خرج من باب القصر العدلي يتأمل الوجوه من حوله، يتلفت إلى المكان كتائهٍ لا يعرف وجهته، كان حافي الدمين يرتدي بيجامةً رثة، لفتني قصر قامته ونحالة جسده، وعيناه الغائرتان وطفولة وجهه الممتلئ بالبثور الصغيرة، لأكتشف لاحقاً أن عمر الفتى فقط خمسة عشر ربيعاً، اعتقل منذ عامٍ ونصف واقتادوه من طيبة الإمام إلى دمشق لتكون زيارته الأولى للعاصمة التي لا يعرف منها سوى اسمها.
اسم الفتى محمد اعتقل مع أخيه الأصغر "سليم" حين بدأت الاعتقالات العشوائية لكل الذكور في بلدته، هذا ما أخبرني به عندما اطمأن بأني لست عنصر أمن، ثم يبادر بالسؤال: "أين أنا؟"، أجيبه أنت في الشام وهذا القصر العدلي وعلى بعد أمتارٍ تصل إلى سوق الحميدية ألا تعرفه؟، يصمت ويبتسم متنهداً لا أصدق أنني خرجت حياً، لكنني لا أعرف شيئاً عن أخي، جسمه لا يحتمل معاناة السجن، ويضيف: "أنا أعرف ماذا يفعلون في السجن أخي لن يحتمل".
قبل عامٍ استطاع مركز توثيق الانتهاكات توثيق 997 حالة لإعتقال ذكور أطفال في سجون النظام و 38 حالة اعتقال إناث أطفال، وتم توثيق حالات إعدامٍ أو موت تحت التعذيب لمعتقلين أطفال داخل سجون النظام ومراكز احتجازه بحق 73 طفلاً وطفلتين، والطفل حمزة الخطيب ليس بعيداً عن ذاكرة الثورة.
عندما سألت الفتى عن أخيه اعتقدت أنني أتحدث لرجلٍ في الخمسين من عمره، وليس شاباً ما زال مراهقاً، وهو بدوره يخبرني أن ما مضى عليه في السجن يساوي عمراً كاملاً، يلتفت إلى الخلف ويسألني بدوره مبتسماً: أكيد أنت لست أمن؟، أضحك وأخبره أنني أنتظر أملاً بتحويل أحد أقاربي إلى المحكمة، وأسأله إن كان صادفه في أي مكانٍ انتقل إليه لأننا لا نعرف عنه شيئاً، ويجيبني بالنفي.
أسأله إن كان لديه وجهةً سيذهب إليها، لكنه يومئ لي بأنه لا يدري، ودون أن تفارقه ابتسامته الناعمة، يخبرني أن ذاكرته ممسوحة تماماً، لا يذكر حتى رقم هاتف أهله في حماه، لديه قريبة متزوجة هنا في الشام في ركن الدين التي لا يعرفها أين هي تحديداً لأنه لم يأت ولا مرة إلى هنا، ولا يدري كيف سيتواصل معها.
أغير له الحديث حتى لا يلح على ذاكرته، وأسأله إذا ما كان جائعاً يمكننا أن نتناول شيئاً، لكن علينا في البداية شراء ما يلبسه في قدميه، يخبرني أنه مل من البطاطا المسلوقة والعفنة التي كان مجبراً على تناولها يومياً.
تنهيدات الفتى المتقطعة كل خمسة دقائق أجبرتني على سؤاله عن ما لم أشأ أن أذكره به، هل قاموا بتعذيبك؟، يضحك ساخراً: أنا من عذبهم، تصلني إجابته، وأسأله عن تهمته، يقول: حمل السلاح والهجوم على حاجز ومغفر واغتصاب نساء.
وكمن عثر على شيءٍ فجأة تذكر الفتى والدته، وتساءل ماذا فعل بها الزمن في غيابه وغياب أخيه الأصغر لا سيما وأن والده سبقهما للاعتقال ولم يعرفوا عنه شيء.
يبدأ بتذكر رقم هاتف منزله تدريجياً يجرب مرة واثنتين وثلاث حتى يصل إلى الرقم الصحيح، يتحدث لأمه التي لم تصدق بأنه عاد إليها أخيراً، ومنها يصل إلى عنوان ورقم هاتف قريبته في ركن الدين.
محمد ليس الطفل الوحيد الذي دخل إلى سجون الأسد فهناك مئات الأطفال تم توثيقهم ومئات آخرون مغيبون لا يعرف مصيرهم، يتعرضون لأقسى أنواع التعذيب، ويحاكمون أمام محكمة الإرهاب وغيرها من المحاكم، وكثيرون يخرجون من المعتقل لا دليل لهم ولا وجهة لا يملكون المال، ولا حول لهم ولا قوة.