مبادرة الحزام والطريق.. الفساد بنكهة صينية

  • العديد من مشاريع “الحزام والطريق” تقع في مناطق الصراع بدول مثل أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا.
  • سبب الفساد في العديد من الدول هو قيام الصين بتنفيذ الصفقات بسرعة كبيرة ودون مراجعة.

في نهاية سبتمبر 2021 خرجت دراسة صادمة من مركز أبحاث AidData في جامعة ويليام أند ميري في ولاية فرجينيا الأمريكية.

الدراسة كشفت أن هناك 42 دولة منخفضة ومتوسطة الدخل مديونة للصين بما يتجاوز 10% من الناتج المحلي الإجمالي السنوي.

ومن بين تلك الدول، حدد الباحثون 385 مليار دولار في شكل قروض صينية لم تكن مدرجة في الإحصاءات الرسمية، ما فتح الباب للحديث عن مدى فساد مبادرة الحزام والطريق.

من النتائج البارزة الأخرى للدراسة أن ما يقدر بنحو 35% من مشاريع البنية التحتية الصينية تعرضت لفضائح تتعلق بالفساد أو المشاكل البيئية أو انتهاكات العمل.

ديون خفية

على مدى 18 عاما، منحت الصين أو أقرضت أموالا لـ 13427 مشروعا للبنية التحتية بقيمة 843 مليار دولار في 165 دولة، وقد ارتبط جزء كبير من هذه الأموال بمبادرة “الحزام والطريق” الطموحة للرئيس الصيني شي جين بينغ.

ومنذ إنطلاق هذه المبادرة عام 2013، جرت الاستفادة من خبرة الصين في مشاريع البنية التحتية، وتوفر العملات الأجنبية، لبناء طرق تجارية عالمية جديدة.

الصين اتخذت نهجًا جديدًا في توريط الدول في الديون، فبدلاً من تمويل المشاريع عن طريق منح أو إقراض الأموال من دولة إلى أخرى، فإن جميع الأموال التي تقدمها تقريبا تكون على شكل قروض مصرفية حكومية.

ولا تظهر مثل هذه القروض في الحسابات الرسمية للديون الحكومية، ذلك لأن مؤسسات الحكومة المركزية لم يتم ذكرها في الكثير من الصفقات التي أبرمتها البنوك الحكومية الصينية، ما يجعل مثل هذه الصفقات خارج الميزانيات العمومية للحكومة، وتحجبها بنود السرية التي يمكن أن تمنع الحكومات من معرفة ما تم الاتفاق عليه خلف الأبواب المغلقة.

وقد سجلت AidData الديون التي لا تُعرف تفاصيل كافية عنها، والتي تصل إلى 385 مليار دولار.

وتتطلب العديد من قروض التطوير الحكومية الصينية أيضا أشكالا غير عادية من الضمانات، إذ يبدو أن القروض الصينية تتطلب من المقترضين التعهد بالسداد نقدا بالعملة الصعبة من الأموال الناجم من بيع الموارد الطبيعية.

تفرض الصفقة مع فنزويلا، على سبيل المثال، على المقترض الفنزويلي إيداع العملة الأجنبية الناتجة من بيع النفط مباشرة في حساب مصرفي تسيطر عليه الصين. وفي حالة عدم سداد الديون، يمكن للمقرض الصيني سحب الأموال النقدية الموضوعة في الحساب على الفور.

الحزام والطريق.. مشروع الصين لعولمة الفساد وغسيل الأموال

فساد الحزام والطريق

وجد باحثو AidData أن مبادرة “الحزام والطريق” تواجه مشكلاتها الخاصة، إذ يبدو أن هذه المبادرة يشاع عنها شبهة فساد وفضائح في ظروف تشغيل العمالة و قضايا بيئية، بشكل أكبر مقارنة بصفقات التنمية الصينية الأخرى.

وقد تعددت مظاهر الفساد الصينية في مشاريع الحزام والطريق في دول العالم، ونعرض من ذلك بعض الأمثلة:

في 2012 تم اختيار Sinohydro، وهي شركة صينية مملوكة للدولة، لبناء طريقين سريعين في مقدونيا الشمالية، وهي صفقة اعتبرت من أكبر صفقات الفساد في التاريخ المقدوني، حيث تم تضخيم تكلفة المشروع بشكل كبير، وتسببت الصفقة في إسقاط رئيس الوزراء نيكولا جروفسكي وحكومته.

وفي 2019، ذكرت صحيفة وول ستريت جورنال أن المسؤولين الصينيين وافقوا على المساعدة في إنقاذ صندوق التنمية الماليزي الحكومي 1Malaysia Berhad، من خلال تضخيم تكلفة مشاريع البنية التحتية. كما جلب التمويل الصيني الكثير من المخاطر للدول الإفريقية، حيث شابها الفساد بسبب تضخيم التكلفة لزيادة أرباح وعمولات بعض القادة السياسيين الفاسدين.

ووجدت ورقة بحثية استقصائية، أجريت في 2018، على مشاريع صينية في 29 دولة إفريقية، أن السكان المحليين أبلغوا عن زيادات في الفساد، وهو ما لم يحدث مع تمويل البنك الدولي، وخلص المؤلفون إلى أن ذلك يدل على أن الوجود الصيني أثر على المعايير.

كمثال، سيطرت الصين على 15 منجمًا من أصل 19منجمًا لإنتاج الكوبالت في الكونغو، وفشلت الطلبات الأمريكية بفك الارتباط في إرجاع أي منها للكونغو، بسبب العلاقات الصينية مع السياسيين المحليين في مناطق المناجم.

كما قامت الصين بنشر ثقافة الحزب الواحد في الدول الإفريقية، وبدأت تحث الدول على اتباع نموذج الحكم الذي يجسده الحزب الشيوعي الصيني، وقامت برشوة رجال الأحزاب الحاكمة في العديد من الدول للحفاظ على استمرار مشاريعها.

الصين اختارت الدول بعناية

تتضمن مبادرة الحزام والطريق ضخ أكثر من 3.87 تريليون دولار أمريكي في مشاريع تطوير البنية التحتية في 138 دولة، معظمها في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية.

العديد من هذه الاقتصادات تسكن الطرف الأدنى من مؤشر مدركات الفساد لمنظمة الشفافية الدولية .

علاوة على ذلك، تحتل العديد من هذه الدول مرتبة عالية في مصفوفة مخاطر الرشوة TRACE، حيث تتلقى البلدان العشرة الأولى استثمارات الحزام والطريق بشكل أو بآخر، وهي تشمل دولًا مثل اليمن وكمبوديا وميانمار وباكستان والعراق وبنغلاديش وإثيوبيا وسوريا.

كما أن موقف الحكومة الصينية والشركات المشاركة في مبادرة الحزام والطريق يزيد من تعقيد المشكلة. بينما شهدت الصين عدة حملات ضد الفساد على الساحة المحلية في عهد شي جينغ بينغ، لا يتم تطبيق نفس المعايير على الشركات الصينية التي تعمل خارج البلاد.

تجلى التأثير المشترك لهذه العوامل في وقت مبكر جدًا من تطور مبادرة الحزام والطريق. كانت هناك حالات متفشية للرشوة، حيث ورد أن 60-80٪ من الشركات الصينية تدفع رشاوى لتسريع المشاريع، خاصة في إفريقيا  وجنوب آسيا.

الحزام والطريق.. مشروع الصين لعولمة الفساد وغسيل الأموال

رشوة السياسيين

بصرف النظر عن المدفوعات للبيروقراطيين من المستوى الأدنى، كانت هناك أيضًا العديد من الفضائح البارزة التي تورطت فيها شخصيات سياسية بارزة تتلقى مزايا غير قانونية من الشركات الصينية تحت مظلة مبادرة الحزام والطريق. تبرز حالتان بسبب الحجم الهائل للمعاملات غير المشروعة والخطأ الذي ينطوي عليه الأمر.

كان مشروع ميناء هامبانتوتا في سريلانكا مصدر إحراج كبير للصين في إطار شراكة وثيقة مع الرئيس ماهيندا راجاباكسا، استثمرت الصين مليارات الدولارات في تطوير ميناء للمياه العميقة على الساحل الجنوبي للدولة الجزيرة.

سرعان ما دفع المشروع سريلانكا إلى فخ الديون، ما أجبرها على تأجير الميناء للصين كجزء من مبادلة الديون بحقوق الملكية.

بصرف النظر عن تسليط الضوء على مخاطر تمويل المشاريع الضخمة في البلدان ذات التصنيف الائتماني المنخفض (لكل من المستثمرين والبلدان نفسها)، تضمن مشروع هامبانتوتا أيضًا مدفوعات مشكوك فيها تبلغ قيمتها ملايين الدولارات من الجانب الصيني إلى الحملة السياسية لـراجاباكسا في انتخابات 2015.

وتورطت الشركات الصينية كذلك في فضيحة وان إم دي بي، وهي واحدة من أكبر الفضائح في التاريخ المالي. وانتهى الأمر بـGoldman Sachs بدفع غرامات تصل إلى 5 مليارات دولار لمشاركته. كشفت التحقيقات أيضًا كيف طلب رئيس الوزراء الماليزي السابق نجيب رزاق المساعدة من شركات مبادرة الحزام والطريق في غطاء مالي، باستخدام التكاليف المتضخمة لمشاريع البنية التحتية.

في المقابل، كان من المقرر أن تحصل الصين على حق الوصول المطلق إلى مشاريع السكك الحديدية والموانئ الوطنية الرئيسية في ماليزيا. كانت هناك خطط لتزويد البحرية الصينية بوصول عملياتي ولوجستي إلى الموانئ الماليزية، لكن هذه لم تتحقق بعد الإطاحة برزاق.

 

إرهاب وغسيل أموال

تقع العديد من مشاريع مبادرة الحزام والطريق في مناطق الصراع في دول مثل أفغانستان وباكستان والعراق وسوريا. هناك خطر كبير من استفادة عصابات الجريمة المنظمة والميليشيات / المنظمات الإرهابية من تدفق مليارات الدولارات على مشاريع التنمية في المناطق التي تتمتع فيها بنفوذ كبير.

لا يوجد مكان يتجلى فيه هذا الأمر أكثر من ميانمار، وهي دولة ذات أهمية استراتيجية كبيرة للصين. تتمتع ميانمار بتاريخ طويل من الحكم العسكري والعنف الانفصالي، حيث تسيطر العصابات الإجرامية والجماعات شبه العسكرية المسلحة على المناطق النائية. يمر الممر الاقتصادي الطموح بين الصين وبنغلاديش وميانمار عبر بعض هذه المناطق ذات القيمة الاستراتيجية العالية.

في عام 2020، اضطرت الصين إلى اتخاذ خطوة غير عادية بالتنصل تمامًا من مشروع في المنطقة مع العلاقات المعلنة لمبادرة الحزام والطريق. يهدف مشروع مدينة ياتاي الجديدة في ميانمار إلى إنشاء مدينة قمار ضخمة بقيمة 15 مليار دولار أمريكي في منطقة ولاية كارين المضطربة على الحدود بين ميانمار وتايلاند.

استخدم رجال الأعمال الصينيون المعروفون بصلاتهم بالجريمة المنظمة، والميليشيات المسلحة، والمقامرة غير القانونية، والتدفقات المالية غير المشروعة، مشروع ياتاي ومشاريع مبادرة الحزام والطريق لتحويل كميات هائلة من النقد غير المشروع إلى مشاريع “التنمية”، كنوع من غسيل الأموال.

الفساد السريع

سبب الفساد في العديد من الدول هو قيام الصين بتنفيذ الصفقات بسرعة كبيرة ودون مراجعة، ولذلك قال الرئيس السنغالي السابق عبدالله واد إن “العقد الذي يستغرق خمس سنوات للمناقشة والتفاوض والتوقيع مع البنك الدولي يستغرق ثلاثة أشهر عندما نتعامل مع السلطات الصينية”.

استغرق متوسط إتمام صفقات مشروعات البنية التحتية في مبادرة الحزام والطريق، التي وقعت عليها 43 دولة أفريقية: 2.8 سنة، أي ما يقرب من ثلث الوقت الذي يحتاجه البنك الدولي أو بنك التنمية الأفريقي. يقول مركز الدراسات الاستراتيجية والدولية بواشنطن، إن الشركات الصينية من بين أقل الشركات شفافية وفقًا لدراسة أجرتها منظمة الشفافية الدولية على 100 شركة في 15 سوقًا ناشئة.

مع توغل الشركات الصينية في الأسواق الناشئة، فإن التطبيق غير الملائم والممارسات التجارية السيئة يحولان مبادرة الحزام والطريق إلى مبادرة فاسدة تفسد العالم.

الحزام والطريق.. مشروع الصين لعولمة الفساد وغسيل الأموال

الصين دولة فاسدة

في سبتمبر الماضي، ذكرت اللجنة المركزية لفحص الانضباط في الصين (CCDI) أنها كانت تحقق مع دو يانغ، المدير السابق في SINO IC Capital، التي تدير ممتلكات الصندوق الكبير، وآخرين، بشأن “الانتهاكات الجسيمة المشتبه بها للأنظمة والقوانين”.

تم وضع ما لا يقل عن 5 من المديرين التنفيذيين لصناديق الرقائق تحت التحقيق بتهمة الاحتيال قبل ثلاثة أشهر، وتأتي التحقيقات مع انهيار مجموعة Tsinghua Unigroup المدعومة من الدولة، وهي شركة منتجة لأشباه الموصلات بدأت بإعادة هيكلة في آخر 12 شهرًا بأمر من المحكمة.

وكانت هيئة الرقابة على مكافحة الفساد أعلنت في 2020 معاقبة 13442 مسؤولا صينيا بسبب الفساد، وفي 2017 كان هناك تحقيقات فساد طالت مسؤولين بارزين في الحزب الشيوعي الحاكم للبلاد، من بينهم السياسي سان زينغشاي، الذي كان مرشحًا للوصول إلى أعلى المراتب في قيادة الحزب وكان يشغل منصب قائد مكتب الحزب في منطقة تشونغتشينغ

وفي يونيو الماضي أيضًا، أقر الرئيس الصيني شي جين بينغ بأن الفساد في البلاد ما زال حادًا ومعقدًا، مطالبًا كبار مسؤولي الحكومة بإبقاء أنفسهم وأسرهم وأقربائهم تحت المراقبة. الفساد تفشى في الصين بدرجة كبيرة لدرجة أن وزير العدل الصيني السابق، فو زينهوا، الذي قاد العديد من حملات مكافحة الفساد، سجن بتهمة الرشوة.

أقر فو في يوليو الماضي بأنه مذنب لقبوله هدايا وأموال بقيمة 117 مليون يوان ( 16.5 مليون دولار)، وقالت وسائل إعلام صينية إن” فو حُكم عليه بالإعدام مع وقف التنفيذ، على أن يتم تخفيف عقوبته إلى السجن مدى الحياة في غضون عامين”.

يذكر أن حملة مكافحة الفساد في الصين، التي أطلقها شي في 2012، ضبطت حتى 2017 أكثر من مليون ونصف مسؤول بتهم فساد مختلفة، مما يثبت مدى تمكن الفساد من الصين داخلياً، وقيامها بتصديره للعالم مع مبادرة الحزام والطريق.