أخبار الآن | ساحة الرأي – (خالد سميسم)

لا يكاد سوري واحد عاش في زمن حافظ الأسد أو في زمن ابنه بشار إلا و حمل ذكريات عن "البونات"، ذكريات تعلقت غالبا في الحياة اليومية للسوري الذي قضى من وقته الكثير على أبواب المؤسسات الاستهلاكية التي انتشرت في المدن و البلدات السورية.

وربما صحيح كما تردد الحكومات السورية المتعاقبة التي أقرت انشاء تلك المؤسسات ووصفتها دائما بالداعمة لمواد أساسية عند المواطن السوري، إلا أن قصة الذهاب إلى المؤسسة والحصول على موادها يعني الكثير من الألم و ربما الذل عند الفقراء السوريين.

ألوان "البونات"، التي تكون عادة على شكل دفتر طويل، منها حمراء فاتحة قريبة إلى اللون الزهري وأخرى زرقاء قريبة من ألوان علبة التبغ الحموي "الفلت"، و كان يحدد على البون عدد الأشخاص وكذلك ممهور كل واحد منها بتوقيع من قبل وزير التموين و التجارة الداخلية.

بعض السوريين و حفاظا على هذه "النعمة" أكتشفوا طريقة لتجليد الغلاف الخارجي لدفتر البون خوفا من الاهتراء، وبعضهم حدد له زاوية في البيت خوفا عليه من الضياع أو السرقة.

لقد شكل الحصول على مادتي الرز والسكر في فترات طويلة عند الفقراء السوريين مشاكل تكاد لا تنتهي أغلبها يتعلق في اليوم الذي يتم فيه التوزيع، كل يحمل أكياس قد خصصها للسكر وأخرى مختلفة قليلا قد خصصها للرز، والطامة الكبرى حين دخل إلى المؤسسات الرز الطويل حيث لم يفضله أغلب السوريين و كانوا يجلبونه كنوع من "المكسب" حينا ونوع من التجارة أحيانا حيث كان بعضهم يربح ببيعه ليرات قليلة.
في اليوم "الموعود" للتوزيع أغلب ممن كانوا يقصدون المؤسسات يقودون "موتورات" أو "بسكليت" صيني نوع "28" كبير و قد فصلوا له "كرسي" خلفي خاص من الحديد و ذلك لسهولة نقل المواد إلى البيت و عدم وقوعها على الطريق، و طبعا "المطاطة" الخاصة بالكرسي الخلفي أساسية من أجل استكمال النقل دون مشاكل تذكر.

و لأن الحالة جزء من الذل المدروس للفقراء غالبا ما كان الموظف ينهي التوزيع أو يؤجله لأسباب لا أحد يعرفها و حتى هو غير مضطر لشرحها للناس، و كذلك غالبا ما كان الازدحام يتسبب بمشاكل أخرى تتعلق بال "الدفش" و التدافع و ليس نهاية بسرقة "البسكليت "على غفلة من صاحبه الذي كان يغوص في التجمع البشري الهائل أمام المؤسسة، و حتى إذا كان قد فشل أحد السوريين بجلب الرز و السكر و عاد خائبا إلى البيت كانت زوجته تسمعه بعض الكلمات المتعلقة" بقلة "رجولته مثل:" أبو فلان رح جاب و أنت ما جبت "، أو" كل الناس جابو السكر و الرز إلا نحنا "، و هنا لا بد من مشكلة ما بين الزوج" المهزوم "من المؤسسة الاستهلاكية وزوجته" المستفزة ".

أغلب السوريين الفقراء كانوا سعداء بهذا الدعم في بعض الأحيان رغم الذل الذي فيه و أغلبهم كان يردد: نحن دولة فقيرة و 80٪ تذهب للجيش، و من تلك العبارات التي كانت تنشرها المخابرات للتخفيف من الاحتقان و من أجل أن يكون السوري سعيدا بذله و شاكرا للدولة التي لا تنساه.

جمهور "البونات" كان أغلبه فقيرا، أو موظفا لا يعرف الرشوة، باعتبار أغلب الموظفين الفاسدين و كنوع من "الكرم" الخادع قد اعطوا "بوناتهم" لعائلات أقربائهم الفقيرة، تحت مقولة غالبا ما كانوا يرددونها: نحن "مستورة" حالتنا، و في زمن الثورة أصبح جزء كبير من تلك البونات غير صالح و ذلك لايقاف النظام أي دعم للأماكن المحررة، و في الجانب الآخر أغلب العائلات التي هاجرت منها من ترك "البون" بالبيت و منها من سلمه لعائلة أخرى يعرفها ربما تستفيد من "ميزاته".

"بونات" السكر و الرز و كذلك المؤسسة العامة الاستهلاكية بقيت في ذاكرة السوريين حتى اليوم حكاية ذل سوفيتية في الدعم الاشتراكي أو الشبه اشتراكي في دول الفساد التي كانت غالبا ما تردد أنها في "الطريق" إلى الاشتركية، ذل "طويل" يشبه ذلك الرز غير المرغوب، و ليكتشف السوريين بعدها أنها حكاية "مقصودة" من نظام "سرق" البلد بأكمله دون وازع تحت شعارات كبيرة "وضعها" السوري تحت أقدامه منذ اليوم الأول لثورة الكرامة … و تبقى "البونات" فيها الكثير من حكايا السوريين الفقراء و ذكرياتهم المبكية تحت "سقف" الوطن.