بعد ثلاث سنوات من إندلاع الثورة السورية يواجه النظام السوري أزمة داخلية رهيبة لم يشهدها منذ الشهور الأولى لبداية الصراع.
الانشقاقات، والهرب من التجنيد، وأكثر من 44 ألف قتيل اثناء القتال قللت عدد جنود النظام السوري من 325 ألف عنصر قبل الثورة ، إلى ما يقارب الـ150 ألف عنصر أنهكهم القتال.
بالرغم من التعزيزات التي تصل إلى عشرات آلاف من المتطوعين الأجانب وميليشيات حزب الله اللبناني والمليشيات الموالية للنظام ، فإن قوات النظام أثبتت عدم قدرتها على التغلب بشكل حاسم على كتائب الثوار في المعارك.
هذه الضغوطات تفاقمت بانسحاب آلاف رجال المليشيات الشيعية من سوريا في حزيران 2014، ليعاد توزيعهم لمواجهة هجوم داعش الجاري في العراق.
في الوقت نفسه، جرت تغيرات ديموغرافية كبيرة داخل قاعدة دعم بشار الأسد الشعبية -بما في ذلك الجالية العلوية-، كاشفة إشارات متنامية على الاستياء داخل النظام السوري.
المظالم الموجودة سابقا، والمرتبطة بالقمع وعدم المساواة الاجتماعية، اندمجت مع أعداد قتلى كبيرة وتوتر اقتصادي مرتفع، لتعزز حالة من الاستنزاف بين داعمي النظام.
مواجها بجماهير أنهكها القتال وعجز متزايد في القوة البشرية يهدد بقاءه، لجأ النظام السوري إلى حملة تجنيد شاملة للبلاد، مهددا بمزيد من التقسيم بين النظام وقاعدته.
الرسم البياني لملامح برنامج التجنيد وتفاعله مع عدم رضا العناصر الموالية للنظام من الشعب السوري أمر ضروري لفهم الحالة المستقبلية للقوى الداعمة للنظام، والمسار الكلي للصراع في سوريا.
المؤسسة السورية تقدس الخدمة العسكرية الإجبارية كـ"واجب مقدس" لكل مواطن سوري. الشباب الذين يصلون إلى 18 سنة أو أكثر يجب أن يخدموا في الجيش لـ18 شهرا كمجندين، ويظلون في احتياط الجيش حتى يصلوا الأربعين.
على أي حال، تشير التقارير إلى أن تجنب الخدمة وصل إلى مراحل صاعقة. الناشطون في محافظة السويداء، ذات الأكثرية الدرزية، قالوا إن هناك 450 من 8000 شاب شاركوا في الخدمة العسكرية في 2012، بينما 250 من 7000 مؤهل للتجنيد دخلوا في قوائم الاحتياط في الفترة نفسها.
آلاف الشباب السوريين اختبؤوا في المناطق الريفية بعيدا عن المراكز المدنية، لجؤوا إلى مناطق المعارضة لتجنب وصول قوات النظام السوري، أو استخدموا شبكات التهريب ليخرجوا إلى لبنان أو تركيا أو مصر.
لتجاوز هذا التحدي، قام النظام بسلسلة من الحوافز والمراسيم الإدارية والحملات التي تتضمن:
1- تعبئة كبيرة من قوات الاحتياط: في النصف الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر 2014، أعلن النظام عن سلسلة غير مسبوقة من حملات تفعيل قوات الاحتياط في بعض المراكز المدنية الكبرى.
في العشرين من تشرين الأول/ أكتوبر، أقر النظام تعبئة عامة لكل قوات الاحتياط المولودين في أو بعد 1984 في مدينة حماة، حيث قال الناشطون إن أكثر من 1500 رجل اعتقلوا لأخذهم للخدمة، على الحواجز أو في الاجتياحات التي استمرت أربعة أيام. الناشطون والشهود نقلوا أن النظام قام بحملة مشابهة في مدينة حمص، في نفس الفترة الزمنية، معتقلين ما يقارب الـ1200 رجل.
تعبئة عامة بدأت في دير الزور كذلك، المعروفة بالصراع بين النظام وداعش، في الـ27 من تشرين الأول/ أكتوبر. بشكل عام، هذه التعبئات سبقت بمحاولات تحفيز من النظام لحشد آلاف المجندين السابقين للدخول في الاحتياط. قوائم "تعبئة الاحتياط" ضمت ما يقارب الـ70 ألف اسم، ووزعت على الحواجز في كل سوريا، مهددة كلا من السكان المحليين والنازحين من شرق سوريا بالحشد.
بشكل مثير للاهتمام، امتنع النظام عن القيام بحملات تعبئة عامة كهذه في مراكز دعمه المركزية، كدمشق أو الساحل، حيث حدد نفسه باستدعاء قوات الاحتياط بمختصين "معينين ومهمين"، مثل المدفعية الثقيلة أو الدعم الجوي.
2- الحواجز والاجتياحات في مراكز سيطرة النظام السكنية: استكمل النظام تعبئة الاحتياط بحملات مركزة على الشباب الذين يحاولون تجنب الخدمة العسكرية الإجبارية.
الشرطة العسكرية، ضباط المخابرات، وميليشيات الدفاع الوطني وضعوا حواجز متنقلة وقاموا بحملات اجتياح في مناطق سيطرة النظام، في كل محافظة سوريا، من الأحياء التي يسيطر عليها النظام في مدينة حلب شمالا، إلى درعا جنوبا، ومن اللاذقية وطرطوس على الساحل السوري، إلى الحسكة في الشرق.
هذه النشاطات ليست ظاهرة جديدة؛ فقد صنفت الشبكة السورية لحقوق الإنسان ما يقارب الـ5400 اعتقال للتعبئة العسكرية خلال الشهور السبعة الأولى من 2014، بما يقارب 170 اعتقالا كل أسبوع.
على أي حال، يقال إن النظام بدأ باتخاذ إجراءات أكثر صرامة لاستهداف الرجال الذين يتجنبون الخدمة العسكرية.
تشن قوات النظام الآن اجتياحات على الباصات، المقاهي، والأماكن العامة التي يرتادها الشباب، بدلا من الاعتماد على حواجز ثابتة. في بعض الحالات، قامت قوات الأمن بشن بحث ذي طابع عنيف لكل منزل في أحياء كاملة، واحتجزت أي شباب بدون وثائق كافية.
الابتزاز والفساد أمران مزمنان، فيقال إن رجال قوات الدفاع الوطني يقاضون الشباب أو أهلهم بما يصل إلى 600 ألف ليرة سورية (3,300$) لتجنب الاعتقال. الرجال الذين يتم تجنيدهم خلال هذه الاعتقالات، يحصلون على أقل قدر من التدريب، وفي بعض الحالات يتم دفعهم إلى مواقع على الجبهات خلال أيام من اعتقالهم.
3- تحفيز الانضمام للمليشيات التطوعية: عزز النظام كذلك الخدمة التطوعية في قوات الدفاع الوطنية. تمثل كتائب البعث، أو أي مليشيات موالية للحكومية بديلا عن التجنيد أو الخدمة الإلزامية في الجيش العربي السوري.
قوات الدفاع الوطني فتحت في بعض المناطق حملات تجنيد، محفزة الشباب للتطوع مقابل راتب شهري يتراوح بين 25 إلى 35 ألف ليرة سورية، وبطاقة أمنية تجنبه الاعتقال لأجل الخدمة العسكرية، وفرصة للخدمة في نفس البلدة أو القرية.
بالرغم من ظهور تقارير أن المعتقلين يتم إجبارهم على توقيع عقود لمدة سنتين مع قوات الدفاع الوطنية، فإن معظم رجال مليشيات النظام يبدو أنهم متطوعون يستفيدون من هذه الحوافز.
بالرغم من أن وعود النظام بالعكس، فإن أعضاء قوات الدفاع الوطني يستخدمون في الجبهات الفعالة، خصوصا في المناطق التي يشعر بها النظام بالضغط لزيادة قواته.
4- أحكام إدارية لتجنب الهجرة: أصدر النظام بضعة مراسيم في خريف 2014 تمنع الرجال الذين وصلوا لعمر الجيش بمغادرة البلاد، وتجانب الخدمة الإجبارية.
منذ بداية الانتفاضة في 2011، تطلبت الحكومة السورية من الشباب بين 18 – 42 أن يحصلوا على بيان من قسم تجنيد، وإعفاء رسميا من الخدمة، قبل السماح لهم بالمغادرة.
على أي حال، في العشرين من تشرين الأول/ أكتوبر -بالتزامن مع الحملات الكبيرة للتجنيد-، منعت إدارة التجنيد العامة التابعة لوزارة الدفاع كل الرجال المولودين بين 1985 و1991 من مغادرة البلاد تحت أي ذريعة.
في هذه الأثناء، تنظيم جديد آخر طالب كل المسموح لهم بالسفر بدفع 50 ألف ليرة سورية كوديعة مستردة عند العودة للبلاد، للتأكد من أن المسافر لا ينوي الهرب.
5- استخدام شرائح كانت محمية في السابق: أخيرا، حملة تجنيد النظام دخلت إلى شرائح كانت بعيدة من الاحتراق الكامل للخدمة الإجبارية. طلاب الجامعات على سبيل المثال.
بينما كان طلاب الجامعات سابقا قادرين على تأجيل الخدمة العسكرية بتمديد دراستهم، بدأ النظام بنصب حواجز قرب الجامعات في دمشق ودرعا وحمص واللاذقية لاعتقال الشباب لأجل الخدمة العسكرية.
طلاب جامعة اللاذقية على سبيل المثال، أعادوا تسمية الدوار أمام باب الكلية إلى "دوار الاحتياط" بعد أن أخذ ما يقارب الـ200 طالب في حاجز قريب بين 20 تشرين الأول/ أكتوبر، و20 تشرين الثاني/ نوفمبر.
شباب آخرون بدؤوا بالعودة إلى منازلهم بعد أن بدأ مديرو المهاجع بتجهيز قوائم مفصلة للطلاب الذين كانوا يعتبرون جاهزين للخدمة العسكرية. في خطوة تالية لاستهداف حاملي الشهادات، أعلن النظام في 25 تشرين الثاني/ نوفمبر أن مؤسسات الدولة ستقبل فقط أولئك الموظفين الذين أتموا الخدمة العسكرية، بغض النظر عن خلفيتهم التعليمية.
آلية تجنيد أخرى تم تنفيذها على موظفي الدولة. التنظيمات الجديدة تهدد موظفي الدولة بخمسة سنوات من السجن وغرامات وفصل مباشر إذا رفضوا الدخول في الخدمة الإجبارية العسكرية.
الموظفون الحكوميون، والمعلمون، وحتى موظفو المخابز الحكومية يجب أن يقدموا دليلا على عملهم في الخدمة العسكرية ليحصلوا على مرتباتهم، مع إثباتهم الجدارة من خلال قوائم مجموعة من مؤسساتهم وموظفيهم.
السخط داخل الشرائح المؤيدة للنظام
الإجراءات الثقيلة التي قام بها النظام تباعا تؤشر إلى الطبيعة غير الثابتة لما يقوم به النظام من جهود في الحرب.
من الجدير بالملاحظة كذلك، المظاهر العامة المتزايدة للسخط داخل المجتمعات الداعمة للنظام تقليديا، تحديدا الأقليتين العلوية والدرزية.
التحركات الأولى للسخط العام بدأت في نهاية آب/ أغسطس بعد أن سيطر مسلحو داعش على مطار الطبقة في الرقة، وأعدموا ما يقارب 160 جنديا، مشعلة حملة إعلام اجتماعي بين العلويين تشجب غياب الشفافية والكفاءة بين المسؤوليين العسكريين الكبار.
نقطة العدوى الكبيرة، حصلت في الثاني من تشرين الأول/ أكتوبر عندما انفجرت سيارتان مفخختان أمام مدرسة ابتدائية في حي الكرامة ذي الأغلبية العلوية في حمص، مما حشد مئات المتظاهرين إلى الشوارع وأرغم النظام على طرد مسؤوليين أمنيين كبار.
خسارة الإيمان بالنظام هذه، عادت إلى الواجهة مجددا في التاسع من كانون الأول/ ديسمبر، عندما قامت مظاهرات كبيرة في بلدة مصياف الحموية، بعد إشاعات بأن قوات داعش احتلت مطار دير الزور العسكري، مما رفع الخوف من مجزرة ثانية شبيهة بما حصل في مطار الطبقة.
في محافظات الساحل، اللاذقية وطرطوس، ذات الأغلبية العلوية الكبيرة والتي اعتبرت مطولا قلب نظام الأسد، الاعتراضات على ظروف الحياة المستاءة، وارتفاع أسعار الوقود، والخسائر الكبيرة في القتال السوري من تلك المناطق، تفاقمت بدعوات بمزيد من التجنيد، مشعلة مظاهرات صغيرة في الساحل السوري، ضد كل من النظام والثوار.
في بعض الأحيان، تبادل السوريون النازحون في مدينة اللاذقية إطلاق النار مع قوات أمن النظام التي تجتاح أحياءهم للتجنيد. بالرغم من حملات النظام، استمرات مجموعات الناشطين، مثل "علويون سوريون أحرار"، و"حركة أنصار الوطن"، بتعميم نشرات تطالب السكان برفض الخدمة الإجبارية أو التخلي عن نظام الأسد.
يبدو أن الرسالة استقبلت جيدا. حتى العائلات المؤيدة للنظام بقوة، قيل إنها أرسلت أبناءها الذين وصلوا لعمر الجيش لمناطق بعيدة، تصل إلى الجيوب العلوية في لبنان، لتجنب هذه المسودات، بينما أجبر النظام على إغلاق مباني المسافرين في ميناء طرطوس كمحاولة لإيقاف خروج الشباب من البلاد.
في محافظة السويداء، ذات الأغلبية الدرزية، في جنوب سوريا، طبيعة تجنيد النظام الاستعدائية كانت أكثر ظهورا، مما دعا السكان والشيوخ الدروز لتنظيم حملات مقاومة للتجنيد الإجباري.
بعد أن داهم مجموعة من الشيوخ مقرات للنظام، وحرروا ما يقارب 450 شابا معتقلا من أجل الخدمة العسكرية في كانون الأول/ ديسمبر 2013، وافق النظام على "اتفاقية ضمنية" مع دروز السويداء بالتوقف عن حملات اعتقال جماعي مقابل إبقاء ولاء الدروز.
بعد شهرين تقريبا، بعض دوريات التجنيد تم ضربها وطردها من سكان القرى الدرزية، الذين اتهموا القوات المسلحة السورية بأخذ المجندين الدروز إلى أثقل مناطق القتال.
في إشارة أخرى على التوترات المتصاعدة، هاجم سكان القرى الدرزية مخفرا أمنيا للنظام في الثاني عشر من كانون الأول/ ديسمبر واختطفوا ضابط مخابرات في محاولات لتحرير رجل محلي اعتقل للخدمة العسكرية. قام الدروز بمظاهرات في الشوارع ضد الحالة الاقتصادية المتفاقمة، بما ذلك إعلان اعتصام عام أمام ضريح عين الزمان في مدينة السويداء في الثاني عشر من كانون الأول/ ديسمبر.
الحوافز المتزايدة التي تقود حملات التجنيد، بالإضافة للمعارضة بين مجتمعات النظام تضع الجهاز الأمني السوري في مفارقة حادة. المحافظة على العمليات العسكرية في سياق الأكثرية المنهكة من الحرب عملية محتمة بالفشل.
يفهم النظام بوضوح التهديد الذي يحفزه اللعب بين هاتين الديناميتين، ووضع برنامجه بحسبها، متجنبا تعبئة عامة كبيرة في مناطق دعمه الرئيسة، وعاقدا صفقات في المناطق التي يبدو أن سكانها سيثورون على الخدمة الإجبارية.
مظاهر المقاومة المرئية وغير المرئية المتزايدة للنظام تعطي مؤشرا أن نظام الأسد لا يمكنه احتواء هذه القوى المعارضة في المدى الطويل.
إذا كانت الولايات المتحدة تستطيع استغلال الفجوة المتزايدة بين النظام وداعميه، قد تستطيع إيجاد المسافة المطلوبة للتفاوض بشأن تسوية يمكنها أن تشهد خروجا آمنا لبشار الأسد، وهي خطوة ضرورية نحو تحييد سوريا من كونها ملعبا لداعش والنصرة والمجموعات السلفية الجهادية الأخرى التي تمثل تهديدا للمنطقة.