تحالفات وحرب باردة تلوح في أفق المشهد السياسي العالمي

ألم يكن يكفي التحالف الرباعي الذي أقيم عام ألفين وثمانية عشر بين الولايات المتحدة والهند واليابان وأستراليا لحماية منطقة المحيط الهادئ من الخطر الصيني كما تراه واشنطن؟ أم هو استهداف مباشر للصين التي بدأت تستقوي بهيمنتها التجارية وجبروتها العسكري؟

كان ذلك الإعلان عن التحالف الجديد بين الولايات المتحدة وبريطانيا وأستراليا الذي سماه أصحابه شراكة أمنية لحماية مصالحهم في المحيطين الهادئ والهندي صادما لكل من فرنسا والصين ولكل منهما أسبابه.

صدمة فرنسا جاءت بسبب تخلي أستراليا عن التزود بغواصات فرنسية في صفقة بقيمة تسعين مليار دولار الأمر الذي اعتبرته فرنسا طعنة في الظهر. وبلغ من شدة الصدمة أن طلبت فرنسا من أوروبا العمل على إيجاد نموذج بديل لم يعرف إن كان يقصد به حلف جديد أوروبي بعيدا عن الولايات المتحدة أم هو المشروع الذي كان مطروحا قبل سنوات بتشكيل جيش أوروبي مستقل.

أما صدمة الصين فكانت من نوع آخر. كان فيها نوع من المفاجأة دفع المتحدث باسم الخارجية الصينية لشجب التحالف الجديد ووصفه بانه عمل غير مسؤول ويهدد الأمن الإقليمي وكذلك يدمر وبقسوة الاستقرار والسلام الإقليمي ويعزز سباق التسلح ويدمر جهود منع الانتشار النووي.

كانت الصين تحاول إثبات تفوقها ونفوذها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي كما أنها تدعي سيادتها على بعض المناطق المتنازع عليها فجاء هذا التحالف ليضع حدا لهذه الطموحات وصار عليها الانتباه لأمنها في المنطقة القريبة منها.

من الواضح أن هذا التحالف الجديد موجه بالدرجة الأولى ضد الصين، ومع أن القيادات في الدول الثلاث المشاركة تجنبت ذكرها ذكرا صريحا لكن الدلائل تشير إلى أن أسباب قيام التحالف وأهدافه هي الصين.

ففي السنوات الأخيرة شكلت الصين تهديدا جديا للمصالح الغربية ليس فقط في منطقة المحيط الهادئ بل أيضا في مناطق أخرى من العالم.

على المستوى التجاري العالمي، يميل الميزان التجاري لصالح الصين بقيمة تزيد عن خمسمئة وخمسة وثلاثين مليار دولار، في السنوات القليلة الماضية كانت خسائر أستراليا في الحرب التجارية مع الصين أكثر من أربعة مليارات دولار.

وعلى المستوى العسكري، تملك الصين ست غواصات نووية هجومية تجوب المحيطين الهادئ والهندي وهذه تشكل مصدر خطر على المصالح الأمريكية والغربية عموما.

كذلك تملك الصين شبكة صواريخ متنامية وقواتها المسلحة كثيرة العدد وسفنها الحربية غالبا ما تستفز البحرية الأمريكية في المنطقة القريبة من مياه أستراليا واليابان.

الآن التحالف الجديد قد يدفع الصين لزيادة إنفاقها العسكري وتطوير أسلحتها وهذا بالتأكيد سيكون له الأثر السلبي على الإنتاج الصيني بشكل عام وقد يؤدي إلى نتائج تشبه النتائج التي أدى إليها سباق التسلح الغربي مع الاتحاد السوفياتي قبل سقوطه مع الأخذ بعين الاعتبار الاختلاف بين واقع الاقتصاد الصيني الآن وواقع الاقتصاد السوفياتي في ذلك الوقت.

البيان الثلاثي الذي أعلن عن قيام التحالف الجديد ركز على مفهوم حماية شعوب دوله ضد ما أسماه التهديدات الجديدة والناشئة ودعم نظام دولي سلمي قائم على قواعد قانونية ويعزز العلاقات ويعمقها في منطقة المحيطين الهادئ والهندي.

وسيكون ذلك من خلال تبادل المعلومات الأمنية والاستخبارية والتعاون الأمني والعسكري بالإضافة إلى تزويد أستراليا بغواصات تعمل على الطاقة النووية والتعاون فيما يخص الذكاء الاصطناعي والتكنولوجيا الدفاعية المتقدمة.

المصالح الأسترالية التي سيحميها التحالف معروفة ومفهومة ويمكن تفهم مصالح الولايات المتحدة كدولة كبرى أما مصالح بريطانيا فإنها تختص بالمحافظة على أستراليا بوجه الهجرة الصينية إليها والتي باتت في مستويات مقلقة ليس لبريطانيا التي تعتبر أستراليا تابعة للتاج البريطاني بل أيضا مقلقة للغرب عموما.

فالهجرة الصينية التي بدأت في منتصف القرن التاسع عشر إلى أستراليا مازالت تتواصل وبوتيرة كبيرة وسريعة بحيث وصلت أعداد الصينيين في أستراليا إلى أكثر من مليون ومئتي ألف نسمة من مجموع سكان أستراليا وهم حوالي ستة وعشرين مليون نسمة.

وردا على ذلك بدأت السلطات في أستراليا اتخاذ إجراءات للحد من مخاطر هذه الأعداد الهائلة من أصحاب الأصول الصينية في أستراليا.

ففي سنة ألفين وثمانية عشر سنت أستراليا قانونا يحد من تدخل الأجانب في شؤون أستراليا وقصد من القانون تدخل ذوي الأصول الصينية بالدرجة الأولى؛ فقد أخذت أستراليا تنظر إلى الصين بصفتها تهديدا أمنيا وقد حذرت الأجهزة الأمنية الاسترالية من أن الصين تحاول التدخل في الأمور الداخلية لأستراليا.

في خطابه أمام الأمم المتحدة كان الرئيس الأمريكي واضحا جدا بشأن أهداف هذا التحالف الجديد ووجه تهديدات مبطنة للصين عندما قال إن منطقة المحيط الهادئ يجب أن تظل مفتوحة لحماية المصالح في المستقبل. واكد أن الولايات المتحدة ستخوض المنافسة وستنافس بقوة وستدافع عن حلفائها وأصدقائها وستتصدى لمحاولات البلدان الأكثر قوة بفرض هيمنتها على الدول الأكثر ضعفا.

كل هذا التهديد يقصد به الصين إلا انه لم يذكرها إلا مرة واحدة عندما قال إن حكومته لا تسعى إلى حرب باردة معها.

من المؤكد أن واشنطن لا تسعى لخوض حرب مع الصين لكن ما يجري هو بالتأكيد حرب باردة جديدة ستعتمد على الردع وربما الردع المتبادل للحفاظ على الوضع الراهن في منطقة المحيط الهادئ بما يسمح لكل من أستراليا واليابان وكوريا الجنوبية والهند وهم حلفاء أمريكا في تلك المنطقة العيش بسلام.

فالغواصات النووية تجوب المحيط بالقرب من سواحل أستراليا واليابان وهذا يعطيهما أداة قوية لاحتواء التوسع الصيني.

حتى الآن التجمع الجديد لا يسمي نفسه حلفا عسكريا لكنه على ما يبدو حلف عسكري في طور التشكل.

فإذا ما تأزمت المشكلة مع الصين واشتد موقفها من هذا التجمع سيتحول إلى حلف عسكري واضح المعالم قد تنضم إليه أيضا كوريا الجنوبية والهند ومن العالم الغربي قد تنضم كندا الحليفة الدائمة للولايات المتحدة.

أما اليابان وهي الدولة الأكثر تخوفا من أطماع الصين وتستشعر خطرها في كل وقت فلا يمكنها بحكم حيادها أن تنضم لأي حلف عسكري لكنها يمكن أن تقدم الدعم والمؤازرة التكنولوجية والمساعدات الإنسانية.

وفي حال تحولت الشراكة الثلاثية إلى تحالف عسكري راسخ فهل معنى ذلك أن الحرب تكون وشيكة؟

في النظام العالمي الذي تبع الحرب العالمية الثانية تقاسمت الولايات المتحدة والاتحاد السوفياتي النفوذ في العالم وبعد انهيار الاتحاد السوفياتي تفردت الولايات المتحدة بقيادة العالم. الآن تحاول الصين مزاحمة الولايات المتحدة وهذا حال لا ترضاه واشنطن.

لا يمكن تقدير ما سيحدث بسهولة، فأي حرب بين الدولتين إن كانت نووية ستكون مدمرة للعالم كله. ولتفادي هذا المصير القاتم قد تلجأ الولايات المتحدة والصين إلى يالطا جديدة لصياغة نظام عالمي جديد لاقتسام النفوذ في العالم بينهما وإذا لم يتفقا ستدخلان في حرب باردة طويلة. ولأجل النصر في الحرب الباردة المتوقعة كان على الولايات المتحدة أن تغير من أولوياتها واستراتيجياتها فكان الانسحاب المباشر من أفغانستان والتحضير للانسحاب بصورة شبه كلية من الشرق الأوسط للتفرغ للعدو الصيني الذي قد يصبح السيد الجديد لهذا العالم.