أخبار الآن | تحقيق غياث شهبا

ماهي مهنتك؟
"أتاجر بحرّية المعتقلين، بدموع أمهاتهم وأحلام زوجاتهم، بأنين أطفالهم وأتاجر بآبائهم".
لو كان لضميرهم صوت لقال لنا ما سبق.. ولكن لا صوت لمن لاوجود له.!
سماسرة المعتقلين .. كثير عددهم ، وارباحهم في ازدياد، تنوعت أساليبهم واختلفت رؤوس أموالهم، وحّدهم الكذب وفرقتهم التبعيّة والولاء، فمنهم من يجاهر بثوريته وآخرون يظهرون للنظام الطاعة.

بين هذا وذاك يحجّ أهالي المعتقلين في أقبية أفرع النظام السوري، ليس إيمانا بهؤلاء السماسرة ، بل هم القشة الوحيدة التي تمنع أحلام حرية أبنائهم من الغرق، أحلام غلى ثمنها وزادت ضريبتها كمًا وكيفـًا، مئات آلاف من الليرات وأحيانا الملايين منها، مئات الغرامات من الذهب أحيانا، لأجل خبر عن أبنائهم ، كي يعلموا واقع حياتهم أو استشهادهم، وبعد ذلك مكانهم، ومن ثمّ طرق باب إخلاء سبيلهم ، مآرب تستحق التضحية بكل أموال العائلة والأقارب ، تستحق بالنسبة لأهالي المعتقلين وضع أنفسهم موضع المَدين طيلة حياته، قبل أن يدركوا لاحقا بأن كل أحلامهم وأموالهم وقروضهم ذهبت هباء، بكل بساطة .. كان السمسار كاذبا، أو أحد (معارفه). 

مأساة تكررت
(علاء) ابن عائلة أقل من متوسطة اقتصاديا، هو الأكبر بين إخوته، اعتقل في مدينة دمشق في العام قبل الماضي، باع والده ما يملكه واقترض الكثير من الأموال كي يعرف شيئا عن فلذة كبده، أخذته الأقدار إلى رجل يدعي أنه صاحب علاقات وطيدة مع النظام ، ادعى هذا الرجل أنه فاعل خير لا يريد من هذا العمل سوى التقرب من الله، لكن الموضوع بحاجة لضخ الكثير من الأموال لأصحاب الشأن، من أكبر عنصر أمن وحتى أصغرهم، دفع أبو علاء 400 ألف ليرة سورية كي يعرف مكان ابنه ، علم حينها أنه يقبع في أقبية الفرع 227 التابع للأمن العسكري بدمشق، أغراه السمسار (فاعل الخير) أن يدفع مبلغا مماثلا لكي (يكسروا ملفه) أي يطوى سجل اتهاماته ، فاقترض الأب هذا المبلغ على الفور بعد أيام من الخضوع للناس وتحول حياته إلى (عزيز قوم ذل)، لعب السمسار بصنارته التي سيصيد بها حرية (علاء) فطورا يشدها وتارة يطلقها ، أيام تمر وأسابيع يتخللها أخبار كاذبة للأهل عن ابنهم ، ابتزهم كثيرا بمواضيع تبدو تافهة أحيانا "ابنكم بحاجة إلى (بيجاما )، يشكو من البرد كثيرا ، أعطوني مئة ألف أوصلها له"، خضع الأهل للوسيط فمالهم من غيره حتى لو شككوا بمصداقيته ، أخبرهم هذا السمسار أن وقت حرية ابنهم قد اقترب ، وأن مساعيه (الخيرية) آتت أكلها ومسألة الإفراج عن ابنهم لا تفصلهم عنها سوى ساعات ، وبعض الليرات..!
"فقط 200 ألف ليرة وسترون ابنكم في منزلكم هذا"، ذلك ما قاله السمسار، يعود أبو علاء إلى مسلسل الاقتراض وكسر النفس ، ويحضر المطلوب ، وتستمر المماطلة بعد ذلك أسابيع عدة ، يغلق السمسار هاتفه المحمول بوجه أبي علاء ، وربما بوجه عشرات الأسر المماثلة .
شهران ونصف بعد ال200 ألف المسمّاة ( أموال الفرج)، وإذ باتصال هاتفي لأبو علاء من فرع الأمن العسكري ،" ابنكم مات ، تعوا استلموا هويتو وغراضو" ….!

شبكات منظمة.. ومشروعة..!
سماسرة المعتقلين هم أشخاص تفاوتت أدوارهم ومهنهم الأصلية ، في الغالب لا يستطيعون العمل بمفردهم ، فهم شبكات تحوي العديد من السماسرة ، من ضباط ومحامين ومجندين في الأفرع وموظفين ، حتى رئيس الفرع يكون له نصيب وافر من عمليات السمسرة هذه، تدر الوساطة بين أهالي المعتقلين وهؤلاء السماسرة مردودا ماديا هائلا ودخلا أساسيا لا غنى عنه ، فالأجر الشهري الذي يعطيه النظام لعناصره لا يكفي التعويل عليه بشيء إذا ما قارنّاه بعملية السمسرة تلك، لذلك لا يخفى على النظام هذه العمليات التي يقوم بها الضباط بالعلن ، بل يشجع النظام ضباطه على القيام بهذه العمليات كي يستمروا في ولائهم له، باستطاعة ضباط الفروع أن يفصّلوا التهمة التي يرونها تدر الأموال على المعتقل ، دون وثائق ودون إثباتات ، فبقليل من الوقت وكثير من التعذيب يؤخذ الاعتراف من المعتقل ، فتلصق التهمة التي يريدونها ولا تُزال إلا بإرادتهم ، وبتحصيل الأموال التي يحددوها.
   
دُوَيلة داخل دولة..
لكل فرع دولته الخاصة ، واستقلاليته الخاصة في عالم السمسرة ، فكل واحد منهم يتفاخر أمام نظراءه من الأفرع في وسائل التعذيب وأساليبه لابتزاز أهالي المعتقلين، التنافس بين الأفرع وضباط كل منهم قد يبلغ مرحلة العداء، وكل ذلك يكون ضحيته المعتقل نفسه ،  (أبو محمود) معتقل سابق ، يروي لنا قصة معتقل آخر اسمه (باسل) كان بجواره في الزنزانة الإفرادية، " أعطى باسل شابا كان معنا في المعتقل رقم والدة باسل كي يطمئنها عن صحته في حالة خروجه الذي كان متوقعا، وخرج بالفعل" ، يضيف أبو محمود " بعد شهرين من خروج هذا الشاب استدعي باسل للتحقيق وتم تعذيبه بطرق أفظع من السابق، قال لي باسل حينها : سألني المحقق، من لك في القصر الجمهوري يا….. وانهال عليّ في الضرب.  أُفرج عني بعد فترة وجيزة وعلى الفور زرت أهل باسل الذين أوضحوا لي بأنهم دفعوا مئات الآلاف لأحد ضباط القصر الجمهوري الذي وعدنا أنه سيتصل بضابط مهم في الفرع الذي يبيت فيه باسل، وسيطلق سراحه ، أخبرت أهل باسل أن وساطتهم كان لها مفعولا عكسيا ، وأن الأموال التي دفعوها زادت الآلام على ابنهم ، ليصلهم بعد ذلك خبر استشهاد باسل تحت التعذيب ".

لا يجوز لأحد الضباط أن يستحوذ على (غنيمة) زميل له، ففي عرف المعتقلات وقانون الأقبية المظلمة لكل مكان نظامه الخاص به ، ولا يخاف أحد من أحد ، وأما من يتخطى حدوده من بين الضباط ، فسيرى في المعتقل الذي تواسط من أجله وقبض ثمنا لذلك النتيجة المأساوية.

الفيس بوك .. أحد الاساليب
تحولت عملية السمسرة هذه إلى ظاهرة انتشرت في وسائل التواصل الاجتماعي، وفي مقدمتها (الفيس بوك)، للسرقة هنا رأس مال بسيط لا يتخطى  عدة حسابات وهمية بالفيس بوك ، تروي لنا (سهام) وهي معتقلة سابقة حكاية النصب هذه وأساليبها، " يوجد لدينا صفحات مغلقة خاصة بجلب أخبار المعتقلين ، كي يطمئن الخارج من المعتقل أهل السجين الذي مازال في الداخل عن صحة ابنهم ومكان تواجده وأوضاعه العامة".
بعض الأشخاص من العاطلين عن العمل وضعاف النفوس ، يؤسسون حسابات وهمية على الفيس بوك تضع أسماء غير حقيقية تدل على أن صاحب هذا الحساب كان معتقلا ، أو تدل على أنه من قادة الثورة السورية، يستطيعون من خلالها الدخول إلى هذه المجموعات المغلقة بسبب (قلة الحذر ) من مدراء تلك الصفحات ، وتضيف سهام " أحدهم سرق من صفحة أديرها العديد من المعلومات السرية ونشرها على الفيس بوك باسمه ، كي يظهر على الملأ أنه ملم بمواضيع المعتقلين وأنه يستطيع الإفراج عنهم، وبسبب هذه التسريبات تعرضت معتقلة سابقة للاعتقال مرة أخرى ، كون هذا الشخص نشر الأسماء علانية أو بمجموعات يتخطى عدد الأعضاء فيها الثلاثين ألفا..! "

أخبرتنا سهام أن هذا الشخص استطاع أن يصل إلى أهالي المعتقلين عن طريق المعلومات المتوافرة لدينا ، ونسبها له وتقرب منهم وكسب ثقتهم كون معلوماته المسروقة صحيحة وواقعية، وبعد أن يقع الأهل في كمين الثقة، يبدأ هذا السمسار باقتراح أشخاص آخرين بحسابات وهمية أخرى لأهل المعتقل ، فهو لا يريد منهم كالعادة (إلا الدعاء)، يدعي صاحب الحساب الوهمي أكاذيب كثيرة ، فأحيانا يخبر الأهل أنه على صلة بالجيش الحر وأن الجيش الحر سيعقد صفقة مبادلة وسيوضع ابنكم في هذه الصفقة ( المضمونة ) مقابل آلاف من الدولارات ، وأحيانا يظهر لهم أنه قادر على التوسط برجالات فروع الأمن وأن له منافذ كثيرة فيها.
تحويل الأموال يتم أيضا بشبكة محكمة الدراسة والتدبير في مختلف الأماكن والمدن ، توضح سهام بأن أحد السماسرة قبض من أهل صديقتها مبلغ خمسة آلاف دولار من خلال (موظف) عنده في تركيا، بعد أن جلب بعض المعلومات الصحيحة عن ابنتهم من صفحتها على الفيس بوك وأضاف إليها بعضا من المعلومات الكاذبة التي لفقها ، وكالعادة .. لم تخرج ابنتهم بعد…

الاتهام بالعمالة للنظام .. أحد أساليبهم..
ليس بالضرورة أن يكون السمسار عميلا للنظام ، فقد يكون (ساذجا) ويهمه الشهرة التي سيجنيها من جني المعلومات  والتي ستساعده في ( أعماله)  ،يوجد العديد من السماسرة المطلوبين أمنيا من قبل النظام حسب سهام.

 قررت الأخيرة  فضح هذا السمسار، عن طريق كشف اسمه الوهمي ، ولكن كان لذلك نتائجه العكسية ، فقد حشد هذا السمسار كل جماهيريته المزيفة لإغلاق حسابها على الفيس بوك ، وبدأت حملات التخوين تجاهها واتهامها بالعمالة للنظام على الرغم من تاريخها المشهود في النشاطات الثورية الذي أدى لاعتقالها أكثر من مرة .

"لهذا النوع من السماسرة شبكات ضخمة" يضيف محمود ، المعتقل السابق، "عندي صديق دفع أكثر من نصف مليون ليرة لمكتب محاماة في حي المهاجرين بدمشق، ادعى (ملهم) وهو السمسار هنا، أنه قادر على الإفراج عن ابن عم صديقي، ولكن أمواله ضاعت هدرا".

ليسوا الأفضل ، ولكنهم الوحيدون..!
لا يستطيع أحد إلقاء اللوم على أهالي المعتقلين، حتى لو وصلت محاولاتهم المتكررة للإفراج عن أبنائهم مرحلة الغبن، فمن يدخل في سجون النظام من النادر خروجه سالما ، لم يعد هناك معتقل يدخل إلى الأقبية ويخرج بعد أسابيع كما في السابق، يدرك أهل المعتقلين أن الموت قريبا جدا من ابنهم فور دخوله المعتقل، يدفعوا الباهظ والنفيس كي يعلموا أي شيء عن ابنهم حتى لو كانوا على دراية أن السمسار قد يكون كاذبا ، ولو بنسبة تسعين بالمئة ، فالسمسار بالنسبة للكثير منهم ليس الأفضل ، ولكنه الوحيد..!، (أبو فواز) ، معتقل سابق أيضا، " فور اعتقال خالي استطعنا أن نصل لأحد سماسرة الفيس بوك ، كان الشك يدور في أذهاننا بمدارات واضحة، ومع ذلك خنعنا للأمل الوحيد الذي بإمكاننا أن نصل إليه ، فدفعنا للوسيط 500 ألف ليرة بغية الإفراج عن خالي، وبعد أشهر، وصلنا خبر وفاته تحت التعذيب".

يصعب إنهاء ما سبق بمجرد نقطة أو إشارة تعجب أو استفهام..
لا توجد إحصاءات رسمية تفيد بعدد الذين خُدعوا من سماسرة المعتقلين ، إذ أن غالبية هذه الأعمال لا تتم إلا بالخفاء من قبل كل الأطراف، لابد من القيام بالعديد من عمليات الإرشاد تجاه أهالي المعتقلين ، وتجاه صفحات الفيس بوك التي تنادي بحرية المعتقلين ، لذلك قام العديد من النشطاء بإنشاء صفحات توعوية تهدف إلى الحذر من سماسرة الفيس بوك والسماسرة من نوع آخر، تحاول هذه الصفحات تنبيه المعتقلين بعدم نشر المعلومات إلا بالمجموعات المغلقة التي يضمن أعضاؤها عدم اختراقها، وعدم انسياق أهالي المعتقلين وراء أولئك السماسرة ، فبعضهم كالنظام في إجرامه ، وآخرون يسرقون بكذبهم ويدعون أقوالهم باسم الثورة، وهم أشد جرما.