تتفاقم الأزمة الاقتصادية في تونس في وقت يجهل فيه التونسيون أنفسهم أيّ سيناربو  ينتظرهم. أزمات متراكمة ترتبط بأساسيّات المواطن التونسي الذي يعاني من نقصٍ في السلع الغذائية في الأسواق أحياناً، ومن ارتفاع أسعارها حيناً آخر. ولم تكن أزمة الخبز التي برزت مؤخّراً وتلتها أزمة الحليب، سوى انعكاس فاضح لعمق الأزمة التي يعاني منها التونسيون، الذين دائماً ما يستمعون إلى تصريحات مستفيضة بشأن الوضع الاقتصادي المتردّي، من قبل مسؤولي بلادهم وأبرزهم الرئيس التونسي، ولكن من دون أن يجد الحل طريقه إليهم.

قد نكون نختصر المشهد المزري في البلاد بسطور عديدة، لكن في الحديث عن أزمة تونس الاقتصادية وتفاصيلها، لا بدّ من تقديم الدلائل على حجم ذلك الانهيار الحاصل، والذي ثمّة الكثير من المحلّلين والاقتصاديين التونسيين استشرفوه مستشهدين بالسيناريو اللبناني. والسؤال، أيّ مرحلة يعيش التونسيون اليوم؟ كيف تدهورت قدرهم الشرائية؟ وما الذي ينتظرهم في المستقبل ما لو لم يتم إيجاد الحلول الناجعة والسريعة رأفةً بالشعب التونسي؟

في سياق توضيح الصورة أكثر، قرّرت “أخبار الآن” أن ترصد الوضع عن قرب من خلال جولة في أحد الأسواق التونسية برفقة حاتم خلفي. هو مواطن تونسي أربعيني يعمل في قسم الطوارئ في أحد مستشفيات العاصمة تونس، يعيش في منزل متواضع وهو أبٌ لفتاتين. الآن إذاً، ومن خلال يوم كامل قضيناه معه في السوق ومع أسرته، نعرض إليكم كيف يصارع المواطن التونسي يومياً من أجل الاستمرار، ولو في ظلّ ظروف حياتية صعبة زاد غلاء الأسعار من ثقلها.

أخبار الآن ترافق مواطن تونسي فى جولة داخل الأسواق 

لم يحلم حاتم يوماً بأكثر من وظيفة حكومية تدرّ عليه راتباً يضمن له العيش بكرامة مع أسرته. لكن قبل سنوات كان الرجل يتقاضى ما يكفي لتلبية احتياجات أسرته، فيما الآن أصبح الاقتراض هو سبيله الوحيد كي يستطيع بالكاد تأمين الأساسيات. رحلة قاسية ونتائجها مُخزية يخوضها حاتم يوم تقاضي راتبه، تبدأ أمام ماكينات الصراف الآلي وتنتهي داخل أحد البنوك لطلب سلفة جديدة تؤمّن بالكاد احتياجات أسرته.

حاتم بالكاد يقوى على شراء الطعام.. جولة لأخبار الآن بأسواق تونس توثق المعاناة

في ذاك الصباح، خرج حاتم من منزله ومعه قائمة الطلبات المنزلية الضرورية. كان ذلك في نهاية الشهر وقد توجّه لسحب راتبه من الصرّاف الآلي والذي يصل إلى 1000 دينار. لكن المفاجأة أنّ المصرف كان استحوذ على راتبه، فحاتم دائم الاقتراض، وما كان منه إلّا أنّ أقدم على سلفة جديدة لم تتجاوز 100 دينار، وذهب إلى السوق لشراء أغراضه.

يتجوّل حاتم بين ممرّات السوق، يتحدث مع البائعين وقد يخوض نقاشات طويلة للحصول على الأغراض بأقل سعر ممكن… يقول: “إنّها مشتريات بسيطة جدّاً، أسعار كلّ شيء ارتفعت بشكل جنوني، الفاكهة على سبيل المثال وصلت قيمتها إلى 40 ديناراً، أما اللحوم الحمراء فلم نعد نقدر على شرائها… في السابق كان الكيلوغرام من اللحوم بــ 15 دينار فقط، أمّا اليوم فوصل السعر إلى 40 ديناراً .. لديّ بنتان فدائماً ما افكر بهما، فتراني أحرم نفسي من أجل توفير ما يلزمهما من كتب وأدوات مدرسية التي ايضاً ارتفعت اسعار بشكل لافت جداً”.

بتلك الكلمات بدأ حاتم حديثه لـ“أخبار الآن” في سياق وصفه الوضع الاقتصادي الذي تعانيه غالبية المواطنين التونسيين. إنّه يشكو ارتفاع أسعار كلّ شيء، من فواتير المياه والكهرباء إلى أساسيات الحياة اليومية. يقول: “ترتفع أسعار الماء والكهرباء فى العام الواحد أكثر من مرّة، فى السابق كانت فاتورة الكهرباء لا تتجاوز 20 ديناراً أمّا الآن فتصل فى بعض الأحيان إلى 100 دينار، وبالنسبة لفاتورة الماء فتصل إلى 198 ديناراً بعدما كانت لا تتجاوز 40 ديناراً، وذلك يعني أن ما يقرب من ربع الراتب يتمّ استغلاله فى سداد قيمة الفواتير”.

69 % من التونسيين ينفقون رواتبهم خلال النصف الأول من الشهر

بحسب المعهد الوطني للاستهلاك، ينفق 69 % من التونسيين رواتبهم الشهرية خلال النصف الأول من الشهر نتيجة غلاء الأسعار وتدهور القدرة الشرائية للمواطن البسيط، فيما يتمكن 31 % منهم من تقسيط الرواتب على امتداد الشهر، مُكتفين بشراء ما هو ضروري من مستلزمات العيش. ووفقاً للبيانات الرسمية، فإنّ متوسط دخل الأسرة المكوّنة من 4 أفراد والذي يكفي فقط لتلبية الاحتياجات الضرورية، هو 4000 دينار .

ينهي حاتم جولته فى السوق متوجهاً إلى المنزل. هناك تعمل زوجته غنيمة معلمي على تحضير الطعام لت4 أفراد مستعينة بما تمكّن حاتم من جلبه. تبادر الزوجة بالتذمّر جرّاء ارتفاع أسعار الخضار بشكل جنوني. تقول غنيمة: “في السابق كانت الثلاجة دائماً مليئة فيما حالياً لم نعد قادرين على شراء البازلاء حتّى. في العام الماضي قمت بتخزين كميّة كافية لمدّة سنة، حالياً لن تجدوا ولو حبتين في الثلاجة.. في العادة كانت الثلاجة مليئة باللحوم وكل شيء، أمّا الآن فقد وصلنا إلى مرحلة الجوع، ومع الزيادة في فاتورة الكهرباء والماء، بات الأمر فوق طاقتنا، إذ أنّ غلاء الأسعار طال كلّ شيء”.

تضيف: “الكيلوغرام الواحد من التوابل ارتفع من 3 دنانير ونصف الدينار إلى 10 دنانير… فلم يعد بإمكان الناس اليوم شراء حاجياتهم من الطعام حتّى، وقد أصبحوا ينظرون إلى البضائع بأعينهم فقط… أمّا سعر الكيلوغرام الواحد من الفراولة تباع بـ5 دنانير، الموز يُباع في السوق بـ 10 دينارات بعدما كان الرئيس حذر من رفع أسعاره ودعا لبيعه بـ 4 دنانير. أمّا اللحوم فوصل سعرها إلى 32 ديناراً و45 ديناراً، وبالتالي فلا قدرة لأغلبية الناس على شرائها”.

حاتم بالكاد يقوى على شراء الطعام.. جولة لأخبار الآن بأسواق تونس توثق المعاناة

 

الغلاء يضرب كل نواحي الحياة اليومية للتونسيين 

وفق إحصائيات صدرت مؤخراً عن المعهد الوطني للإحصاء في تونس، فقد ارتفعت أسعار المواد الغذائية بنسبة 15.6% كما ارتفعت أسعار المواد المصنعة بنسبة 9.8 % ويشمل ذلك ارتفاع أسعار مواد البناء والأحذية والملابس وكذلك مواد التنظيف. ذلك إلى جانب ارتفاع أسعار الخدمات بنسبة 7.3 % ويشمل ذلك أسعار خدمات النقل العام والخاص والمواد الحرة.

أمّا بالنسبة لأسعار المحروقات، فقد أقرّت الحكومة التونسية 5 زيادات خلال العام الماضي، وذلك فى إطار تعديل أسعار البترول وكانت كالتالي:

3 % فى شهر فبراير 2022 ، 3 % عن شهر مارس ، 5 % فى أبريل ، 3.9 % فى سبتمبر و 5.5 % في نوفمبر ، بزيادة قدرها 20.4 % لتحقيق التسعير الفعلي بحلول نهاية عام 2022 .

ليس فقط غلاء المواد الغذائية وفواتير الكهرباء والماء التي أنهكت راتب حاتم، بل حتى المواد المدرسية، فتلك أيضاً شهدت ارتفاعاً جنونياً في أسعارها. يقول حاتم في ذلك السياق: “إبنتي دعاء تلميذة في الثامن أساسي وشقيقتها نور تلميذة فى التاسع أساسي. في السابق كنّا نخصّص ميزانية معينة لشراء المواد المدرسية لكن الآن ارتفعت الأسعار، فما كان سعره 5 دنانير أصبح 15، والذي كان سعره 4 دنانير أصبح 9… الموظف التونسي لم يعد قادراً على شرائها ذلك بخلاف مصاريف الطلاب طيلة السنة من ملابس وكتب، والتي يصل سعرها أيضاً إلى 500 دينار أخرى”.

الإقتراض الحل الوحيد لمجابهة غلاء الأسعار 

“فئة الموظفين فى المجتمع التونسي ضربها الفقر وباتت تعاني من ضعف القدرة الشرائية”، هكذا بدأت ثريا الدباسي، نائبة رئيس المنظمة الوطنية للدفاع عن المستهلك في تونس حديثها لــ“أخبار الآن”، مضيفة أنّ “المواطن التونسي أصبح يعاني من غلاء العديد من السلع الشرائية الأساسية المستخدمة في الحياة اليومية، ما دفعه للدخول في دائرة من الديون يصعب الخروج منها، فأصبح السبيل الوحيد أمامه هو الاقتراض من البنوك والجمعيات، وحتى من الأهل والمعارف فقط لتوفير قوت يومه”.

وتابعت أنّ “الموظف التونسي أصبح لا يتسطيع تلبية احتياجاته اليومية، خصوصاً بعدما ضرب الغلاء كافة مناحي الحياة من سلع أساسية وفواتير ماء وكهرباء، وكذلك المدارس والنقل. إضافةً إلى ذلك، هناك أزمة عالمية ألقت بظلالها على الاقتصاد التونسي عدا عن العوامل الداخلية كعمليات الاحتكار وندرة وجود السلع فى الأسواق واستغلال ذلك الأمر لمضاعفة أسعارها، وتلك العوامل أثّرت مجتمعةً سلباً على حياة المواطن التونسي، لدرجة أنّ الشباب أصبحوا يعزفون عن الزواج حتّى لا يدخلون في تلك المعاناة”.

 

حاتم بالكاد يقوى على شراء الطعام.. جولة لأخبار الآن بأسواق تونس توثق المعاناة

لقد تبدد الكثير من أحلام حاتم الذي تمثّل حالته حالة غالبية الشعب التونسي، إذ أنّ الهمّ الوحيد اليوم بات بالنسبة له تأمين الأساسيات لعائلته وأطفاله، مستغنياً عن أمور كثيرة، كامتلاك سيارة خاصة على سبيل المثال. وكباقي التونسيين، يحاول حاتم التعايش مع الواقع الجديد على مرارته فالحل بالنسبة له ليس سهلاً خصوصاً وأنّه يغرق في ديونه الكثيرة الناتجة عن الاقتراض، وحال هذا المواطن التونسي هو مثال لحال الدولة التي تآكلها الفساد في ظلّ المشاكل السياسية الكبيرة، في وقت يفترض فيه الإلتفات لمشاكل المواطنين وهمومهم وحل أزمة الديون ومراقبة الأسواق من غزو خارج ينافس الصناعات المحلية.

شاهدوا أيضاً: ما شاهده فايز في طريق هروبه من السودان يثير الشفقة.. وفيات لم يعلن عنها