على مدار أكثر من عام ونصف العام، تتواصل الحرب الروسية على أوكرانيا، والتي تشكل الحدث الأبرز على الساحة الدولية، فيما يرتكب الروس جرائم حرب عديدة في أوكرانيا تركت آثارها على كل شيء، الحجر والبشر… فبعد المذابح والدمار، يعيد اليوم المدنيون الأوكرانيون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي، ومهمّتنا اليوم بدأت في توثيق مآسي الحرب التي تمثّل أبرزها، بجروح عميقة وندوب دامغة ستبقى عالقة في ذهن كلّ مَن عايش تلك الحرب عن قرب.

حملنا معداتنا وانطلقنا إلى أماكن دخلها الروس وأعادت تحريرها القوات الأوكرانية، إلى إربين وبوتشا، المدينتين اللتين كانت من أكثر المناطق تأثراً وتضرراً جرّاء تلك الحرب. في كل خطوة هنا، كنّا نرى بوضوع أثر الدب الروسي، فالدمار كان يلفنا، لا شيء على حاله، لكن الأكثر ألماً هو حجم المعاناة التي يعيشها السكان في هاتين المنطقتين، وهم ينشدو الحاجة للسلام والعدالة.

الدخول إلى إربين

دخلنا إلى منطقة إربين (Irpin) الواقعة شمال غرب العاصمة كييف. لم يكن سهلاً مشاهدة كلّ ذلك الدمار، فكل شيء هنا يروي قصص القصف الروسي أوّلها تهجير الأوكرانيين من منازلهم التي أصبحت خالية حتى اليوم. ينظر الأوكرانيون بعين الحسرة إلى ممتلكاتهم، فلا شيء يصلح للعيش في تلك المنطقة بعد الآن، ويمكن القول إنّه رغم كل ما وثقناه بعدسة “أخبار الآن“، إلّا أنّ مشاهد الدمار تلك هي كمّ قليل ممّا يوجد على أرض الواقع.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

زوجان في مدينة إربين ينظران إلى منزلهما الذي دمّر جراء القصف الروسي – أخبار الآن

سكان إربين.. بين الخوف وإرادة الصمود

البعض من السكّان عادوا إلى منازلهم رغم الأضرار التي لحقت بها، يحاولون الاستمرار والتأقلم مع الظرف الصعب وإصلاح ما أمكن. لم يكن سهلاً بالنسبة لهم الحديث عمّا عاشوه خلال ذلك القصف المريب، والبعض لم يتمالك نفسه وكأنّه كان يستعيد تلك اللحظات المرعبة.

أحياناً كنّا نحارُ قليلاً من أين نبدأ لتوثيق كلّ تلك المشاهد في إيربين، فكلّ شيء من حولك سُوّي أرضاً، ونحن فعلياً كنّا كمَنْ يسير على الأنقاض. السكان المحليون هنا هم ناجون بكلّ ما للكلمة من معنى، وهم شهود عيان سجّلوا كل أقدم الروس على فعله في بلدهم ومنطقتهم. “أخبار الآن” تحدثت إلى بعضهم وقد شاركونا قصصهم التي يمتزج فيها الخوف بإرادة الصمود، فاليوم ورغم كلّ الصعاب، تراهم يعملون جاهدين على إعادة بناء حياتهم وسط ضبابية المشهد لديهم.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

فالنتينا فوروبيوفا تقف مع زوجها وابنتها في موقع منزلهما الذي دمّره القصف الروسي – أخبار الآن

أخبار الآن في بوتشا

كما في إيربين، كذلك في بوتشا (Bucha) التي انتقلنا إليها لتوثيق آثار الحرب والجرائم. فتلك المنطقة كانت تصدّرت الأخبار العالمية خصوصاً مع المجزرة الكبيرة التي ارتكبها الروس هناك بحقّ المدنيين، والتي مازالت قيد التحقيق الجنائي، وقد وصفت آنذاك بالإبادة الجماعية، كما تمّت مقارنتها بجرائم الحرب في سوريا.

فالنتينا فوروبيوفا، هي إحدى الناجيات من مجزرة بوتشا الفظيعة. فقد انقلبت حياتها رأساً على عقب. لقد خسرت العائلة منزلها جرّاء القصف الروسي العنيف. “كان مكاناً مليئاً بالذكريات والمشاعر” تقول بحسرة كبيرة. في حديثها لـ “أخبار الآن“، تحدّثت فالنتينا عن تجربتها المؤلمة فقالت: “كنّا نعيش هنا قبل الحرب، وكان لنا منزل نسكن فيه، خمسة أشخاص مع الأطفال والأحفاد. ثمّ بدأت الحرب على نطاق واسع في 24 فبراير وخسرنا كلّ شيء. لقد كان الوضع في غاية الصعوبة وكان مخيفاً جدّاً”.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

 

“احترق منزلنا بعد يومين من رحيلنا”

وتابعت: “عندما كنّا نهمّ بالمغادرة، كان المنزل مازال قائماً لكنّ نوافذه وأبوابه تضررت جرّاء انفجاراً حصل على مقربة منه. لقد غادرنا في التاسع من مارس، وعلمنا من الجيران أنّ منزلنا قد احترق بعد يومين من رحيلنا. نعيش اليوم في ظلّ ظروف صعبة، نتزوّد بالمياه من الجيران، فيما الحمام موجود في الشارع.. لكن في النهاية الأهم أنّنا بقينا على قيد الحياة، وحالياً في مسكن قدمته لنا الكنيسة والدولة الأوكرانية”.

وأضافت: “أكثر ما نريده الآن هو أن نعيد بناء المنزل لأنّ العيش في ظل تلك الظروف صعب للغاية، خصوصاً أنّ الأطفال اعتادوا على العيش بطريقة أخرى، أريدهم أن يشعروا بالراحة والسلام”.

فياشيسلاف وزوجته أولغا، هما من الناجيين من مجزرة بوتشا. كان الزوجان متواجدين في منزلهما خلال فترة الاحتلال الروسي وكان الجيش الروسي أمام منزلهما يقوم بتهديدهما بينما كان يسألهما عن الطريق التي تؤدّي إلى العاصمة كييف. لحظات رعب يرويها لنا فياشيسلاف وزوجته وكأنّها شريط فيديو يستعيدان تفاصيله أمام كاميرا “أخبار الآن“.

وقال: “في 24 فبراير، استيقظت من النوم وسمعت أصوات تحليق طوّافات في الجو ليلاً، ثمّ صباحاً حلّقوا على علو منخفض جداً واتجهوا نحو هوستوميل. بعد مرور 3 أو 4 دقائق سمعنا أصوات انفجارات. ثمّ وصلنا خبر مفاده أنّ مطار غوستوميل تعرض للقصف، هكذا بدأ الهجوم. لم نصدق ما حدث على الفور، ثمّ فقدنا الاتصال بالكامل. بعد مرور يوم أو اثنين، بدأت قوافل من الدبابات الأوكرانية تمرّ من هنا في ذلك الشارع وراحت ناقلات جند مصفّحات وآليات أخرى تجوب المنطقة ذهاباً وإياباً من دون انقطاع”.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

فياشيسلاف وزوجته أولغا يتحدثان إلى أخبار الآن في بوتشا – أخبار الآن

مجريات الحرب الأليمة بلسان أحد الناجين

وتابع: “عندما بدأ سكان البلدة يغادرون منازلهم أصبنا بالذعر. فكان البعض يهرب بالسيارة أو سيراً على الأقدام، لكنّني قلت في نفسي هذه أرضي ولن أتركها… بقيت أبواب منزلي ونوافذه سالمة من القصف، فبقينا فيه. وعندما بدأ الجنود الأوكرانيون بالحضور إلى بلدتنا عندا نحضر لهم الطعام. لكنّ الأسوأ بدأ في مارس، فقد كان هناك دبابة متوقّفة على مقربة منّا، وقد قاموا بتركيب منصّة قتالية وكان المنزل يهتز كلما كانت تطلق النيران منها. ثم بدا لنا أنه يستحيل علينا الخروج من المنزل وكرّت سُبحة الحرائق والقصف بالمدفعية والقنابل فتخلّعت النوافذ والأبواب. واحترق المنزل المجاور لنا”.

وأضاف: “لديّ باب مصفّح في منزلي فأخرجت رأسي منه وكنت أرى الانفجارات التي كانت تحصل بمحاذاتنا، لقد فقدت حاسة السمع في أذني اليسرى لدقائق. لقد شاهدت جثثاً لجنود قتلوا على مقربة منّا. بعد مرور بضعة أيّام، اقترب بعض الجنود الروس من منزلي، وكان الحديث معهم حاداً طالبين مني العودة إلى المنزل، وقد سألوني عن المسافة التي تفصلهم عن العاصمة كييف”.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

 

وتابع غوبين حديثه لـ “أخبار الآن“: “أصرّ الجندي الروسي على أن أدخل إلى المنزل، فقررت العدوة لأنّه لو أراد أن يقتل فسيقتل. ثمّ عادوا مجدداً وقالوا لنا ستقصف مدفعيتنا من هنا، وهنا أدركت أنّ الأمر يتّجه إلى الأسوأ، ومع بداية القصف، تخّلع باب منزلنا وتطاير”.

“بعد مرور نصف ساعة تقريباً سمعت مجدداً إطلاق نار مكثّف من بندقية رشاشة. فخرجت لأنظر ورأيت  الجنود يعبرون الغابة سيراً على الأقدام في صفوف منظمة وكان يحملون شارة بيضاء على يدهم. فقلت في نفسي: هل تدرك مع مَن كنت تتكلم؟ لقد كانوا روساً. في الليل لقد حدث تبادل لإطلاق النار كان قد امتدّ لنحو 3 ساعات، وبعد تكشف المشهد، كانت الجثث متناثرة على الأرض. أجهل تماماً كيف دافع شعبنا عن نفسه، وقد مات 159 شخصاً بمن فيهم طبيب وممرضتان، وقد أقمنا نصباً تذكارياً لهم في البلدة”.

“قتل زوجي أمامي”

فالنتينا بتروفنا، ناجية أخرى من مجزرة بوتشا… اصطحبتنا إليها جارتها أولغا بعدما أصرّت على توثيق قصتها ليعرف العالم أكثر عن جرائم الروس في البلدة. دخلنا إلى ذلك المنزل حيث بالكاد يدخل الضوء، وقد وجدنا أنّ أولغا التي تكبّدت خسارة كبيرة – قتل زوجها ودمر منزلها، إلّا أنها لم تفقد الأمل بغض النظر على الحزن العارم الذي تعيش فيه.

تروي لنا هذه السيدة كيف قتل زوجها أمامها، قائلةً: “لقد توفي زوجي بعدما أصيب بقذيفة هاون.. كنت في الغرفة بينما حصل الأمر وقد رأيته قتل بطريقة شنيعة للغاية ولا أنسى تلك الدقائق المروّعة.

بعد المذابح والدمار.. سكّان أوكرانيا يعيدون بناء حياتهم تحت تهديد القصف الروسي

أولغا تعيش حالياً حياة صعبة للغاية بعدما فقدت زوجها ودمّر منزلها

يوم “أخبار الآن” في إيربين وبوتشا لم ينتهِ كما بدأ إذ كانت مهمتنا توثيق حجم الأضرار التي خلفتها آلة الحرب الروسية، لكنّنا اكتشفنا أنّنا خرجنا من هنا ونحن نحمل الكثير من الألم جرّاء بقايا قصص ستبقى عالقة في أذهاننا إلى أمد طويل.

ربما كان من السهل توثيق ذلك الدمار الهائل، لكن في الحقيقة، فإنّ عمق الألم والحزن لدى هؤلاء السكان كان أكبر بكثير من حجم الأنقاض على الأرض. قد يتمّ ترميم كل ما دمر في فترة زمنية قصيرة، لكن السؤال كيف يمكن ترميم ما دمّر في نفس كلّ من هؤلاء السكان.

شاهدوا أيضاً: أخبار الآن على جبهة دونيتسك.. مشاهد حيّة لمواجهة حامية مع الروس