الخديعة الكبرى.. سيرة القاعدة المملؤة بالتناقضات

أوائل عام 2010، وبينما كانت الولايات المتحدة تعيش ارتباكًا لحظيًا بعد اكتشاف محاولة إرهابية قادها مهندس نيجيري شاب لتفجير طائرة ركاب قادمة من العاصمة الهولندية “أمستردام” لمدينة ديترويت الأمريكية، سارع تنظيم القاعدة في شبه الجزيرة العربية لإعلان تبنيه المؤامرة الإرهابية الفاشلة، قائلًا إنها جاءت ردًا على القصف الأمريكي على قرية المعجلة (تابعة لمديرية المحفد بمحافظة أبين) والذي استهدف معسكرًا له جنوب اليمن قُبيل نحو أسبوعين.

بعد أقل من شهر على بيان الفرع المحلي للقاعدة، بثت مؤسسة السحاب الإعلامية، الذراع الدعائية للتنظيم العالمي/ المركزي، كلمةً مقتضبةً (دقيقة وبضعة ثوانٍ) لـ أسامة بن لادن، بعنوان: “من أسامة إلى أوباما” جاء فيها: (رسالتنا المراد إبلاغها لكم عبر طائرة عمر الفاروق هي تأكيد على رسالة سابقة بلغها لكم أبطال الحادي عشر من سبتمبر وكررت من قبل ومن بعد وهي لن تحلم أمريكا بالأمن حتى نعيشه واقعًا في فلسطين..إلخ).

ورغم الاختلاف الظاهر بين الذريعة التي ساقتها كلمة “أسامة بن لادن” للهجوم الفاشل وبين مثيلتها الواردة في بيان فرع التنظيم في شبه الجزيرة العربية إلا أن الكلمة الصوتية حظيت باهتمام سياسي وإعلامي واضح، وعدّها مسؤولون رسميون، منهم وزير الخارجية البريطاني، بمثابة بداية حملة إرهابية جديدة ضد الغرب.

بطريق الخداع: رحلة صعود وانكسار القاعدة

عند تلك المرحلة، لم تسلط الأضواء بالصورة المطلوبة على التناقض اللافت في بيانات وإصدارات التنظيم الدعائية، إلى أن كشفت وثائق أبوت آباد التي حصلت عليها القوات الخاصة الأمريكية من مخبأ أسامة بن لادن، في منطقة أبوت آباد الباكستانية ليلة مقتله (2 مايو 2011) عن بعض الخداع القاعدية التي انطلت على كثيرين لسنوات.

وتكشف رسالة مطولة وجهها أسامة بن لادن لعطية الله الليبي- جمال المصراتي- في صيف 2010، استغلال زعيم القاعدة السابق لرمزية القضية الفلسطينية للترويج لنفسه ولتنظيمه الذي انهمكت أفرعه في صراعات محلية مع بعض الدول والحكومات العربية، إذ طالب الأول من القيادي الليبي أن يوجه مسؤولي التنظيم بالتركيز على تصور الحركة الجهادية المعولمة، والهادف لإظهارها كداعم ونصير للفلسطينيين.

الذكرى العاشرة لمقتل أسامة بن لادن.. حكايات صادمة من وثائق "أبوت آباد"

صورة رسالة بن لادن لعطية الليبي- وثائق أبوت آباد

 

وترسم وثائق أبوت آباد، ملامح الصورة والسيرة الحقيقية للقاعدة وزعيمها المؤسس، والمملؤة بالزيف والتناقضات، عبر إزاحة الستار عن تفاصيل العمليات الداخلية للتنظيم، وكشف الكواليس التي أحاطت بالعديد من الأحداث.

فبعد عشر سنوات من مقتل أسامة بي لادن في أبوت آباد، فإن عمل حياته، تنظيم القاعدة، يعطي أنفاسه الأخيرة. المشروع الذي حدد حياة أسامة بن لادن قد فشل. أفراد أسرته الرئيسيون إما ماتوا، كأبنه حمزة، أو تبرأوا منه كوالدته.

وكشفت وثائق أبوت آباد عن شخص فظيع، ففي النهاية، كان نرجسيًا ثريًا يائسًا للشرعية، لم يعطه والده أي اهتمام أبدًا -هذا مشابه للظواهري، لم يستطع أي منهما أن يرتقي باسم عائلته ولجأ إلى تمييز نفسه باتباع المسار الخطأ-.

كانت قصص تقواه أو شجاعته المفترضة مجرد أساطير قام هو بنفسه بالترويج لها ونشرها بمكر من خلال استخدام أمواله وتقنيات الإنتاج الإعلامي المخادعة.

حبه لوسائل الإعلام واعتماده التام عليها موثَّق جيداً، حيث استطاع أن يزرع صورة زائفة، سرابًا، وثبت على وجه اليقين أنه فاسد تمامًا وسامًا في جميع أنحاء العالم ، فـ “الأمير” المزعوم له ميراث من الغدر والخراب.

 

 أسامة بن لادن الذي ألقى الشباب في الجحيم

قبيل هجمات الحادي عشر من سبتمبر/ أيلول 2001، رفض كبار قادة تنظيم القاعدة وحركة طالبان مهاجمة الولايات المتحدة، وطلب الملا عمر، أمير طالبان الأسبق من “أسامة بن لادن” أن يركز على قضية المقدسات الإسلامية، لكن الأخير قرر الشروع في خطة الضرب في سويداء القلب لكي ينهار المارد الأمريكي، وتنتصر الحركة الجهادية المعولمة التي يقودها.

بالغ زعيم تنظيم القاعدة في تقدير قوته- كما تذكر رسالة وجهها أحد قيادات التنظيم الذي يحمل اسمًا حركيًا في الوثائق (أسد) لبن لادن في 5 سبتمبر/ أيلول 2002- معتقدًا أنه أمريكا ستنهار جراء ضربة أو ضربتين، وستأتي راكعة لتتفاوض معه وفقًا لشروطه الشخصية، وهو ما دفعه للمضي قدمًا في تنفيذ مخطط هجمات الثلاثاء الدامي (11 سبتمبر)، رغم معارضة العديد من قادة التنظيم المخضرمين.

رفض أسامة بن لادن وقيادات القاعدة الاعتراف بالخطأ أمام أنفسهم أو أتباعهم

وجراء حملة مكافحة الإرهاب الدولية التي شنتها الولايات المتحدة، في أعقاب الهجمات، خسر التنظيم كل معاركه في أفغانستان ووزير ستان (على الحدود الباكستانية)، وشُردت أسر أعضاء القاعدة وأُلقي شبابه في آتون حرب كبرى، دفعت بعضهم للسعي للانشقاق عن التنظيم وتسليم أنفسهم لبلادهم- تحت ضغط الأوضاع الصعبة التي عايشوها داخل القاعدة وسوء معاملة القادة لهم- حتى لو كان البديل هو السجن.

وفي المقابل، رفض بن لادن وقيادات القاعدة الاعتراف بالخطأ أمام أنفسهم أو أتباعهم، وأصروا على المضي قدمًا في حربهم مع الولايات المتحدة، متوعدين بتنفيذ هجمات جديدة ضد المصالح الأمريكية رغم انكسار التنظيم والقبض على غالبية المسؤولين عن عملياته الخارجية.

أصيب التنظيم بشرخ هيكلي وفقد عناصره الثقة في القيادة التي تمسكت بالخداع وزعمت أن رموزها البارزين لم يمسسهم سوء، وأنها لازالت قوةً عظمى ضاربة، لديها امتددات وأنصار في كل أنحاء العالم، حتى مع الهزائم المتتالية التي تكبدتها منذ أواخر العام 2001، كما تورد الرسالة.

المخدرات حرام لكن أموال تجارتها حلال!

حاول أسامة بن لادن الاستفادة من الزخم الدعائي الذي وفرته له الأحداث، في ضم مجموعات جديدة لتنظيمه وخصوصًا داخل فلسطين، لتتعزز الأطروحة التي صعدت به إلى مقعد قيادة الحركة الجهادية العابرة للحدود الوطنية، وهو ما تم بالفعل، بعد أن تواصل مسؤولي جيش الإسلام في غزة مع القيادة المركزية للقاعدة، كما تُظهر إحدى الرسائل التي وجهها عطية الليبي لأسامة بن لادن، أواخر عام 2006.

وتضمنت الرسالة إجابات مسؤول العمليات الخارجية بالتنظيم عن أسئلة وجهتها قيادة جيش الإسلام لـ”القاعدة” حول شرعية تمويل العمليات الإرهابية من الأموال التي يتحصلون عليها عبر بيع المواد المخدرة.

وتتجسد البراجماتية التنظيمية بشكل واضح في الرسالة المذكورة، ففي حين، أكد “عطية الليبي” أن التجارة في المواد المخدرة محرم في الشريعة الإسلامية، أباح استخدام أموال تلك التجارة في العمليات الإرهابية لأنها: “أموال اكتسبت من حرام فوجب على صاحبها التوبة، وتوبته لا تكون إلا بالتحلل من هذه الأموال والتبرع بها في الغزو والجهاد”، على حد قوله.

 إذا تبرع تجار الخمور والمخدرات بشيء من أموالهم للجهاد في سبيل الله تعالى جاز قبول ذلك وصرفه في الجهاد

وثائق أبوت آباد

نحارب الجيش الأمريكي لكن نقتل المدنيين

وعلى نفس المنوال البراجماتي، صاغ أسامة بن لادن استراتيجية القاعدة القتالية والتي ضمنها في رسالة للشيخ يونس- أحد مسؤولي العمليات الخارجية في التنظيم، والمشرف على العمليات في أفريقيا سابقًا- مؤكدًا على أن حسم الحرب ضد الولايات المتحدة لن يكون بمواصلة القتال ضد جيشها المتمركز في أفغانستان، بل بضرب المدنيين  داخل أمريكا، وخلق حالة من الرعب والفزع الداخلي ليضغط الشعب على قيادته الممثلة في البيت الأبيض والبنتاجون (وزارة الدفاع)، والكونجرس،  كي توقف الحرب على الإرهاب.

ويشغل الجانب الإعلامي جزءًا محوريًا من الاستراتيجية القتالية السابقة، إذ يرى زعيم القاعدة أن الهجمات التي تستهدف المدنيين الأمريكيين لابد أن تتم بالتوازي مع حملة دعائية مكثفة تتم عبر وسائل الإعلام الأمريكية وغيرها للربط بين تلك الهجمات والأوضاع في فلسطين على طريقة: (لن تحلموا بالأمن حتى نعيشه واقعًا في فلسطين..).

معلوم أن السيادة والسلطة العليا في أمريكا هي للشعب وهو صاحب القرار الأول ويمثله مجلس النواب والبيت الأبيض، فينبغي تركيز القتل والقتال على الشعب الأمريكي وممثليه

وثائق أبوت آباد

على أن خطة “بن لادن” فشلت في إطفاء نيران الحرب التي أشعلها بنفسه، وتنامى، مع مرور الوقت، الشعور بالغضب تجاه تنظيمه الإرهابي وفقد التعاطف الحرج الذي كان لدى بعض الجماهير المخدوعة تجاهه، خصوصًا مع صدور مراجعات الجهاديين وفي مقدمتها الجماعة الإسلامية المصرية عام 2002، وجماعة الجهاد المصرية الشهيرة بمراجعات سيد إمام الشريف/ الدكتور فضل، عام 2007، والتي أكدت على فكرة أن عقد الأمان/ تأشيرة الدخول للبلد يحرم للحاصل عليه/ها بصورة رسمية من أي دولة أن يقوم بتنفيذ هجمات إرهابية على أرضها خلافًا لما فعله خاطفو الطائرات التابعين للقاعدة في 2001.

الذكرى العاشرة لمقتل أسامة بن لادن.. حكايات صادمة من وثائق "أبوت آباد"

أسامة بن لادن يقر بخسارة التعاطف مع القاعدة – وثائق أبوت آباد

وأمام تلك المتغيرات، عاد زعيم القاعدة ليناقض نفسه في رسالته لـ”أبوبصير ناصر الوحيشي، أمير القاعدة في اليمن- والتي كُتبت على ما يبدو بعد مدة من فراره من سجن الأمن المركزي بصنعاء عام 2006- حينما طالبه بتوسيع دائرة العمل على استهداف الأمريكيين داخل أراضيهم وألا تقتصر العمليات المستقبلية على تفجير الطائرات فقط، مردفًا أن عليه استغلال اليمنيين الحاصلين على الجنسية أو الإقامات الأمريكية في تلك الهجمات شريطة أن لا يكونوا أعطوا عهدًا على عدم الإضرار بالولايات المتحدة.

الذكرى العاشرة لمقتل أسامة بن لادن.. حكايات صادمة من وثائق "أبوت آباد"

أسامة بن لادن يناقض نفسه بخصوص شن الهجمات في أمريكا – وثائق أبوت آباد

إيران بين الصداقة السرية والعداء المعلن

على صعيد آخر، تُسلط مراسلات قيادات القاعدة الضوء على طبيعة علاقتهم الملتبسة مع الجمهورية الإيرانية، ففي العلن ينفي الطرفان وجود أي ارتباط بينهما، لكن في السر تحتضن طهران قيادات القاعدة وتوفر لهم الملاذات الآمنة منذ هجمات سبتمبر 2001.

ويبدو من إحدى الرسائل التي تضمنتها وثائق أبوت آباد والمؤرخة بـ17/ 12/ 2007، حرص “بن لادن” على نفي العلاقة مع إيران، عبر شن حملة دعائية للرد على القنوات الإخبارية العربية التي تحدثت عن الصلات بين القاعدة ونظام الملالي.

 بينما تؤكد رسالة أخرى بتاريخ 18/ 10/ 2007- كتبها على الأرجح محمد خليل الحكايمة مسؤول الدعاية الأسبق بالقاعدة– وجود علاقات قوية بين الطرفين، وتشير أيضًا إلى رفض قيادة القاعدة للتهديدات التي أطلقها قياديون بتنظيم دولة العراق الإسلامية (النسخة الأسبق لداعش) ضد مصالح طهران، معتبرةً أنه أمر خطير يهدد مصالحها لأن الأراضي الإيرانية هي الممر الرئيس بالنسبة لأفراد القاعدة وأمواله ومراسلاته.

وطلبت قيادة تنظيم القاعدة من المجموعة العراقية عدم فتح جبهة مع إيران وصرف الجهد لتثبيت دعائم وجودهم في بلاد الرافدين، مع التركيز على قتال الأمريكيين والفصائل السنية المتحالفة معهم، مشددةً على عدم إعلان العداء لإيران ليكون ذلك أجدى في التفاوض المستقبلي بينهما حال ساءت الأمور وانخرط التنظيم العراقي في مواجهات ضد طهران.

حرب الشائعات

وبعيدًا عن العلاقة مع إيران، ركز زعيم القاعدة على مراجعات جماعة الجهاد المصرية والتي خرجت تحت اسم: (وثيقة ترشيد العمل الجهادي) وتضمنت نقدًا لازعًا له ولرفيقه أيمن الظواهري، لكن اللافت في المراسلات حول تلك الأحداث، هي رسالة محمد خليل الحكايمة (الشهير بعبد الحكيم الأفغاني/ هارون/ أبوجهاد المصري) التي وجهها للقيادة التنظيم العليا.

ويذكر “الحكايمة” أنهم أشاعوا نبأ مقتل أحد أتباعهم المتهمين في إحدى قضايا تنظيم الجهاد، لإحداث ضجة إعلامية والتشويش على مبادرة المراجعات التي تبناها عدد كبير من أعضاء التنظيم داخل السجون.

الذكرى العاشرة لمقتل أسامة بن لادن.. حكايات صادمة من وثائق "أبوت آباد"

رسالة محمد خليل الحكايمة حول مراجعات جماعة الجهاد- وثائق أبوت آباد

عقاب الله المصبوب على رأس “القاعدة”

ورغم استمرار سلسلة الكذب والخديعة المتصلة، لم يخضع أسامة بن لادن أو تنظيمه لأي نقد ذاتي، إلا في مناسبات نادرة فالقيادة العليا تحب أن يُكال لها المديح لا أن تسمع النقد أو تقر بالخطأ حتى لا يستغله أعدائها، كما تذكر إحدى رسائل آدم يحيى غدن/ عزام الأمريكي المتحدث السابق باسم التنظيم، التي وجدت في مخبأ زعيم القاعدة.

حاول “الأمريكي” التحذير مما رأه “خللًا وظلمًا” في داخل القاعدة تسبب في حلول المصائب على رأسه وتحوله لكيان مأزوم، بيد أن أحاديثه عن العقاب الإلهي المصبوب على زعيم القاعدة ورفاقه بقيت طي الكتمان، ولم تحظ بالاهتمام الكافي، حتى بعد نشر دفعات من وثائق أبوت آباد، فيما استمرت القيادة التي خلفت “أسامة بن لادن” في نسج هالتها الجهادية عن طريق الخداع والتضليل.