أخبار الآن | دمشق – سوريا – (يمنى الدمشقي)

لم تكن الصرخة الأولى في دمشق تعبيراً عن حالة احتقان وغضب فقط، لم تكن تتلمس تغييراً سطحياً في البلاد الغارقة في مستنقع استبداد وفساد، كانت الشرارة الأولى لثورة تغيير حقيقية.

مدينة الياسمين كما يطلق عليها محبوها لم تعد مدينة ياسمين، غرقت المدينة بالموت طيلة أربع سنوات، لم تنجُ من الحرب الهمجية التي يشنها بشار الأسد على السوريين ولا يخفى على أحد أن دمشق باتت سجناً كبيراً على أهلها، وفي هذه الأيام لم تعد دمشق للدمشقيين حيث تحولت إلى مستعمرة إيرانية حقيقية.

فمنذ اندلاع ثورة تونس ثم الثورة المصرية تحمس العديد من شباب العاصمة لتنظيم مظاهرات دعماً لتلك الثورات وللمطالبة بالإصلاح ومكافحة الفساد وإطلاق الحريات، لكن هذه التحركات بقيت خجولة ومحدودة العدد وكانت تفرق بسرعة من قبل قوات الأمن ويعتقل من يشارك فيها، لكن يوم 15 من آذار 2011 شهد خروج العشرات من أبناء العاصمة تلبية لدعوة أطلقها عدد من الناشطين على مواقع التواصل الاجتماعي أسموها "انتفاضة 15 آذار" للمطالبة بالتغيير الديمقراطي. 

وبعد أيام ارتد صدى أحداث مدينة درعا التي تقع جنوب دمشق على كافة مناطق العاصمة التي شهدت احتقاناً واضحاً وانتشاراً كثيفاً لقوى الأمن والمخابرات لكن هذا لم يمنع دمشق من أن تكون في مقدمة من خرجوا في مظاهرات عارمة نصرة لدرعا واحتجاجاً على عنف النظام ووحشيته في التعامل معها، فانتفضت أحياء برزة والميدان والقابون وجوبر والمزة وكفر سوسة والصالحية، وهو ما تعامل معه النظام بوحشية كبيرة فقد شاهد سكان دمشق بأم الأعين سيارات الدفع الرباعي التي تحمل الرشاشات المتوسطة وهي تتجول بين أحياء دمشق وتطلق النار على المتظاهرين العزل ما أدى إلى مقتل وجرح العشرات وحين بدأت الأحياء بتشييع ضحاياها عاوت قوات الأسد الكر مرة أخرى بغية إرهاب الناس وثنيهم عن الخروج مرة أخرى ما أدى إلى سقوط المزيد من القتلى والجرحى، لكن ردة الفعل كانت عكسية فكلما قتل النظام أكثر كان يتضاعف عدد المتظاهرين أكثر وتنضم الكثير من الأحياء إلى الحراك السلمي للتعبير عن تأييدها للثورة ضد الأسد. 

في الجمعة العظيمة سقط في دمشق وحدها عشرات المتظاهرين وخرجت معظم أحياء العاصمة بمظاهرات تنديداً بنظام الأسد الذي يتربع على عرش القصر الجمهوري المطل على دمشق لكن كثافة الحضور الأمني وتوزع العشرات من الفروع الأمنية ومقرات الجيش وثكناته وأقسام المخابرات والحرس الجمهوري والفرقة الرابعة جعل للثورة في دمشق طابعاً خاصاً فكسر حاجز الخوف وخرجت مظاهرات في أحياء مجاورة لمراكز النظام وهتفت ضد نظام بشار الأسد على مسمع من عناصره الذين لم يتوانوا عن إمطار أي مظاهرة بالرصاص الحي، بالإضافة لقيام الناشطين بتوزيع المنشورات المناوئة لنظام الحكم ورسم شعارات الثورة وطباعة علمها على الجدران، وبعد أشهر قليلة على اندلاع المظاهرات وملاحظة النظام للخطر الكبير بعد امتداد الاحتجاجات إلى معظم الأراضي السورية بدأ بتغيير تكتيكاته لحماية معقله الأساسي دمشق وبدأت حملات المداهمات والاقتحامات للأحياء الثائرة وراحت قوات الأسد تعتقل كل من تشك بمساندته للثورة، وانتشرت الحواجز بين أحياء العاصمة دمشق وعلى مداخلها وحول المساجد والساحات التي تخرج المظاهرات فيها والتي اقتحمت في مرات عدة وسقط فيها العديد من القتلى والجرحى واعتقل العشرات كما حدث في مسجد الرفاعي في كفر سوسة وفي ساحة الحرية في برزة، حيث عمدت قوات الأسد إلى اقتحام هذه المناطق وإخراج أهلها منها وإحضار عشرات من الشبيحة برفقة القنوات الرسمية وتصوير الشبيحة على أنهم من الأهالي ونفي الأخبار عن خروج مظاهرات. 

مارس إعلام النظام الكذب البواح في تغطية أحداث العاصمة ولا احد في سوريا ينسى ادعاء قناة الأخبارية بأن مظاهرات الميدان خرجت لشكر الله على نعمة المطر، وفي نهاية العام 2011 ومطلع 2012 ومع بدء الثورة بالتسلح شهدت العاصمة العشرات من عمليات التفجير في المقرات الأمنية وحواجز الشبيحة وقامت خلايا من الجيش الحر باغتيال عدد من ضباط النظام من المسؤولين عن قتل المتظاهرين وتطورت العمل العسكري في العاصمة وسجل اخترقات كبيرة في صفوف النظام حيث هوجمت وزارة الداخلية ثم تم تفجير مبنى الأمن القومي وقتل أعضاء خلية الأزمة وهم أبرز مسؤولي نظام الأسد وفي هذه الأثناء تحولت الأحياء الثائرة إلى ساحات للتنكيل والقنص والقصف فيما ساد الحذر باقي أحياء العاصمة واقتصر الحراك فيها على مظاهرات محدودة ونشاطات داعمة للأحياء الثائرة، واستمرت أحياء دمشق على هذه الحال إلى مطلع العام 2013 عندما ترنح النظام وتقوقع حول مقاره وثكناته في دمشق وبدأ بالقصف عن بعد وأمعن في استخدام الأسلحة الثقيلة الفتاكة في قصف الأحياء الثائرة كالقابون وجوبر وبرزة والميدان، ومناطق جنوب دمشق فسارعت كتائب الحر إلى تحرير المناطق الثائرة وطرد عناصر النظام منها والسيطرة على مقاره وثكناته وهو مادفع قوات الأسد إلى تكثيف وجودها الأمني في العاصمة ونشر الحواجز لتقطيع اوصالها وغطت كل مداخلها وشوارعها وأحياءها وشهدت أطراف العاصمة معاركاً طاحنة نتج عنها تدمير أحياء بأكملها وضرب الحصار على هذه المناطق وجوع النظام الآلاف من السكان، وكان هذا العام الأسوأ على دمشق وأهلها، الذين تشردوا بين نازح ولاجئ ومنفي، وبات كل من يساعد نازحاً ولو برغيف خبز يتهم بأنه ينتمي لخلايا إرهابية الأمر الذي نتج عنه حالات اعتقال واسعة جداً امتدت للنساء والأطفال.

وعاشت دمشق حالة من الصمت المطبق يومياً لم يكسره سوى أصوات المدافع التي كانت تقصف مناطق دمشق ومحيطها وتدوي في كافة أحياء العاصمة حتى بدأت موجة المصالحات مطلع 2014،وقبلها فرض النظام الهدوء بالنار والترهيب على بعض الأحياء الثائرة ككفر سوسة والمزة والميدان فيما هادنت أحياء القابون وبرزة النظام بعد أن دمرت بشكل شبه كلي وتشرد كل من كان فيها، وعاد الهدوء بشكل نسبي إلى العاصمة، لكن هذه الهدن وفرض المصالحات على بعض المناطق لم ينهي الثورة إنما تم فرض الأمر الواقع ففي دمشق اليوم ذروة المعاناة السورية حيث تنتشر ظاهرة التسول والعائلات التي تقطن الحدائق والغلاء الفاحش الذي سيطر على سوريا مما أدى إلى انتشار الفقر وضعف القدرة الشرائية في ظل تضخم سكاني مرتفع جداً نتيجة حركة النزوح التي شهدها الريف وعدد من مناطق سوريا إلى العاصمة.

القصف العنيف وروائح الموت المنبعثة من كل الاتجاهات جعلت دمشق ممتلئة بالأوبئة فانتشرت العديد من الأمراض كالتهاب الكبد الوبائي والالتهابات المعوية وحالات التسمم المتنوعة وسجلت عدة إصابات بالكوليرا والسل نتيجة تلوث مياه الشرب والهواء والغذاء، حتى بات يمكنك القول أن دمشق لم تعد مدينة للياسمين بل باتت مدينة للموت والأمراض.

تحولت دمشق مع نهاية العام الرابع للثورة إلى ثكنة عسكرية ضخمة حيث يتمركز في شوارع العاصمة وحدها أكثر من 350 حاجزاً والمفارقة أن معظم من يقفون على هذه الحواجز من جنسيات أجنبية من التابعين للميليشات الشيعية الإيرانية واللبنانية والأفغانية والباكستانية وباتت حياة الأهالي تحت رحمة من يقف على هذه الحواجز، وعمد النظام إلى تغيير ديمغرافية العاصمة باغتيال عدد من الوجوه البارزة في العاصمة دمشق وطرد أعداد كبيرة من الأهالي من مساكنهم وتوطين عناصر الميلشيات الشيعية بشراء العقارات والاستيلاء على منازل وأملاك المعارضين كما سمح النظام لعناصر الميليشات الشيعية بممارسة طقوسهم الدينية بشكل علني ومستفز لسكان دمشق فأصبح المسجد الأموي ساحة للطم وتحولت العديد من أحياء العاصمة إلى بحور من الدم في ذكرى استشهاد الحسين رضي الله عنه في مشهد غير مألوف على الإطلاق لسكان دمشق.