أخبار الآن | دمشق – سوريا (جابر المر)

مَنْ مِنْ السوريين لا يتذكر لافتاتهم؟ ومَنْ مِنْ الدمشقيين لا يتذكر المظاهرات التي سعوا لإخراجها حتى منتصف العام 2013، ولأنهم "الشباب السوري الثائر" حاول النظام جاهداً سحق بضعة شبان ضيقوا عليه وأحرجوه في وكره عن طريق لافتات كرتونية عبّرت عن السوريين وعبارات كتبت على جدران العاصمة دمشق، فدبر اعتقالهم جميعاً وبعد أن نجح في ذلك قتلهم في المعتقلات.. فلم يبقَ منهم سوى "حمزة الحمصي".

يقول الحمصي لـ"أخبار الآن": "كنا مجموعة شبان لم تتجاوز أعمارنا خمسة وعشرين عاما، عملنا على إطلاق العمل من الشهر الأول 2012 بمشاركاتنا للفاعلين على الأرض بدعوات التظاهر بدمشق، وبتاريخ 1 أيار 2012 كان إعلان اسم التجمع، وخرجت أول مظاهرة باسمه".

خرجت المظاهرة الأولى بعد البيان الذي أصدره التجمع، والذي جاء فيه: "نحن نؤكد على جميع حقوقنا ومطالبنا في المواطنة، والفصل التام بين السلطات التشريعية والتنفيذية والقضائية وذلك نحو دولة مدنية تتسع للجميع (…) فأرواحنا لا تقبل الاحتكار، وهي حرة طليقة وها نحن قد اخترنا قطار الحرية لنبني وطنا يتوفر فيه قانون بدواعم توفر حياة حرة كريمة لجميع المواطنين".

من دمشق

اتخذ التجمع من ساحة ركن الدين في العاصمة دمشق منطلقا أساسيا لجميع تحركاته، التي سرعان ما توسعت بضم شبان آخرين، وأصبح عمل التجمع يشمل معظم أماكن التظاهر في العاصمة، فإن لم ينظموا تظاهرة في أحد أحياء دمشق كانوا السباقين إلى الانضمام إليها، ورفع اللافتات التي عرفها وحفظها الدمشقيون، لافتات كانت ثورية ومطلبية، وتحمل التضامن للمناطق الأخرى التي كان يدكها النظام بينما الشباب الثوري الثائر ينخر مناطق النظام بمظاهراته، وتعد ركن الدين، وبرزة، وحي الصالحية الدمشقي القريب من البرلمان، وحي القابون، من أبرز الأماكن التي عمل التجمع على إخراج مظاهرات فيها. والأهم أنه في الوقت الذي كانت أحداث الثورة على الأرض تاخذ أشكالا متعددة من العنف، كان الشباب الثائر يسعى دائما إلى الحلول السلمية التي يعتبرونها رديفة لنضال الجيش السوري الحر في تلك الفترة، فيهتفون له، وينتقدون خطأه باللافتات، فأصروا على التظاهر إلى منتصف عام 2013.

فخ النظام

اشتدت قبضة النظام الأمنية أكثر على دمشق في منتصف العام 2013، وأصبح من غير الممكن التجمع من أجل التظاهر، فاستمر الشباب السوري الثائر بنشاطهم الذي عاد لمرحلة العمل السري، فوزعوا المناشير في العاصمة، ورسموا وخططوا على جدرانها، وخلال تلك المرحلة كانوا يحضّرون لمظاهرة كبيرة تخرج في دمشق في أول أيام العام 2014، يرافقها مضخمات صوت تتوزع بسرعة شديدة على أحياء دمشق كلها، وتبث أغاني القاشوش والساروت مذكرة بعهد الثورة الأول.

يقول الحمصي: "كان الأمن يراقب تحركاتنا، وأظن أنه كان على علم بأمر هذه المظاهرة التي خططنا لها مع عدد كبير جدا من نشطاء العاصمة، ومن خلال مراقبتهم لهاتفي حصلوا على معلومات مؤكدة، وتم اعتقالي على باب الجامعة أنا وصديقي في تمام الرابعة عصرا من يوم 30/12/2013، وبعد عدة ساعات في تمام الثانية بعد منتصف الليل أحضر باقي أعضاء التجمع للمعتقل، قبل ساعات على تنفيذ ما كنا قد اتفقنا عليه".

وبينما كانت إذاعة "شام إف إم" الموالية للنظام، بل أكثر من ذلك هي أحد أذرع النظام الإعلامية، تبث الخبر التالي: "قامت قوات الأمن السوري بالقبض على خلية تجسس تعمل لصالح اسرائيل وعلى تراسل مع الموساد الإسرائيلي مؤلفة من 7 شباب في حي ركن الدين في دمشق"، كان الأمن السوري قد داهم بيت أحد مؤسسي التجمع، وكانوا كلهم مجتمعين في ركن الدين وعددهم سبعة بالفعل ثلاثة شبان من المؤسسين وأربعة من أعضاء التجمع، وبعد أيام تمكن أمن الأسد من اعتقال المؤسس الأخير.

في المعتقل

وفي فرع الموت، اجتمع أعضاء التجمع، يقول حمزة: "أغمي علي أثناء إحدى جلسات التعذيب التي تكررت كثيرا في اليوم الأول، وصحوت في المهجع بحضن اثنين من أصدقائي، للوهلة الأولى ظننت نفسي واهما".

تعرض الشبان لكل أنواع التعذيب، حمزة كان له نصيب كبير كونه من أبناء الطائفة العلوية، وهو الأمر الذي استفز المحققين أكثر واعتبروا خيانته مزدوجة للوطن وللطائفة، حسب تعبيره.

ثلاثة شبان من أصدقاء حمزة استشهدوا أمام عينيه، أولهم وهيب الذي تعفن جرح في ساقه ناجم عن التعذيب، ولم تنفع كل محاولات المساجين لإنقاذه، ثم استشهد الأخوان محمد محمد ويسار محمد، "محمد" مريض السكري الذي وهن جسده وساعد تعفن جرح في ساقه على نقص المناعة في جسده فتوفي في المعتقل، أما "يسار" ساءت صحته كثيراً مما دفع بالمساعد إلى إرساله إلى غرفة العزل، وهي غرفة مخصصة لمن هم على وشك الموت كي يموتوا فيها، وهناك طلب يسار أن ينقل إلى مشفى تشرين العسكري، ولم تفلح محاولات زملاءه لردعه عن طلبه لأنهم يعلمون أنه سيموت في هذا المسلخ، وهذا ما حصل فعلاً.

خرج "حمزة" من المعتقل بعد أن كان متأكدا من أنه سيموت هناك، وأنه سيلقى مصير أصدقاءه، إلا أن القدر نجاه، وبعد فترة قريبة عاد الأمن العسكري ومن نفس الفرع 215 لمداهمة منزله واحتجازه في سيارة لمدة ست ساعات، وقالوا إنهم يراقبونه ولن يتركوه وحيدا، مما اضطره للهرب إلى تركيا، حيث بدأت تصله أخبار أصدقاءه في المعتقل تباعا، وباستشهادهم تحت التعذيب واحداً تلو الآخر.

تهمة الشباب الذين استشهدوا هي تأسيس أو الانضمام إلى تجمع الشباب السوري الثائر، الذي يسميه محققو الفرع 215 (الشباب السوري الثائر الإرهابي الصهيوني) والذين قتلوا شبابه بدم بارد بعد أنا أضافوا إلى هذه التهمة تهم ما أنزل الله بها من سلطان.

التجربة انتهت

من تركيا، يراجع حمزة التجربة، ويتذكر أصدقاءه "أجمل شباب سوريا" حسب وصفه، ويسرح فيما آلت إليه أمور الثورة التي كانوا جزءا منها وجزء دافع ومذكر دائما بمبادئها التي حاولت الأصولية تشويهها وتحريفها بدفع من النظام، الذي حاول قتل كل ما هو جميل في سوريا، وعزز الإرهاب ليقنع العالم بأنه على حق ولو على أنقاض سوريا والسوريين.

نسأل حمزة ما الذي ينوي فعله اليوم، يبتسم ويجيب: "أنا حالياً عاطل عن العمل، وأسعى إلى مشروع توثيق ما يجري في المعتقلات، لدي الوقت ومستعد لتقديم أي جهد كي لا يموت المعتقلون بصمت، لكن على ما يبدو لم تعد المؤسسات التي قامت من أجلنا شغوفة بعمل كهذا وقد أعمتها الدولارات عن دم أجمل شباب سوريا" .

التجربة انتهت بزوال أصحابها، لكن الثورة لم تنته، والشباب السوري الثائر هي حالة من حالات كثيرة، جميلة وصادقة أفرزتها الثورة السورية وستظل تفرزها إلى أن يسقط الطاغية.