المنصات الإلكترونية العالمية متهمة بالترويج لتنظيم داعش

  • قضية (Gonzalez v. Google) تفجر جدالاً واسعًا
  • القضية تسعى لإثبات تورط يوتيوب في الترويج لتنظيم داعش ونشر فكره المتطرف
  • المادة 230 في القانون الأمريكي تمنح الشركات العملاقة حصانة ضد المقاضاة
  • شركة تويتر متهمة أيضًا بغض الطرف عن منشورات داعش

بينما كانت الطالبة الأمريكية نويمي غونزاليس (23 عامًا) التي تدرس في فرنسا، تتناول العشاء مع زملائها بمطعم في باريس، باغتها مجموعة من إرهابيي تنظيم داعش الإرهابي بوابل من الرصاص، فسقطت غارقة في دمائها.

هذا الحادث الغادر الذي وقع في نوفمبر 2015، كان ضمن سلسلة هجمات إرهابية مُنسّقة، صُنّفت بأنها الأكثر دموية في فرنسا منذ الحرب العالمية الثانية، حيث شملت عمليات إطلاق نار جماعي وتفجيرات انتحارية واحتجاز رهائن واستهدفت مطاعم وملاعب ومسرح باتاكلان، وراح ضحيتها 130 شخصًا.

ورغم تعدد جرائم داعش، لكن هذا الحادث بالتحديد ليس مجرد هجوم عابر للتنظيم الإرهابي، لأن تداعياته يمكن أن تُغيّر مستقبل شبكة الإنترنت بأمر القضاء، وفق خبراء قانون وتكنولوجيا.

البعض ربما يتساءل: ما علاقة شبكة الإنترنت بحادث إرهابي لتنظيم داعش وكيف يغير ذلك مستقبل الشبكة العنكبوتية؟

قضية (Gonzalez v. Google)

عقب الحادث، رفعت عائلة غونزاليس دعوى قضائية ضد شركة جوجل المالكة لموقع يوتيوب، واتهمتها بانتهاك القانون الأمريكي، والترويج لمقاطع فيديو دعائية لتنظيم داعش، والتوصية بمشاهدتها على يوتيوب.

الدعوى التي عُرفت إعلاميًا باسم (Gonzalez v. Google) تشير بشكل مباشر إلى أن خوارزميات يوتيوب أوصت بمقاطع فيديو تُروّج لتنظيم داعش الإرهابي، ساعدت التنظيم على تجنيد المتدربين وتوجيههم لارتكاب الحادث.

عائلة الضحية، تسعى من وراء الدعوى لتحقيق العدالة، لكنها لا تستهدف المسلحين أنفسهم، وإنما تستهدف شركة جوجل فى قضية هامة يمكن أن تغير أسس قانون الإنترنت.

في المقابل، يبحث القضاء الأمريكي بجدية مدى تورط خوارزميات مواقع التواصل في مساعدة داعش على نشر فكره المتطرف.

ورغم مرور ما يقرب من 8 أعوام على الحادث، لم يفصل القضاء الأمريكي بعد في دعوى عائلة غونزاليس غير المسبوقة في تاريخ الإنترنت، نظرًا لتشعب جوانبها بين القانون والتكنولوجيا.

وسبق للمحاكم الابتدائية في الولايات المتحدة، أن رفضت هذه الدعوى مستندة إلى المادة 230 من قانون أمريكي أُقر قبل حوالي ربع قرن من الآن.

هذا الرفض، دفع عائلة غونزاليس إلى أخذ القضية إلى أعلى محكمة في الولايات المتحدة للفصل في هذا النزاع.

والمحكمة العليا هي أعلى محكمة في الولايات المتحدة، ولديها القدرة على تغيير القوانين في جميع أنحاء البلاد. ويعتبر وصول هذه الدعوى إليها سابقة تاريخية، وعلامة فارقة قد تُغيّر الطريقة التي تسمح بها الدولة لمنصات وسائل التواصل الاجتماعي بالتخلي عن المسؤولية عن المحتوى المنشور بشكل كبير.

كيف يمكن أن يغير هجوم لداعش على مستقبل الإنترنت في العالم؟

وفي أحدث فصول هذه القضية، بدأت المحكمة العليا، الثلاثاء 21 فبراير 2023، الاستماع إلى المرافعات الشفوية في القضية التي من المتوقع أن يستغرق الأمر شهوراً عدة قبل صدور الحكم النهائي فيها.

وكانت المرافعات التي استمع إليها أعضاء المحكمة العليا الـ9، تُركّز على ما إذا كان يمكن مقاضاة جوجل بسبب توصيات خوارزميات الفيديو التابعة لها على يوتيوب، وهي حجة لا يبدو أنها مقنعة بما فيه الكافية لغالبية أعضاء المحكمة، بسبب المادة 230.

سر المادة 230

يعود سر التعقيد الذي يكتنف مصير الدعوى، إلى المادة 230، وهي أحد أبواب قانون “آداب الاتصالات”، وهو قانون فيدرالي أمريكي يحمي شركات الإنترنت من المسؤولية عن المحتوى الذي ينشره مستخدموها، وأًقر هذا القانون في العام 1996، عندما كان قطاع الإنترنت في طور الإنشاء وأصبح منذ ذلك الحين أحد أسسه.

هذه المادة تعرقل عملية البت في القضية، لأنها ببساطة تمنح شركات التكنولوجيا العملاقة حصانة ضد المقاضاة، وتسمح لها بالنمو من دون رادع، والتحول إلى أكبر الشركات في العالم.

كيف يمكن أن يغير هجوم لتنظيم داعش على مستقبل الإنترنت في العالم؟

وتنص المادة على أنه “لن يتم التعامل مع أي مزود أو مستخدم لخدمة كمبيوتر تفاعلية باعتباره ناشرًا أو ناطقًا بأية معلومات يقدمها مزود محتوى معلوماتي آخر”.

هذا النص منح شركات التكنولوجيا العملاقة مثل جوجل ومنصات التواصل الاجتماعي التابعة لها إذنًا باستضافة محتوى غير مرغوب فيه وتشهيري من دون تعرضها لأي عواقب قانونية، رغم أن هذا المحتوى المصور كان سببًا محوريًا للنمو المتسارع لهذه المنصات الرقمية، وزيادة أعداد جمهورها.

وبموجب المادة، فإن شركات قطاع التكنولوجيا لا يمكن أن تعتبر “محررة محتوى”، وبالتالي لن تُسأل عن المضامين التي تُبث عبر منصاتها؛ لذا فإنها تتمتع تالياً بحصانة قضائية، وذلك على عكس الصحف والمواقع الإخبارية التي تكون مسؤولة بشكل كامل عن المحتوى المنشور عليها.

مادة مثيرة للجدل

ولطالما كانت المادة 230، مثيرة للجدل في الولايات المتحدة، وغالبًا ما تفتح المجال لمواقع التواصل مثل يوتيوب وفيسبوك لنتشر معلومات مضللة ومواد ضارة بالأطفال دون عوائق، بسبب عدم وجود مسؤولية قانونية تردع تلك المنصات، لذلك هناك مطالب عديدة بتغييرها.

ويقترح منتقدو هذه المادة، بأن المحكمة العليا لا ينبغي أن تفسرها بطريقة تسمح لشركات التكنولوجيا بالتهرب من مسؤوليتها.

لكن في المقابل، يحذّر خبراء وحقوقيون من أن إجراء تغييرات رئيسة على المادة 230 سيغير علاقتنا مع الإنترنت بشكل أساسي، ويمكن أن يقوض جوهر الإنترنت كمساحة مفتوح للتواصل والتعاون.

وأوضحوا أن تحميل شركات التكنولوجيا المسؤولية عن المحتوى الذي تروج له خوارزمياتها سيكون له تأثير مخيف على حرية الكلام والتعبير، وقد يجبر ذلك تلك الشركات على الانخراط في مزيد من الإشراف على المحتوى، ما قد يحد من التدفق الحر للأفكار والمعلومات عبر الإنترنت.

وشددت مؤسسة الحدود الإلكترونية، وهي مجموعة مناصرة للحريات المدنية الرقمية، على أن أية تغييرات على هذه المادة من شأنها دفع شركات الإنترنت إلى “فلترة ومراقبة خطاب المستخدم بكثافة”.

فيما قال جادل جيف كوسيف، أستاذ مشارك في مادة الأمن السيبراني في الأكاديمية البحرية الأمريكية، في كتاب أصدره عام 2019 إن هذا البند “سهّل حرية التعبير على الإنترنت بصورة غير مسبوقة”، ولطالما رفضت شركات الإعلام التقليدي المادة 230 التي تنص بأنه إذا قامت صحيفة أو موقع رقمي بسبّ فرد أو شركة فيحق لهم مقاضاة تلك المؤسسة، في حين أن الشخص الذي ينشر المحتوى المسيء على مواقع التواصل مقلا هو فقط المسؤول عنه، بموجب المادة عينها.

كيف يمكن أن يغير هجوم لداعش على مستقبل الإنترنت في العالم؟

ماذا تريد عائلة غونزاليس؟

الحالة التي تريد عائلة غونزاليس من المحكمة العليا النظر فيها، أنه على الرغم من أن يوتيوب قد لا يعتبر مسؤولاً عن المحتوى الذي يتم تحميله عليه، إلا أنه لا يزال يتعين على هذه المنصة أن تكون مسؤولة عن الطريقة التي ترشح بها المحتوى للأشخاص، بمعنى أنه عندما يُقدّم موقع يوتيوب توصيات لمقاطع فيديو غير مرغوب فيها، فهذا يشبه التصرف كناشر تقليدي وبذلك لا يجب أن يُعفى من المسؤولية.

وتدفع عائلة غونزاليس أيضًا بأن خوارزميات يوتيوب لعب دورًا في وفاة ابنتهم من خلال السماح لداعش بنشر مقاطع فيديو لتجنيد مقاتلين، والتوصية بمشاهدتها على الموقع.

إريك شنابر، الذي يمثل المدعين في عائلة غونزاليس، يدفع بأن جوجل وشركات التكنولوجيا الأخرى يجب أن يتحملوا المسؤولية، لأنه ببساطة يمكنهم التدخل فيما يراه المستخدمون على منصاتهم، لأن الخوارزميات ليست محايدة أو موضوعية، ولقد تم تصميمها لزيادة التفاعل وإبقاء المستخدمين على المنصة، وغالبًا يتم ذلك عن طريق الترويج لمحتوى مُثير، لذلك يمكن القول إن هذه الشركات مسؤولة عن منع انتشار المحتوى الضار.

“شنابر” أضاف أنه عندما تفشل تلك الشركات في اتخاذ الإجراء المناسب، يمكن اعتبارها متواطئة في نشر المحتوى، ما قد يكون له عواقب وخيمة، كما أن السماح لهذه الشركات بتجنب المسؤولية عن المحتوى الذي تروج له خوارزمياتها يمكن أن يُحفّزها على إعطاء الأولوية للربح على السلامة العامة.

انقسام أعضاء المحكمة

إلى هنا يبدو الأمر سلسًا ويوحي بسهولة الفصل في القضية، لكن الأمر أشد تعقيدًا على أرض الواقع، حيث كشفت جلسة الاستماع التي عقدتها المحكمة العليا، عن انقسام بين قضاة المحكمة التسعة، خاصة وأن هذه المحكمة تنظر أيضًا دعوى أخرى مرفوعة ضد موقع تويتر، بتهمة غض الطرف عن منشورات تنظيم داعش، ما ساهم في الهجوم الإرهابي الذي وقع في ملهى ليلي بإسطنبول عام 2017.

وتدفع الدعوى التي أقامها أقارب الأردني نورس العساف، أحد ضحايا الهجوم، بأن تويتر شريك في هذا العمل الإرهابي، لفشله في إزالة تغريدات التنظيم، أو الكفّ عن التوصية بتلك التغريدات عبر خوارزميات آلية، وهي ذات التهمة الموجهة إلى يوتيوب من عائلة غونزاليس.

فيما عبَّر قضاة المحكمة العليا، في جلسة استماع دعوى عائلة غونزاليس عن شكوكهم في جدوى المادة 230، لكنهم امتنعوا عن محاولة التأثير على مصير قانون أصبح أساسياً للاقتصاد الرقمي.

وكشفت المرافعات عن تردّد القضاة في إصدار هذا النوع من الحكم الشامل حول المسؤولية عن المحتوى الإرهابي على وسائل التواصل الاجتماعي، حيث يخشى البعض أن يقلب الإنترنت رأساً على عقب.

وقال القاضي كلارنس توماس، إنه غير متأكد من الكيفية التي يمكن بها القول إن يوتيوب يساعد ويحرض على الإرهاب عندما تعمل خوارزمياته “المحايدة” بنفس الطريقة سواء كان المشاهد يبحث عن معلومات حول داعش، أو عن وصفة طعام معينة.

الأمر ذاته حدث خلال جلسات استماع المحكمة، في الدعوى المقامة ضد تويتر، حيث بدا القضاة منقسمون حول كيفية الموازنة بين عدة عوامل قد تحدد مستوى المسؤولية القانونية على تويتر وتحليلها.

وعبَّر القاضيان المحافظان، آمي باريت ونيل جورسوش، عن انفتاح أكبر على الحجج التي قدمها تويتر، بأنه ليس مسؤولاً، بموجب قانون مكافحة الإرهاب.

وعلى النقيض من ذلك، بدا القضاة الليبراليون أكثر تشدداً وميلاً لتحميل تويتر مسؤولية أكبر بسبب استضافته محتوى داعش.

وقالت القاضية سونيا سوتومايور متوجهة إلى محامي تويتر: “هناك اتهام بتجاهل متعمد. كنتم تعلمون أن تنظيم داعش يستخدم منصتكم”.

فيما قالت القاضية إيلينا كاجان: “لقد اعتدنا التفكير في البنوك على أنها تقدم خدمات مهمة جداً للإرهابيين”.

وأضافت: “ربما لم نعتَدْ، ولكن يبدو صحيحًا أن أنواعًا مختلفة من خدمات وسائل التواصل الاجتماعي تقدم أيضًا خدمات مهمة جداً للإرهابيين؛ إذا كنتَ تعلم أنك تقدم خدمة مهمة جداً للإرهابيين؛ فلماذا لا يُقال إنك تقدم مساعدة كبيرة، وتقوم بها عن علم؟”

وتواجه منصة تويتر مع منافسيها، جوجل وفيسبوك، وغيرهما، دعاوى قضائية في قضايا مشابهة، وتدفع تلك المنصات مرارًا، بأن كونها خدمات يستخدمها عشرات الملايين من الناس في العالم لا يثبت أنها “تساعد عن علم” مجموعات إرهابية.

لكن في المقابل، تقول ليزا بلات، محامية جوجل إن شركات التكنولوجيا ليست مسؤولة عما تروج له خوارزمياتها، لأنها ليست مسؤولة عن اختيارات المستخدمين واهتماماتهم، لأنه تم تصميم الخوارزميات لعرض المحتوى بناءً على ما أعرب المستخدمون عن اهتمامهم برؤيته، وليس للترويج لمحتوى ضار أو غير قانوني.

كيف يمكن أن يغير هجوم لداعش على مستقبل الإنترنت في العالم؟

فيما كتبت “جوجل” للمحكمة قائلة إن التوصيات التي تقدمها الخوارزميات هي مجرد ميزة تمكن المستخدمين من “إيجاد إبرة في كومة قش”، طالبة من المحكمة “عدم إضعاف هذه الميزة التي تعد جزءًا مركزيًا من الإنترنت الحديث”.

وعلى نفس المنوال، حذّرت مجموعة “ميتا” المالكة لفيسبوك وإنستغرام وواتساب في وثيقة وجهتها إلى المحكمة من “تعريض خدمات الإنترنت لملاحقات، بسبب توصيات سيجعلها عرضة لشكاوى متواصلة، مشيرة إلى أن التوصيات تستخدم فقط لتنظيم المحتوى المنشور عبر الإنترنت، نافية أن يكون ذلك ناجماً عن عمل تحريري.

سيناريوهان

سيناريوهان ينتظران هذه الدعوى، فإذا حكمت المحكمة لصالح عائلي غونزاليس والعساف، فقد تشكل سابقة من شأنها أن تجعل شركات التكنولوجيا مسؤولة عن المحتوى الذي تروج له خوارزمياتها.

وسيفتح ذلك المجال لتعديل المادة 230، وهذا سيؤدي إلى التركيز على الطريقة التي يقترح بها يوتيوب مثلا مقاطع الفيديو، وقد يقود ذلك إلى إجبار منصات وسائل التواصل الاجتماعي على تنظيم خوارزميات التوصية بالمحتوى بشكل أكبر.

وسيتعين على شركات التكنولوجيا الاستثمار أكثر في الإشراف على المحتوى وتطوير خوارزميات جديدة لاكتشاف وإزالة المحتوى الضار؛ ما قد يحد من حرية الكلام والتعبير، وفق رأي البعض.

في المقابل، إذا حكمت المحكمة لصالح جوجل وتويتر، فيمكنها إعادة تأكيد أحقيتهما بالتمتع بصلاحيات المادة 230، وسيجعل ذلك شركات التكنولوجيا تستمر في التمتع بحماية واسعة من المسؤولية.

ويخشى بعض الخبراء من أن المحكمة العليا ليست مجهزة جيدًا للحكم في هذا المجال، لأنها لم تكن تاريخيًا جيدة في التعامل مع التكنولوجيا الجديدة.

وصرحت قاضية المحكمة العليا إيلينا كاجان، بأنهم ليسوا “أفضل 9 خبراء بالإنترنت”.

وقال أستاذ القانون في الأكاديمية البحرية الأمريكية جيف كوسيف، إن العديد من القضاة بدوا يميلون إلى الحد من الحماية التي توفرها المادة 230، لكنهم لم يظهروا بعد إشارات إجماع على الشكل الذي يمكن أن يبدو عليه المعيار القانوني الجديد.

وأضاف: “يبدو أنهم في الحقيقة ليست لديهم فكرة جيدة عن المكان الذي يريدون من خلاله رسم الخط الفاصل، لأنهم يدركون مدى صعوبة ذلك”.

وأخيرًا، ربما ترسم جلسات الاستماع المقبلة، هذا الخط الفاصل، وتجعل أعضاء المحكمة العليا يرسمون صورة أوضح، تمكنهم من اتخاذ القرار الذي يُفترض أن تصدره المحكمة قبل 30 يونيو، وأيًّا كان هذا القرار، فسيكون له بعده على مستقبل الإنترنت.