لبنان على عتبة مرحلة جديدة فهل تكون مختلفة؟

ما بين انتخابات لبنان 2018 والانتخابات الأخيرة شهد لبنان أحداثا عديدة صنعت متغيرات مؤثرة ذات أبعاد عميقة تخللتها صدمات أضرت في بنيان لبنان السياسي والاقتصادي والمالي والاجتماعي.

أحد هذه الصدمات انفجار مرفأ بيروت في أوائل أغسطس 2020 وعدم قدرة الدولة اللبنانية على إجراء تحقيق متكامل لكشف ملابسات الحادث ومعرفة أسبابه ودوافعه بسبب العقبات والضغوطات والشروط التي تضعها أطراف لبنانية.

يريد اللبنانيون من هذه الانتخابات أن تطلق مسيرة إصلاحية جدية. ويرغب الجيل الجديد من اللبنانيين فرز قيادات جديدة لأن المرحلة المقبلة لا تحتمل تكرار السياسات القديمة. لكن هذه الآمال والرغبات لا تبدو قابلة للتحقيق لأن القيادات التقليدية لا تشجع عملية إصلاحية قد ترغمها على التخلي عن مكاسبها وغنائمها. فهل ينجح المجلس الجديد في تغيير وجه لبنان نحو مستقبل مختلف يعيد إليه روحه التي يكاد يفقدها؟

ماذا عن النخبة السياسية في لبنان؟ هل هي غير قادرة أم أنها لا تريد المشاركة أم الحالين معا؟ في لبنان عادات سياسية لا توجد في مكان آخر اشهرها يعرف باسم (الحَرَد) وبالفصحى هو الاعتزال الطوعي الذي يعبر عن الاحتجاج. وكثيرا ما كان سياسيون لبنانيون يحردون ويلتزموا بيوتهم لأسابيع أو شهورا. ومن الحرد السياسي ما يؤدي إلى تعطيل عمل المؤسسات مثلما حدث قبيل انتخاب الرئيس عون عندما تعطل البرلمان لأسابيع طويلة واحيانا يتم تعطيل اجتماعات مجلس الوزراء بسبب حرد بعض الوزراء وربما يحرد رئيس الوزراء نفسه.

هناك شخصيات تعتبر قامات برلمانية عزفت عن الترشح وهذا يعني خسارة للبرلمان اللبناني. تحتجب قيادات الصف الأول السني على سبيل الحَرَد أو الاحتجاج فخاض سنّة لبنان مواجهة سياسية مكشوفة من دون زعامة قوية راسخة وهذا يعني تفتت المعسكر السني وإفساح المجال للمعسكر الذي يقوده حزب الله.

زعيم تيار المستقبل سعد الحريري الذي يعتبره كثيرون الممثل الأساسي للسنة في لبنان الذي تكرست زعامة أسرته عبر والده رفيق الحريري بعد اتفاق الطائف كان ابرز المحتجبين. خروج الحريري من الصورة الانتخابية ورفضه التحالف مع القوات اللبنانية اضعف تيار المستقبل واضعف أيضا الطائفة السنية التي كانت تعتمد عليه وعلى ثقل عائلته. وغياب الحريري وتياره قد يكون وراء حرد واحتجاب ثلاث شخصيات سنية أخرى كان يمكن أن تكون كبيرة التأثير في مسيرة الانتخابات وهذه الشخصيات وقد تولت فيما سبق رئاسة الحكومة هي تمام سلام وفؤاد السنيورة ونجيب ميقاتي.

لكن السنيورة عمليا ظل يقود تيار المستقبل حتى بغياب الحريري ويرى البعض أن هذا التيار وربما بدون موافقة الحريري تعاون مع حزب القوات اللبنانية لمواجهة تحالف التيار الوطني مع حزب الله. لكن هذه التحالفات وان كانت تعطي بعض النتائج في الانتخابات لكنها في الواقع لا تدوم طويلا لأنها في الأصل تحالفات انتهازية لمنفعة الأحزاب المتحالفة وليست لمصلحة البلاد.

في السنوات الأخيرة شهد لبنان تغيرات استراتيجية هائلة ابرزها الانقسام الطائفي الذي لم يعد ثنائيا بين سنة وموارنة بل اصبح ثلاثيا بدخول الشيعة طرفا أساسيا في المعادلة الطائفية بوجود قوي على الساحتين السياسية والاجتماعية وصارت عينهم على حصة أكبر في الحكم وإن لم يعلنوا ذلك. ما يقومون به الآن هو تكريس وجود أساسي بصفتهم القوة الثالثة المؤثرة في لبنان وخصوصا من خلال الحزب وسلاحه.

تكمن في هذه الانتخابات أهمية غير عادية وقد تكون الأخطر في تاريخ لبنان فقد جرت في ظروف غاية في الصعوبة بالإضافة إلى انقسامات تكاد تكون جذرية أدت إلى شلل اقتصادي وانهيار مالي وتعطل المصالح وخراب البنية التحتية. أما الوضع الأمني فهو منذ انفجار مرفأ بيروت في تراجع متواصل. فاستمرار الانقسام الطائفي والسياسي قد يجر إلى انقسام امني سيدفع الأحزاب لاستخدام ميليشياتها لحفظ الأمن في مناطقها عندما تعجز الدولة عن الاحتفاظ بقوى الأمن موحدة وفي هذه الحالة يتكرس التقسيم وقد يترسخ لسنوات.

كانت هذه الانتخابات فرصة لحزب الله لتعزيز مكانته وتأكيد استعداده لخوض المواجهة وفق تحالفات عابرة للطوائف راغبا في العودة إلى مجلس النواب بنفس قوته الحالية أو اكثر. أراد الحزب المحافظة على مكانته بأي ثمن وقد سبق للحزب منذ سنوات وعبر تفاهماته مع التيار الوطني الحر بزعامة العماد ميشال عون من خلق كتلة سياسية متجانسة وكبيرة ذات تأثير قوي على الحياة السياسية في لبنان حققت بعض الاستقرار في بداية عهد الرئيس عون لكن هذا الاستقرار سرعان ما تبخر باستقالة الحريري من رئاسة الحكومة ومغادرته لبنان.

بحسب الدستور تصبح الحكومة مستقيلة عند انعقاد مجلس النواب المنتخب وهذا يستدعي الإسراع في تشكيل حكومة جديدة استعدادا للاستحقاق الرئاسي في أكتوبر. لكن هذا التشكيل أيضا غير مضمون وقد يغرق لبنان في حالة جمود سياسي يقصر أو يطول. فقد اعتاد لبنان على عدم وجود حكومة لفترات طويلة والحكومة الحالية مثلا تشكلت بعد 13 شهرا من استقالة الحكومة التي سبقتها.

أما إذا تشكلت حكومة جديدة في المهلة الدستورية فيمكن انتخاب رئيس جديد وفق المهلة الدستورية أيضا. بحسب المعطيات المتوفرة واذا ما استمر تحالف الحزب قويا مع التيار الوطني الحر فيمكنه إذا ما سارت الأمور على هواه العمل في البرلمان على خلق كتلة قوية تنجح في انتخاب جبران باسيل صهر الرئيس ميشال عون وهو انتخاب قد تدعمه إيران بقوة لأن حزب الله يدعمه للرئاسة الأولى في شهر أكتوبر القادم. ولكن قد يتعطل انتخاب باسيل ويسلط الضوء على سليمان فرنجية القريب من سوريا أو سمير جعجع زعيم القوات اللبنانية. واذا لم يفز أي مرشح بأغلبية واضحة فقد يتأخر انتخاب الرئيس لفترات طويلة. فانتخاب الرئيس في لبنان يحتاج توافقا وتفاهما ليس فقط بين الأطراف اللبنانية المعنية بل بين اطراف عربية وإقليمية يمكنها فرض فيتو على أي شخصية لا تريدها. ومن هنا قد يتعطل انتخاب الرئيس مثلما تعطل انتخاب الرئيس عون مدة تسعة وعشرين شهرا.

لكن المشكلة ستكون أكبر من كل التوقعات إذا ما فرغت الرئاسة الأولى قبل تشكيل الحكومة لأن مثل هذه الحالة ستخلق فراغا صعبا ويوقع لبنان في أزمة سياسية ودستورية عميقة الغور وقد تجر إلى حالة من الشلل السياسي قد لا يقدر عليها اللبنانيون.