بين التشدد والاعتدال.. تقاطعات بين التهليل والتهديد

وقفة جديدة مع نماذج من التفاعلات الصادرة عن الحسابات الرقمية المحسوبة على المرجعية الإسلامية الحركية في نسختها الجهادية أو التي تنتمي إلى المرجعية نفسها، انطلاقاً من الانخراط في بعض النقاشات مع هذه الحسابات، سواء تعلق الأمر بالنقاشات والتفاعلات التي جرت في موقع التواصل الاجتماعي “فيسبوك” أو في موقع “يوتيوب”.

موضوع المقالة يهم تفاعلات مع صفحات على فيسبوك جاء تحت عنوان “القاعدة يحرض على قتل إعلاميين”، وصدر في 19 يوليو 2022، وحظي بتفاعل كبير، فاق رقم 1600 تفاعلاً. أما الإعلامي المعني فالإحالة على الإعلامي المصري إبراهيم عيسى على ضوء بعض المواقف التي صدرت عنه في أحد البرامج التي يُعدها ويقدمها في فضائية عربية.

هناك عدة اتجاهات بخصوص التفاعل مع الخبر الخاص بتهديدات، ويتقدمها خطاب الاحتفاء، التنديد بهذا الخطاب المتشدد أو المتطرف، مسائلة المؤسسات الدينية في مصر وخاصة مؤسسة الأزهر الشريف، ضمن اتجاهات أخرى، مع الأخذ بعين الاعتبار وجود تقاطعات بين بعض الاتجاهات، وقد ارتأينا التوقف عند الاتجاهات الثلاث مع إبداء بعض الملاحظات التي تهمنا أكثر والتي نزعم أن الاطلاع عليها قد يُبرر أهمية هذا الاختيار، وبيان ذلك كالآتي:

التفاعلات الآملة في تحقيق الغاية

1 ــ نبدأ باتجاه تفاعلي يُعرب فيه المعنيون به عن أملهم أن يتحقق هذا التهديد وبالتالي اغتيال الإعلامي المعني، إلى درجة أن الأمر إلى التوجه بالدعاء لكي يتم ذلك [ومن ذلك التفاعلات التالية: “كل التوفيق للقاعدة”، “ربنا يقويهم”، “أتمنى أن يكون الخير وتكون النهاية”]، بل إن أحد المعقلين اعتبر أن تفعيل هذا التهديد يمكن أن يكون العمل الوحيد الذي كان على صواب.

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

كان هذا جلياً ومثيراً ودالاً في آن واحد فكان جلياً لأن الأمر لا يتعلق ببضع تفاعلات أعربت عن هذا الخيار وإنما يهم عشرات من التفاعلات، وقد لاحظت العديد من التفاعلات ذلك؛

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

كان الاتجاه مثيراً لأننا إزاء إقرارات صريحة ولسنا أمام إشاعات أو مزاعم تحوم زعم فئة معينة من المتفاعلين بخصوص تبني هذا الخيار؛ وأخيراً، كان دالاً لأن هذا الخطاب يطرح العديد من الأسئلة المتكررة والمرتبطة إجمالاً بأسباب انتشاره، والتي لا تخرج عن أسباب انتشار الخطاب الإسلامي الحركي في نسخته الجهادية أو قل في نسخته المتشددة، دون أن يُفيد ذلك بأن جميع المعنيين بهذا الخيار هم داعشيون تنظيمياً، بل نزعم أن أغلبهم لا علاقة لهم أساساً بالتنظيم، لكن مخيالهم تعرض لرياح الأسلمة، وهذه ظاهرة نعاينها في المنطقة العربية كما نعاينها في الدول العربية التي تتواجد فيها الجاليات المسلمة، والخوض فيها يتطلب فتح أوراش نقدية صريحة ومسؤولة.

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟
المقصود بأسلمة المخيال هنا أن يُصبح فلان ما، لا ينتمي إلى حركة إسلامية ما، يروج من حيث يدري أو لا يدري خطاباً يتقاطع مع خطاب الحركة الإسلامية إن لم يكن لا يختلف معه، مع أنه ينتمي أساساً للحركة المعنية، وهذه إحدى نتائج ظاهرة “الصحوة الإسلامية” أو ظاهر “الإحيائية” بتعبير رضوان السيد.

من نتائج الظاهرة أيضاً كونها تخدم خطاب الجماعات الإسلامية في معرض نقد منافسيها، سواء كانوا من أهل الفكر أو الدين أو السياسة، حيث تتبنى تلك النسبة من الرأي العام التي تعرض مخيالها للأسلمة مواقف الجماعات المعنية ضد الخصوم وتنخرط من حيث لا تدري في حملات أو صراعات تصب لصالح تلك الجماعات. وفي بعض الأحيان، تكون مواقف هؤلاء الخصوم حول قضايا دينية سبباً وراء صدور حملات نقدية عن أصوات إسلامية حركية، وبما أن المعنيين بأسلمة المخيال لديهم قابلية لتوجيه الانتقادات نفسها، فإنهم يُصبون خصوماً بشكل تلقائي لخصوم الجماعات الإسلامية.

التفاعلات المستنكرة

2 ــ هناك تفاعلات استنكرت هذه التهديدات أو نددت بها، وبعضها أدلى ببدائل يمكن اللجوء إليها في حال الاختلاف النسبي أو الكلي مع الإعلامي المعني، بل إن أحد المعقلين، ربط بين مؤشر التخلف وانتشار هذا الخطاب المتشدد، ومن ذلك أن “الناس ترفض أن تفكر وتناقش وتحاجج”.

الأصل في هذا الاتجاه الثاني يبقى تحصيل حاصل، أي من الطبيعي التنديد بتلك التهديدات في مواجهة فورة كم ونوع التفاعلات التي جاءت في الاتجاه الأول الخاص بتأييد التهديدات.

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

 

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

تفاعلات رافضة ومُتسألة عن دور المؤسسات الدينية

3 ــ نأتي للاتجاه الثالث ويتطلب الكثير من المكاشفة والجرأة في طرق باب موضوع لا زال نادراً أو متواضعاً في التناول البحثي، والحديث عن تفاعلات تركت موضوع طبيعة التهديدات، وإن كانت تعارضها بالطبع، لكنها طرحت أسئلة وجيهة وهامة جداً عن دور المؤسسات الدينية بخصوص التصدي لهذا الخطاب.

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

 

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟

الملاحظ هنا أن هذه الأسئلة مركبة بدورها، ويمكن أن نتوقف عند فرعين منها: يفيد الأول المسائلة المباشرة عن دور المؤسسات بخصوص التصدي لهذا الخطاب بالتحديد، أي صدور تهديدات ضد وجه إعلامي؛ بينما يُفيد الثاني المسائلة النسبية عن دور المؤسسات نفسها بشكل عام في التصدي النظري لخطاب التطرف العنيف، وشتان ما بين المقامين، وبيان ذلك كالآتي:

ــ في الحالة الأولى، دخول المؤسسة الدينية على الخط بناءً على تلك التفاعلات، يُشبه حضور رجال الإطفاء من أجل التصدي لحريق في مكان ما، ويمكن أن يساعد ذلك في إخماد الحريق، أو على الأقل التقليل من أضرار الحريق، لكن هذا الحضور لا يطرح أسئلة عن أسباب اندلاع الحريق أساساً، مما يُحيلنا على الحالة الثانية.

ــ في الحالة التي تتساءل عن دور المؤسسات الدينية في مواجهة المعضلة الإسلامية الحركية بشكل عام، لا ضير من التذكير بأن هذه مسألة شائكة بل إن هذا السؤال كان لا مفكراً فيه ليلة اندلاع أحداث 2011 ــ 2013، أي أحداث “الفوضى الخلاقة” عند البعض أو “الربيع العربي” عند البعض الآخر، لأن جزء من تلك الحركات الإسلامية كانت في مندمجة في مؤسسات الدولة، الدينية والسياسية وغيرها، لكن جاءت تلك الأحداث وتطورت الأوضاع إلى تصنيف جماعة “الإخوان المسلمين” باعتبارها منظمة إرهابية في مصر مثلاً، فالأحرى الجماعات الإسلامية القتالية أو الجهادية، موازاة مع شروع المؤسسات الدينية حينها في التصدي النظري لخطاب التطرف العنيف.

والحال أن نتائج هذا التصدي لن تظهر بين ليلة وضحاها لأنها سوف تستغرق وقتاً، على غرار ما جرى مع نتائج “الصحوة الإسلامية”، لأنها استمرت طيلة عقود قبل ظهور النتائج لاحقاً، ولا زالت مستمرة حتى بعد مرور المنطقة من عدة تحولات ومنعطفات.

القاعدة.. كيف تفاعلت منصات التواصل مع خطابها للتحريض على القتل؟
ولكن مما يُحسب للمؤسسات الدينية في مصر أنها شرعت خلال السنوات الماضية في إطلاق مبادرات تندرج ضمن خيار المواجهة مع الخطاب الإسلامي المتشدد، ومن ذلك إصدار “مرصد الأزهر لمكافحة التطرف” تقرير مصور باثنتي عشرة لغة في فبراير 2021 تحت عنوان: “التنمية في مواجهة التطرف.. مصر 2030 نموذجاً”، ضمن مبادرات أخرى.

وحاصل الكلام في هذه المقالة، أنه انطلاقاً من قراءات التفاعلات أعلاه، يمكن الخروج بمجموعة نتائج وخلاصات حول بعض مؤشرات تغلغل خطاب التشدد باسم الدين أو التطرف العنيف في الساحة العربية، ومنها الساحة المصرية المعنية بالنماذج التي اشتغلنا عليها هنا [وليس صدفة أن مصر هي البلد الذي ظهرت منه أولى الحركات الإسلامية، أي جماعة “الإخوان المسلمين” ابتداءً من سنة 1928، والأمر نفسه مع الجماعات الإسلامية الجهادية]، وهي المؤشرات التي أفرزت لنا ظاهرة أسلمة مخيال الرأي العام، أي أن تُصبح نسبة من الرأي العام في مجتمع ما، تتحدث خطاباً يتقاطع مع خطاب الحركات الإسلامية.

كما تساهم هذه القراءة في فتح أوراش بحثية حول مواضيع لا زالت متواضعة التناول، وكان أهم نموذج هنا أداء المؤسسات الدينية في الحالة المصرية بخصوص التصدي النظري لخطاب التطرف العنيف.