حجب التلغرام.. خطر يهدد بيانات العراقيين أم مصادرة للحريات؟

قبل فترة ليست بالطويلة وصلني أحد الروابط على تطبيق التلغرام، فدخلت عليه وكتبت أسمي لتظهر لي معلومات عن عائلتي وسكني وتاريخ ميلادي، فكررت الأمر مع أصدقاء أعرفهم وظهر لي أيضا بيانات عائلاتهم وحتى مقدار رواتبهم، هذا الأمر تكرر كثيرا خلال الفترة الماضية، فما بين تسريب أسئلة الامتحانات إلى تسريب بيانات البطاقة التموينية والناخبين وصل الأمر إلى تسريب معلومات المسؤولين والسجناء في السجون العراقية وكل ذلك والجهات المعنية تنفي هذه التسريبات.

ويوم الأحد الماضي، تفاجئ الكثيرون بقرار وزارة الاتصالات العراقية بحجب تطبيق التلغرام، بحجة أنه يشكل تهديدا على الأمن القومي وتعريض بيانات العراقيين إلى الخطر في ظل موجة التسريبات، إلا أن هذا القرار عاد بذاكرة العراقيين إلى قرارات الحكومات السابقة بحجب مواقع وتطبيقات مواقع التواصل الاجتماعي كل ما خرجت تظاهرة او احتجاجات ضد النظام السياسي سواء في البصرة أو حتى بالتظاهرات الشعبية التي اطلق عليها “تشرين” واستمرت لعدة أشهر نهاية عام 2019 ومطلع 2020.

تسريبات أعقبها تحذيرات

لنبدأ القصة منذ البداية.. قرار حجب التطبيق الذي كان مفاجئاً للمواطنين وعوام الشعب، بسبب عدم تنويه الوزارة له، سبقه تحذيرات من قبل السلطات العراقية إلى منصة تلغرام، فجميع التسريبات تأتي منه أولا بأول، منذ تسريب أسئلة الامتحانات العامة الذي عطل الامتحانات وسبب الإرباك للطلبة وترتب عليه قرارات حكومية بإعفاء مسؤولين في وزارة التربية واعتقال آخرين إلى تسريب بيانات البطاقة التموينية ومفوضية الانتخابات عبر ما يسمى بـ”البوتات” حتى تطور الأمر ووصل إلى تسريب أسماء كبار موظفي الدولة ومنتسبي الأجهزة الأمنية مثل جهازي مكافحة الإرهاب والأمن الوطني والاستخبارات والسجناء وعناصر تنظيم داعش في السجون العراقية وأسماء منظمات المجتمع المدني.

فاليوم بإمكان أي شخص إرسال اسم ثلاثي ومكان ولادته وسترد بوتات التلغرام بالبيانات كافة من القيد العائلي إلى عنوان السكن ومقدار الراتب وغيرها، لتتحول فيما بعد إلى تجارة تقوم على إرسال بطاقات شحن الجوال مقابل المعلومات وهو ما ينذر بتبعات أمنية واجتماعية وحتى سياسية على المجتمع في بلد مزقته الحروب والصراعات السياسية، فهذه المعلومات من الممكن ان تمكن التنظيمات الإرهابية والمتطرفة بالوصول إلى الضباط وأفراد الأمن، بالإضافة إلى استخدامها في عمليات الثار والاغتيالات العشائرية التي تتسع دائرتها في مناطق جنوبي العراق اليوم وهو ما قد يتسبب بحدوث اضطرابات أمنية واجتماعية وحتى اقتصادية حال تسريب بيانات رجال الأعمال والشركات العاملة في العراق.

بعض الوزارات العراقية التي لم تحافظ على بيانات العراقيين سواء في البطاقة التموينية التي يصل عدد المشمولين فيها إلى أكثر من 40 مليون نسمة أم في البطاقات الانتخابية وجدت نفسها بحرج كبير والحرج الأكبر كان أيضا بتسريب وثائق وبرقيات سرية صادرة من دوائر القرار ومنها يحمل معلومات استخباراتية عن خطط جماعات إرهابية وأخرى خارجة عن القانون، فالبرقيات السرية تنتشر بسرعة البرق وكتب العقوبات والتعيينات تصل عبر تطبيق التلغرام قبل وصولها إلى الدوائر المعنية، فإذا ماذا تبقى من سرية تلك الكتب.

هذه التسريبات كانت جزءا من الأسباب التي سوقتها الحكومة لحجب التطبيق الروسي، فهي تحدثت عن مخاطبات لشركة تلغرام لغلق البوتات والقنوات التي تسرب البيانات وحذرتها من حجب التطبيق، إلا أن الشركة لم تستجب لمطالبات الحكومة العراقية المتكررة.

حجب تلغرام في العراق.. التسريبات تصادر الحريات

غضب شعبي ومنظمات تعتبره مصادرة للحرية

الأسباب الحكومية أعلاه لم ترقٍ إلى فئة كبيرة من أبناء الشعب الذين عبروا عن غضبهم وتخوفوا من إثر هذه الخطوة على الحريات العامة التي كفلها الدستور بموجب المادة 38 منه والتي تنص على حرية التعبير عن الرأي بكل الوسائل وحرية الصحافة والطباعة والإعلان والإعلام والنشر، والبعض الآخر سخر من القرار في ظل وجود برامج كثيرة لفك الحجب ودعا إلى حفظ بيانات المواطنين بدلا عن الحجب، فالأول واجب والثاني خيار، كما أن المنظمات المدنية والمدافعة عن الحريات الصحفية اعتبرت أن القرار يندرج ضمن سياسة تكميم الافواه ومصادرة الحريات، خاصة أن التطبيق يحظى بشعبية كبيرة في العراق وهناك منصات لتبادل الآراء والأخبار وقنوات أخرى معارضة للحكومة تنقل الأحداث والأخبار التي لا تنقلها وسائل الإعلام العراقية المعروفة دائما بتبعيتها لجهات سياسية وتمول من قبل الأحزاب، فضلا عن استخدامه بصورة واسعة خلال فترات الاحتجاجات والتظاهرات، لسهولة تحميل المواد الإعلامية وإمكانية انضمام جمهور واسع للقنوات عليه وأيضا لعدم وضع قيود على نشر الصور ومقاطع الفيديو كباقي المواقع والمنصات الأخرى التابعة لشركة ميتا سواء فيسبوك وانستغرام.

ولم تقتصر معارضة المنظمات على الحجب، بل وصلت إلى استخدام المفردات في بيان الوزارة، خاصة فيما يتعلق بالأمن القومي وهذه العبارات التي عدتها تذكير بسنوات الدكتاتورية التي عاشها العراق وانها بداية للتضيق أكثر على الحريات المدنية وحجب مواقع وتطبيقات أخرى يتخذها أفراد الشعب للتعبير عن الآراء والافكار، بحجة أنها تنشر بيانات فشلت الحكومة في المحافظة عليها وكتب سرية تخرج من دوائر حكومية من المفترض ان تكون مسؤوليتها المحافظة على أسرار وبيانات العراقيين والكتب الرسمية.

منصة لتصفية حسابات سياسية

التطبيق الذي يستخدمه نحو 10 ملايين في العراق بحسب إحصائية غير رسمية له عدة استخدامات وكان قبل فترة قصيرة منصة لتبادل الاتهامات وتصفية الحسابات بين الجهات السياسية التي تصارعت على تشكيل الحكومة، فالإطار التنسيقي الذي شكل الحكومة له قنوات داعمة له وهي تابعة للفصائل المسلحة مثل صابرين نيوز وتوثية الشيعة وامة الحشد وحناطة وغيرها وهذه كانت الأداة الإعلامية التي تعبر عن توجهات الإطار والفصائل المسلحة، أما القنوات المجابهة مثل “واحد بغداد” و”واحد نجف” تابعة للتيار الصدري الذي استقال نوابه من البرلمان وترك تشكيل الحكومة رغم حصوله على المرتبة الأولى بالانتخابات الماضية وكان التلغرام وسيلة لتبادل الاتهامات والحرب الإعلامية ونشر الفضائح عن الأحزاب المنافسة وأماكن تواجد مسؤولي الطرف الآخر، وبعد تشكيل الحكومة الإطار لديه قنوات تدافع عنه وعن الحكومة والتيار لديه قنوات تنتقد الحكومة على ابسط القرارات مع الأخذ بنظر الاعتبار أن القنوات التابعة للإطار والفصائل بدأت في الآونة الأخيرة بانتقاد لقاءات الوزراء والرئاسات بالسفراء المعتمدين في العراق بينهم السفيرة الأمريكية وبالتالي هناك تغيير في سياستها الداعمة للحكومة.

حجب تلغرام في العراق.. التسريبات تصادر الحريات
المستفيدون قلة والمتضررون كثر

كحال أي قرار، فان هناك مستفيد ومتضرر منه، وإذا نظرنا إلى قائمة المستفيدين نجد أن طرفا وأحدا هو المستفيد والحديث عن السلطات العراقية، لعدة اعتبارات منها أجبار التطبيق على حذف قنوات هي لا تريدها والحديث هنا عن قنوات تسرب البيانات وأيضا أخرى تابعة لجهات معارضة مثل التيار الصدري.

أما قائمة المتضررين تشمل الكثير من الجهات أولها قنوات الفصائل المسلحة وقنوات التيار الصدري التي اتفقت أخيرا على شيء واحد وهو رفض الخطوة الحكومية بالحجب وعدته استهدافا لها وأطلقت حملة كبرى ضد المسؤولين في وزارة الاتصالات وهيئة الإعلام والاتصالات، بعد حجب التطبيق وباشرت بتسريب كتب رسمية وقرارات تعيين المسؤولين والأقرباء بدوائر الوزارة والهيئة وهذا يعني أن الحجب لم يحقق هدفه الأول بمنع التسريبات، لأن نظرة سريعة للقنوات التابعة للفصائل يمكن الاطلاع على حجم التسريبات الذي حصل بعد الحجب، بالإضافة إلى ان هذه القنوات تحولت من مؤيدة للحكومة إلى معارضة لها وتكيل الاتهامات لها بان القرار جاء من الولايات المتحدة الأمريكية بحجب التطبيق الروسي.

غير أن المتضرر الأكبر من هذا الحجب هو أفراد الشعب، خاصة وأن خدمة الانترنت في العراق ليست بتلك الجودة التي تسمح لكل الأفراد بتحميل برامج فك الحجب مثل “سايفون” و”vpn” التي تقلل من جودة الانترنت لفتح التطبيق والحديث هنا عن الفئات التي تستخدم التطبيق بصورة كبيرة لغرض الاستفادة وهي الشركات والمعاهد المؤسسات التعليمية والتربوية والمنصات التعليمية والباحثين عن المصادر لدراساتهم والدارسين خارج العراق، فعند تفشي وباء كورونا تحول التطبيق إلى منصة للتعليم ويعتمد عليه من قبل الملاكات التدريسية في تحميل المحاضرات والتوجيهات والواجبات للطلبة، كما أنه يضم مئات المكتبات التي توفر المصادر للدارسين على اعتبار ان حجم الملفات التي ترسل عبره لا توفرها التطبيقات الأخرى، كما يستخدم في المراسلة والاتصالات وإرسال الصور بجودة عالية وهو ما اثار موجة غضب شعبية تجاه حجب التطبيق.

تساؤلات أخيرة؟

ومع الأصوات المعارضة لحجب التطبيق، يواصل العراقيون استخدامه عبر تنزيل تطبيقات فك الحجب مثل “vpn” و”سايفون” وغيرها وفي الختام نطرح عدة تساؤلات الأول هو ما فائدة الحجب في بلد لدى سكانه خبرة بفك الحجب اكتسبوها خلال فترة التظاهرات عندما حجبت الحكومات السابقة مواقع التواصل الاجتماعي والثاني هل سيتم حجب مواقع أخرى والثالث هو لماذا مازالت الوزارات والجهات الحكومية تستخدم التطبيق بعد حجبه على المواطنين؟