ساحة الرأي | أخبار الآن – (د. عبد القادر المنلا)

مع بداية انشغال الفنانين بالموسم الدرامي الجديد، والبدء بتصوير المسلسلات المقرر عرضها في رمضان المقبل يبدو فنانو الأسد في كامل جهوزيتهم يستعدون بنصوصهم وكاميراتهم وأدواتهم لتنفيذ أعمالهم كما لو أنهم في موسم إنتاج طبيعي، أو كما لو أنهم يعملون قبل العام 2011.                   

ويستغرب كثيرون، كيف، ومن أين للنظام القدرة على متابعة الإنتاج الدرامي في ظل تدهور الأوضاع الاقتصادية والأمنية الذي جره إعلان الأسد حرق البلد عقب اندلاع الثورة السورية وتنفيذه لذلك الوعيد دوناً عن كل الوعود الكاذبة التي سوقها خلال فترة وراثته سواء منها ما أسماه: "التطوير والتحديث" أو "الشفافية" وما إلى ذلك من الوعود مقلوبة الجوهر، حرائق انتشرت على امتداد سورية، وكم من الدمار غير مسبوق على مدار التاريخ، ودماء السوريين تجري في شوارع البلد من أقصاها إلى أقصاها، ومع ذلك كله لم يحرم النظام جمهوره من متعة المسلسلات!!

الفنانون وشعراء البلاط
في الواقع ثمة ارتباط عضوي وثيق بين الدبابة والطائرة والبرميل المتفجر من ناحية، والدراما التلفزيونية من ناحية أخرى في ذهنية أركان النظام فيما يتعلق بطريقة مجابهته الوحشية للثورة السورية، فمنذ الأيام الأولى التي احتشدت فيها المظاهرات ضد قمعه ووحشيته وضد فكرة التوريث والأبدية، أخرج النظام أفاعيه من مخابئها، أيقظ العقارب التي سمّنها وسممها والتي خبأها ليوم كهذا ليطلقها كسلاح نوعي من العيار الثقيل يحاول فيه إبطال فكرة الثورة وقلب الحقائق على لسان فنانيه الذين قربهم منه قبل الثورة بزمن طويل وكان لهم حظوة كبيرة لديه، وإذا ما عدنا إلى الخلف قليلاً سنجد أن بشار الأسد بدأ بعقد علاقات خاصة مع الفنانين وهو لا يزال في طور التأهيل للرئاسة وقد لبى الكثيرون منهم نداء النفوذ والسلطة مستبشرين بنقلة نوعية على مستوى حياتهم الشخصية فلا تقف سلطتهم عند  حدود استلاب الجمهور أمام الفنان واحترامه له وإعجابه به، بل تقرنها بسلطة حقيقية مستمدة من قربهم المباشر من مواقع القرار، رغم أن قلة منهم استجابت لتقرب الأسد أملاً في دعم الدراما وأفكارها وانتزاع قدر أكبر من حرية التعبير- أو هكذا توهموا على الأقل-..

فكرة الأسد ليست جديدة ولا مبتكرة ولربما تعود جذورها إلى العلاقة التاريخية بين السلطان وشعراء البلاط، خاصة إذا ما أخذنا بعين النظر أن الدراما في القرن الواحد والعشرين احتلت مكانة الشعر إبان العصور السالفة وأصبح الفنان أداة ترويج صالحة للاستعمال والتوظيف على المستوى الإعلامي، ومن هنا فقد دأب بشار الأسد على التقرب من الفنانين قبل أن يصبح رئيساً، ثم سطا أخوه ماهر على الصناعة الدرامية ذاتها وأطلق مجموعة من شركات الإنتاج ظاهرها فني وباطنها سياسي، دعائي مع هامش واسع لممارسة أنواع التجارة المشبوهة بما فيها غسيل الأموال، ولم تكن تبعية تلك الشركات العلنية لماهر الأسد بالطبع بل عبر وكلاء ووسطاء نشطوا في الساحة الفنية بأموال طائلة وتم احتكار سوق الإنتاج وحصره في بضعة شركات ضخمة كسورية الدولية والشرق وغيرهما من الشركات التي تسيدت الإنتاج وأنشأت شراكات عميقة مع الكثير من النجوم وأبرمت صفقات خفية تقتضي بمنح الفنان هامشاً واسعاً لحرية التعبير والطرح بالاتفاق مع الجهات الأمنية ذاتها فحققت للفنانين المتواطئين سمعة طيبة على مستوى الجرأة وحققت للنظام مثيل تلك السمعة على مستوى تنازله عن التابوهات السياسية التي لم يكن في السابق يرتضي بالتنازل عن واحد منها وكل ذلك كان يتم في غفلة من المتابع، من المواطن البسيط الذي لم يستطع فك رموز الشيفرة الخفية التي تحكم العلاقة الجديدة بين الفنان والنظام، ولم يتوقف النظام عند ذلك الحد بل ورط الكثير من الفنانين بصفقات مشبوهة، ومن هنا كان مطمئناً من وقوف هؤلاء إلى جانبه طوعاً أو جبراً تحت وطأة التهديد بفتح ملفاتهم حين انطلقت الثورة، وكان دفاع الفنانين عن النظام بمثابة دفاع عن ذواتهم ومكتسابتهم وامتيازاتهم أو خوفاً من إزاحة ورقة التوت عن الكثير من أسرار العلاقة الخفية.

في انتظار المكافأة
فضلاً عما سبق، فقد قرأ معظم الفنانين المؤيدين المشهد على أنه نسخة مكررة من الثمانينيات مراهنين –كالنظام- على أن شدة القمع ستخمد جذوة الثورة في غضون أشهر قليلة ثم يجازَون بما عملوا ويكافؤون على مواقفهم ويقبضون ثمن خيانتهم لدم الشعب مضاعفاً، سواء على المستوى المادي أو المعنوي، ولهذا استمات الكثير من هؤلاء الفنانين بل وأخذوا ينافسون بعضهم في التزلف والنفاق والكذب والدجل والتزوير وقلب الحقائق التي يدركونها جيداً ويعونها بعمق كونها لم تكن تخفى على كل ذي عينين، أما النظام فلم تتأخر عطاياه، حيث فتح قنوات الإنتاج على اتساعها ليس فقط لإرضاء فنانيه بل أيضاً لتثبيت طرحه الذي اعتمده منذ تفجر الثورة وهو الإنكار والمكابرة وتظهير الأحداث على أنها مجرد فبركات على ماكيتات تعدها قنوات الفتنة والتضليل، أما الواقع فهو أن سورية بخير بدليل الإنتاج الدرامي، حتى إن عجلة الإنتاج المسرحي التي كانت شبه معطلة دارت على قدم وساق وأصبحت أكثر انسيابية بكثير مما كانت عليه وفتحت الأبواب والمؤسسات الثقافية على مصراعيها لكل من يريد العمل في الفن فقط لإثبات أن سورية بخير وأعطيت للكومبارسات والدخلاء كل الفرص التي لم يكونوا يحلمون بها، ومن البدهي القول أن الفن والنوعية كان آخر هم النظام، ولكن أن يكون ثمة إنتاج غزير أياً يكن مستواه هو الهدف الأعلى، وقد استغل كل من النظام والفنان هذا الواقع ليعمل كل منهما على تعزيز مصالحه بصرف النظر عن المصلحة المشتركة، وكلما ازداد تعقيد الأوضاع وازداد النظام مكابرة كان الفنانون الموالون يبالغون في إعلان تبعيتهم.

لا خوف ولا محاسبة
أدرك بعض الموالين من الفنانين ممن كان لديهم بقايا من ضمير وممن لم يكونوا من أصل البطانة والحاشية أنهم تورطوا بوقوفهم إلى جانب الجلاد ضد الضحية على الأقل على مستوى القراءة الضحلة للواقع والمستقبل إلاّ أن معظمهم لم يستطع الخروج من ورطته، أما أقطاب التشبيح والذين هم من أركان النظام على مستوى الإنتاج الفني فقد أخذوا يزايدون على النظام نفسه وقدموا أكثر مما هو مطلوب منهم، وإذا تجاوزنا الفنانين قليلاً سيكون من المجدي الوقوف عند جهات الإنتاج والقائمين عليها سواء الجهات الخاصة أو المؤسسات التابعة للنظام فكلاهما استمات في استغلال الظرفية التاريخية، الجهات الممولة من النظام يشرف عليها كبار الفاسدين وهؤلاء وظفوا الأزمة برمتها لتصب في جيوبهم، ورغم كم الفساد الذي كانت تشهده تلك المؤسسات قبل الثورة إلاّ أنها أثناء الثورة وسعت جيوبها أكثر حيث هامش المحاسبة الضيق الذي كان يتوفر قبلاً انتهى إلى غير رجعة وأضحت أكبر عملية اختلاس للأموال تحل ببضع كلمات في مديح سيد الوطن، أما جهات الإنتاج الخاصة فهي تضمن على الأقل بيع إنتاجها للمحطات التابعة للنظام ولن تستطيع تلك المحطات رفض الأعمال المنتجة مهما بلغ تدني مستواها الفني، بل إن الكثير من الشركات وجدت في الأزمة فرصة لتبرير المستوى الفني المتردي بذريعة فقدان اللوكيشن والعمل تحت وطأة الخطر المحدق، وهنا نجد تناقضاً صارخاً في تصريحات هؤلاء الفنانين ومواقفهم، ففي الوقت الذي يريدون فيه التأكيد على التضخيم الإعلامي والمبالغة ونكران ما يحدث على الأرض والتأكيد على أن الوضع طبيعي، فهم أنفسهم يتذرعون بالمخاطر المحدقة بالعمل حينما يريدون تبرير تدني مستوى الإنتاج، وفي النهاية أصبح كل إنتاج يقدم على أنه عمل وطني حتى وإن كان على طريقة باب الحارة، فيكفي أنك تمارس عملك وتضحي لتقدم الفرح والتسلية للجمهور لتكون وطنياً لا يشق لك غبار.

بناء على كل تلك المعطيات فمن الطبيعي ألاّ يتوقف الإنتاج ولاسيما أن الشرط الأساسي له وهو الإبداع والجودة لم يعد هاماً حتى على مستوى الشكل، كانت شروط النظام للعمل الدرامي اللائق أساساً متدنية جداً قبل الثورة، ولكن بعدها بات أي راغب في الفن قادراً على أن يصبح فناناً بشرط إعلان الولاء وتسديد فاتورة التشبيح الواجبة تماماً كما بات بمقدور أي شخص عديم الموهبة والإمكانيات والخبرة أن يكون إعلامياً أو إدارياً أو منظراً أو فيلسوفاً والمؤهل الوحيد للوصول إلى ذلك كله هو إعلان الولاء، ولا شيء أكثر..

لقد تعامل النظام مع الفن الدرامي وفنانيه تماماً كما تعامل مع أي نوع من الأسلحة النارية وبشكل خاص بعد تطور الأحداث في الداخل السوري، فهو من ناحية قام بتوظيف الحدث بما يتوافق مع منطق البرميل المتفجر ومع روايته شديدة التناقض ولكنه استطاع تكريسها لدى مؤيديه على الأقل مستعيناً بكل أدواته ومنها الفن الدرامي، وهو من ناحية أخرى سعى لإبراز وجهاً حضارياً ليغطي على جرائمه من خلال اهتمامه بالفن مناقضاً صور اللحى والشعارات التكفيرية لمعارضيه والتي قام بصناعتها بنفسه، فضلاً عن إثبات موجوديته وعدم تأثره أو تخلخل بنيته حينما يتابع إنتاج وبث المسلسلات وكأنه في أيام حكمه وسيطرته، أما عن التكلفة المالية الباهظة فلا بأس من تخصيص النذر اليسير من تكاليف الحملة العسكرية ليغطي كل النفقات الواجبة ولاسيما بعد دخول الداعمين الكبار من أصحاب رؤوس الأموال المنهوبة من الشعب السوري، فهؤلاء لم تعد المكاسب التي كانت تدرها عليهم الصناعة الدرامية هامة في مقارنة إنقاذ ما تبقى من ثرواتهم، فلا غرابة إذن من استمرار عجلة الإنتاج بالدوران وعلى قدم وساق وبشكل خاص بعد السنة الأولى للثورة حينما أفاق النظام من صدمته، ثم بعد أن اطمأن إلى داعميه فبدأ يتعامل مع الثورة كواقع لا بد من معايشته، أما الشركات الخاصة فخاضت الإنتاج كمعركة مصير تماماً كما فعل النظام بأركانه العسكرية والأمنية والسياسية حيث لم يعد الهروب متاحاً.

باختصار، استعمل النظام الفن والفنانين الذين ناصروه كأداة لمد أمد بقائه وسلاح متعدد الأهداف، وكانت معظم الأعمال المنتجة خلال السنوات الثلاث الماضية خالية تماماً من أي مضمون فني أو طرح اجتماعي أو إنساني خلوّها من أبسط تقاليد الصناعة، ولا غرابة أن تقدم تلك النماذج عند نظام يتهم المعارضة بسوق مئات الأطفال من ريف اللاذقية إلى غوطة دمشق لخنقهم بالكيماوي، ويزعم أن اللاجئين إلى تركيا ذهبوا في زيارة لأقاربهم، إلى آخر تلك المتناقضات التي لا تنتهي التي قامت عليها رواية النظام المفككة والمهلهلة وهو ذات البناء الدرامي وذات الشكل المهلهل الذي بدت عليه مسلسلات السنوات الثلاث السابقة في أحسن أحوالها.