أخبار الآن | درعا – سوريا – (يمنى الدمشقي)

لم يستطع أن يكتم نبرة الحزن بين كلماته، يحكي عن الأيام والسنوات التي مرت عليه كعجوز كهل وهو لا يزال فتى، يستذكر أيامه الخوالي وطفولته ببسمة ثم لا يفتئ ينتقل إلى حاضره الكئيب.

هكذا بدأ "ع.أ" والذي رفض الكشف عن اسمه بسبب المخاطر الأمنية التي قد تلاحقه، إلا أنه حاول أن يسرد لنا تفاصيل ما حدث قبل أربعة أعوام، ربما لم تسعفه ذاكرته في تذكر كل شيء، لكنه حاول أن يستحضر هذه الأحداث واضعاً أمامه تاريخ بداية ثورة، ربما لم يكن يدري أنه قد يكون سبباً في إيقاد فتيلتها.

يروي "ع.أ" أن الأحداث بدأت تتوتر في درعا في الفترة بين 12-15 فبراير 2011، حيث كانت مجموعة من الأطفال تجلس بالقرب من كولبة الشرطة في مدينة درعا، لأن الأمن السوري كان يمنعهم من الجلوس هناك، سيما أن هناك حالة من التوتر والغليان في الشارع العربي، حيث تبادلت الدول العربية أدوار الثورات وخشي النظام من أن يصل الدور إليه، فكان يراقب أية حركة مهما بدت بسيطة وعادية بحذر.

يقول، أحد أطفال درعا، الذين أشعلوا المظاهرات في المحافظة، لتعم بعدها عدة مدن سوريا، لـ"أخبار الآن": "كتبنا شعارات ضد النظام على حيطان المدرسة، فاعتقل الكثير منا"، مشيراً إلى أنهم لم يكونوا يعوا ما كتبوه على الجدران إلا من خلال ما يسمعونه يومياً على نشرات الأخبار، إلا أن التهم التي وجهت إليهم كانت كافية في أن تقضي على مستقبلهم جميعاً.

ويضيف: "تم احتجازنا في البداية في مخفر البلد، ثم نقلونا إلى الأمن الجنائي ثم إلى الأمن السياسي، ثم تم تحويلنا إلى الأمن العسكري، بعدها حولنا إلى محكمة عسكرية ثم ميدانية ثم أودعونا في سجن غرز المركزي حتى تم الإفراج عنا".

يتحدث "ع.أ" عن الأيام العصيبة التي قضاها في السجن، وعن الناس الذين التقى بهم وهم معتقلون قدامى جداً لدى النظام، لم يكن أحد يزورهم أو يسأل عن مصيرهم، ربما كانوا قد نسوا ما بهذه الحياة، عن كبار في السن دخلوا أطفالاً أو شباناً وأصبحوا مسنين وعجائز في السجن.

ويضيف أنه كان يسمع يومياً صيحات التعذيب والكهرباء التي تكوى بها أجساد المعتقلين، كنت أردد في نفسي "رح يصير فيني هيك، رح أتعذب هيك، أبكي وأرجف".

ويضيف: "كان الكبار هناك يقولون لنا، ستمكثون في هذا السجن إن اعترفتم أم لم تعترفوا، وصاروا يوجهون النصائح لنا بعدم الاعتراف بأي شيء لأن الأمن سيعذبنا بكل الأحوال، دخلت بعدها على المحقق ووجه تهمة إلي أني أنتمي لجماعة إرهابية تعمل لإسقاط النظام، لكني نفيت ذلك، ضربني بشدة حتى أن آثار التعذيب ظلت على جسدي بعد خروجي من المعتقل، لكني ومع هذا رفضت الاعتراف بأي شيء، حتى يأس مني".

ونوه إلى أنه "ومن شدة التعذيب اعترف أصدقائي اعترف تحت الضغط الشديد والتعذيب أنهم من كتب الشعارات على الجدران وهؤلاء قضوا ثمانية أشهر في المعتقل يعانون من ويلات التعذيب".

ويروي "ع.أ" أن أكثر المشاهد ألماً كانت بالنسبة له عندما أحضروا رجلاً مسناً من مسشتفى ابن سينا للأمراض العقلية، وكان يتحدث ويبرر بكلمات غير مفهومة، بدى واضحاً أن الرجل أصابه مس من جنون نتيجة التعذيب الشديد وطول الفترة التي مكث فيها في السجن، والتي ساهمت في وصوله إلى فقدان عقله.

ويقول: "بعدها بدأت شرارة الثورة تشتعل في درعا، وخرج عدد من المعتقلين السابقين من السجن وساهموا كلهم في إشعال الثورة في درعا، وبدأ الأمن السوري ينكل بالمدينة وينال من أهلها وينتقم منهم شر انتقام، كأن الناس كانت بحاجة إلى متنفس لتنفس فيه غضبها، لتحكي عن هذا النظام الذي اغتصب سوريا منذ أربعين عاماً، وبالرغم من أن هؤلاء أنفسهم كانوا يقولون لنا في المعتقل "بدكن يصير فينا متل أيام الثمانينات؟" إلا أنهم كانوا أول من خرج في الثورة بعد إطلاق سراحهم".

يدخل "ع.أ" اليوم عامه العشرين، حيث جرت كل هذه الأحداث أمامه وهو في الخامسة عشر من عمره، ويعيش في الأردن وحيداً كثورته تماماً، لا يخفي شعوره بالألم لما حل بسوريا من خراب ودمار، يحكي عن مشاهداته للعائلات المنكوبة وماذنب الأبرياء فيما حصل، ثم يسهب بالحديث عن عائلة حمصية يعرفها في الأردن لا معيل لها سوى أطفالها الصغار الذين يتجولون في شوارع الأردن يبيعون العلكة، حيث أن أبيهم مصاب، ولأجل هذا ترك هؤلاء الصغار دراستهم وباتوا مسؤولين عن إعالة أسرتهم.

أما "ع.أ" فيقف كغيره من شباب سوريا، على طابور المستقبل المجهول، ينتظر ما تخبئه له الأيام من فرص دراسية بعد تقدمه للائتلاف للدراسة وإصابته بالخيبة عندما علم أن الشهادات الدراسية للائتلاف غير معترف بها، فلا يملك الصبي إلا أن يسافر! لكنه لا يملك جواز سفر، يصمت بحسرة ويقول قد يكون كل ماحدث مسيراً لهذا البلد إلا أن هناك شيئاً داخلنا يجب ألا يموت وهو ما سننتصر به، إرادتنا ووقوفنا بجانب أنفسنا لنكون ثائرين بحق، وثوار كرامة حقيقية.