من الملف: دخان من مدخنة في ألتاي ، منطقة شينجيانغ في الصين- رويترز

انتقدت الصين سلوك الولايات المتحدة ورئيسها دونالد ترامب حين قررت الانسحاب من اتفاقية باريس في عام 2017، وهي تسلك ذات السلوك اليوم وتوقف العمل مع شريكتها الرئيسية في انبعاث النسبة الأكبر من الغازات الدفيئة في العالم. يذكر ان الولايات المتحدة والصين مسؤولتان معاً عن حوالي 40٪ من انبعاثات غازات الاحتباس الحراري في العالم، ويعد الأمل ضئيلاً في تجنب الاحتباس الحراري الكارثي دون اتخاذ إجراءات قوية من جانب كل منهما. تالياً، تهدد الخطوة الصينية الحالية بعرقلة التقدم بشأن خفض الانبعاثات بينما لم تبق سوى بضعة أشهر أمام قمة الأمم المتحدة الحاسمة في الخريف القادم بمدينة شرم الشيخ في مصر.

قصارى القول، يمكن تجميد العلاقات او ايقافها بين الدول، ولكن هل يمكن تجميد أزمة المناخ وإيقاف آثاره على حياة البشرية والغذاء والنظم البيئية؟ انه سؤال يتعلق بحماية ما تبقى من الأرض والحفاظ على سبل وجودنا قبل “المصالح الأنانية”.